ما يخفيه المؤرخ يظهره الأديب 1 أقيمت في الجزائر، بين 26 و 29 شتنبر ندوة دولية حول محور "الأدب والتاريخ". وقد استضافت الندوة خيمة بيضاء أقيمت في ساحة كبيرة بأحد فنادق العاصمة الجزائرية. وقد وجه" المركز الوطني للبحوث في عصور ما قبل التاريخ وعلم الإنسان" الدعوة للمشاركة في الندوة إلى عدد من الباحثين والأدباء والنقاد والمؤرخين. كل هذا من أجل تشريح علاقة عمل الأديب بعمل المؤرخ. وإذا كانت هذه العلاقة تتجسد مغربيا في إدريس الشرايبي وعبد الله العروي، الذي ذكر اسمه في الندوة أكثر من مرة، وأحمد التوفيق على سبيل المثال لا الحصر، فإنها، هذه العلاقة الوشيجة، تتجسد في الأدب الجزائري بشكل أعمق في أعمال كاتب ياسين ومولود معمري وومولود فرعون والطاهر وطار عبد الحميد بنهدوقة ورشيد بوجدرة، الذي ألقى محاضرة الافتتاح، وواسيني الأعرج و فرانز فانون، الذي أصبح "المركز الوطني يضيئه بأضواء جديدة من خلال ندوات ولقاءات علمية تكرس له، تحت سهر مباشر للدكتور سليمان حاشي الذي كرس جهدا خاصا، وهيأ طاقما كفؤا لإبراز العلاقة الجديدة بين المؤرخ و الأديب. وهنا لا يمكن الحديث في الموضوع دون الوقوف عند تجربة واسيني الأعرج، الذي يكتب تاريخ اليوم تاريخ الجزائر من جديد. ولعل روايته" الأمير" المكرسة كليا للأمير عبد القادر الجزائري. وقد قام واسيني فعلا بعمل الأديب المؤرخ، أو المؤرخ الأديب. وهو ما يوافقه عليه المؤرخون الجزائريون الذين ثمنوا علمله، خصوصا المؤرخ فؤاد صوفي الذي أكد أن واسيني قام بعمل روائي ينسجم مع الروحين: روح المؤرخ وروح الأديب. لكنه مثلا أبدى عدة ملاحظات عن عهن رشيد بوجدرة الذي أخطأ في سنوات بعض الأحداث التاريخية، وفي بعض الرتب العسكرية للعديد من الشخصيات الجزائرية والفرنسية. مرفقا ملاحظاته بسخرية مبطنة من قبيل مثلا أن الجندي الفرنسي عليه أن يرتكب مجموعة من الجرائم في حق الجزائريين حتى يرقى إلى رتبة جنرال، بل إن عليه ارتكاب تلك الجرائم في فرنسا قبل الجزائر. 2 كان للمترجمين أيضا دورهم وأثرهم في التظاهرة الجزائرية. أول المترجمين الشاعر العراقي سعدي يوسف. لكن سعدي كان غاضبا هذه المرة من الغرب ومن أمريكا خصوصا. وعندما سئل عن عمل يترجمه حاليا، أجاب بأنه كف عن ترجمة أعمال كتاب غربيين ما دام الغرب الآن يمارس حرب إبادة على العرب. ويستشهد بسوريا والعراق. لقد اختفى سعدي مترجم يانيس ريتسوس و ووالت ويتمان و سارة ماغواير. وعند حديثه عن سوريا قاطعه الشاعر والجامعي التونسي محمد الغزي: هل سمعت أخبار اليوم يا سعدي؟ لقد دمروا سوق حلب الكبير (طوله تسع كلمترات). أي خسارة بعد هذه. أما الجامعي والمترجم التونسي عبد الرحمان أيوب (صاحب الترجمة الدقيقة لكتاب جيرار جينيت " مدخل لجامع النص، توبقال 1985) ابستثناء تذكره لأوقات أمضاها في الجزائر، فقد كان يكشف طوال الوقت عن اللعب الأمريكي بالدول العربية. لكنه مع ذلك بقيت تشع منه روح الأديب، فقد كان يستشهد بسوفوكل و زوربا، ويحكي عن قصته التي كتبها في الجزائر وتتحدث عن القطة التي كانت تنظر إلى سمكة ميتة دون أن تأكلها. لقد أراد أن يقول إننا سمك ميت تأكله القطط الغربية والأمريكية. هنا نصل إلى الشاعر والمترجم خالد النجار، الذي كسرت الشرطة التونسية يده، فهاجر تونس إلى هولندا (الشرطة السورية كسرت أيضا يد الكاتب السوري خالد خليفة). لم يترك خالد الفرصة تمر دون إسداء النصيحة للمغاربة: حافظوا على وحدتكم و استقراركم. ولا تصدقوا مكر التاريخ. هكذا يكون الأدباء والكتاب والمترجمون والمؤرخون: أصحاب حكمة، لكن من ينصت إليهم. نجحت