لمْ تكنْ هذه الأوامرُ والتعليماتُ لتقلق عائشةَ، بلْ بالعكْس، فكلّما كان الرسول برفقتها، كان الصّخب والدخول والخروج. فقد كان الصحابة والمسلمون، وكلّ من هبّ ودبّ، يدخلون ويخرجون على هواهُم، فقط من أجْل تبادُل بعض الكلمات مع الرسول، أوْ طلب توضيح بخصوص مسألة دينيّة معيّنة. وقد حدث مرارا أنْ اندسّ هؤلاء بيْن الرسول وعائشة، ومدّوا أيْديهم إلى طعام الغذاء أو العشاء، دون مراعاة لها هي كزوْجة بحيْثُ يدْفعونها بمناكبهم دونَ حرج. ورغْم انزعاج الرسول من هذا التطفّل، فإنه لم يكن يجرؤ على طردهمْ. وقد كانتْ هذه المناسبة مواتية لكيْ تحصل زوجاته على صفة «أمهات المؤمنين»، وعلى الحقّ في الاحترام: «يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَّعْرُوفًا، وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ، وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى، وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ، وَآتِينَ الزَّكَاةَ، وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا» (سورة الأحزاب، الآيتان 32 33). لمْ تعد لهنّ الحرية في الخروج من بيوتهنّ، كما كان الأمر من قبلُ. وللقيام بذلك، يتعيّن عليهنّ أنْ يكنّ مصاحَبات، ويغطّين صدورهنّ ووجوههنّ بغلالة حتى لا يُعاملن بفظاظة أو تودّد. وعندما يرخي الليل سدوله، وتكون إحدى نساء الحريم مضطرّة إلى الخروج لقضاء حاجتها، فإنّ الشباب الوقح الباحث عن جارية أو امرأة للمتعة، يميّزها عنْ غيرها1. وقد خضعتْ باقي زوجات الرسول الأخريات لهذه التعاليم التي تفرض على الناس احترامهنّ وتقديرهنّ. لكنْ بقيت لهنّ حرية استقبال أفراد عائلتهنّ: الآباء والإخوة والأعمام وأبناء الأعمام مصحوبين بنسائهم وأطفالهم، والاستمتاع بالقرب منهم بعيدا عن الزوار الغرباء. وبعد مناقشة الجوانب السلبية والإيجابية لهذا الإجراء، اتّفقْن على أنه في صالحهنّ، لأنّ الله ميّزهنّ عن باقي النساء2. الحجابُ ليس سجْنا، كما سيقول البعض. وكان محمّد سعيدا بملاحظة وجود اتفاق بين زوجاته اللواتي تفاهمْن للمرّة الأولى على الأقلّ. جلس الرسول بينهنّ في الوسط، يضحك مع هذه، ويمزَح مع تلك، ويمدح جمالهنّ ولطفهنّ. ووعدهنّ باحترامه الصارم والدقيق لنظام تخصيص ليلة لكلّ واحدة منهنّ. وأضاف مدقّقا: - سوف تتلقى كل واحدة كلّ شهر نفس القدْر من المال والمؤونة، وسوف ترافقني منكنّ في رحلاتي بحسب ما تفرزه القرعة. بعد سماع كلام الرسول، عبّرت الزوجات عن فرحهنّ بهذا الاقتراح الأخير. فالسفر خارج المدينة، والانفراد بالزّوْج المحبوب، بعيدا عن المنافسات اللواتي تحبسهنّ القرعة، شيء لا يخطُر على بال. بعد ذلك، التحقتْ كلّ واحدة بغرفتها وهي تحْلم بأفق آخر مع الرسول، وتتضرّع إلى السماء أن تكون الرحلة القادمة معه من نصيبها. وبينما أغلق الرسول على نفسه مع أمّ سلمة، كانتْ عائشة مستلقية على سريرها وهي تتخيّل سواحل البحر المتلألئة، المزيّنة بأصداف دقيقة تدوس عليْها بقدميْها وهي ممسكة بيد زوجها المحبوب. ذات صباح من شهر يونيو 627 ميلادية، صرختْ عائشة من شدة الفرَح لكوْن القرعة كانت