الكاتبة أيما نجاح في هذه الخطة التي تملك أسرارها، فضمنت بيع مليون نسخة من الرواية التي تخوض فيها رهاناً صعباً، مواجهةً قراء تجهل ذائقتهم وثقافتهم وتخشى ردّ فعلهم، بخاصة إذا كان سلباً، على خلاف قرائها السابقين الذين كانت تعرف جيداً كيف تغريهم وتسلّيهم وتفتنهم بحكاياتها السحرية والغرائبية... وقبل أشهُر من صدور الرواية، راحت المكتبات تتلقى ما يسمّى »حجوزات« من خلال الشبكات الالكترونية وفي مقدّمها شبكة »أمازون« التي استنفرت فرسانها اللامرئيين والمنتشرين في العالم. إنها صناعة »التسويق«، أو »فن الماركيتنغ« كما يحلو لبعضهم أن يقول، لكنّ السلعة هنا هي الكتاب وليست »منتجاً« آخر من منتجات الصناعة الاستهلاكية (أغذية، مستحضرات تجميل، أحذية، ألبسة...) التي لا يمكن تسويقها إلا عبر »فن الماركيتنغ«. ليس المهمّ أن تكون السلعة جيدة تماماً، وأن تتوافر فيها أسباب نجاحها، المهمّ أن تصل الى المستهلك وترضيه وتلبّي حاجته سريعاً. المستهلك لا يهمّه من السلعة إلا أن تكون قابلة للاستهلاك، الاستهلاك فقط... ولعلّ قراء ج. ك رولينغ ليسوا سوى مستهلكين للكتب، كتب ال »بست سيلر« التي تسلّيهم وتقتل ضجرهم لا سيّما في القطارات أو الطائرات... هؤلاء يليق بهم أن يسمَّوْا مستهلكي كتب. هؤلاء ليسوا قراء في المعنى الأصلي -لئلا أقول الحقيقي? للقراءة. هؤلاء لا يضيرهم، عندما ينتهون من الكتاب الذين بين أيديهم، أن يرموه، أن يتركوه على المقعد، أن يهدوه لأحد ما. لقد استهلكوه، وما عادوا في حاجة اليه، وربما عليهم التخلّص منه. صدرت رواية رولينغ في لغات عدة وبلدان عدة في آن واحد. لم تكن الرواية تحتاج الى وقت كي تُنجز ترجمتها. والدور العالمية »استولت« باكراً على حقوق ترجمتها ونشرها في مزاد معلن -يا للعجب-، فالكاتبة »الهاريبوترية« تثير شهية الناشرين في العالم أجمع، ما خلا العالم العربي الذي لم تُترجم فيه رواياتها السابقة، بل تمّ اقتباسها، (في القاهرة خصوصاً)، ربّما لعجز اللغة العربية عن استيعاب معجمها الفانتاستيكي. ومعظم المراهقين العرب الذين قرأوها، فإنما باللغات الاجنبية. وعشية صدور الرواية الجديدة وصفتها مجلة »بوك سيلر« البريطانية ب »أضخم إصدارات القرن الحادي والعشرين« عقب المليون نسخة التي بيعت منها قبل صدورها. إلا أنّ صحيفة »الغارديان« التي كانت سبّاقة -على الارجح - في قراءتها نقدياً، لم تبدُ متحمسة تماماً لها، فهي لم تعدّها تحفة أو عملاً مميزاً، لكنها لم تنكر البراعة التي اعتمدتها صاحبتها في بنائها ولا طابعها المسلي والفكه احياناً على رغم جوّها المحتقن. ورأت أنها لا تستحقّ هذه »الهستيريا« الاعلامية التي أحاطت بها. إلا أنّ ج. ك. رولينغ ليست لتبالي بما قد يوجّه اليها من نقد، كما عبّرت في احد حواراتها الاخيرة، ولم تنثنِ عن التباهي بنفسها قائلة: »إنني الكاتبة الاكثر حرية في العالم. إنني أستطيع أن افعل ما أريد«. لعلها أدركت في السر أنّ هذه الرواية لن تتيح لها فرصة الدخول في المعترك الروائي العالمي، ولن تسمح لها في أن تكون في عداد الروائيين العالميين الكبار، وهي في التالي ستظلّ اسيرة ادب الفتيان ولن تتخطى حدوده. ج. ك. رولينغ هي الآن من أثرى الكتّاب في العالم إن لم تكن أثراهم، ولعلها هكذا فهمت الحرية التي تحدثت عنها والتي لم يتمتع بها كاتب مثلما تتمتع هي بها. وهي قصدت حتماً، الحرية التي يتيحها المال، المال وحده، وليس الكتابة، التي -وفق الرأي السديد- وحدها القادرة على تأمين الحرية. إذا أصبحت الحرية في نظر الكاتب خارج الكتابة، فهل يظل في حاجة الى أن يكتب؟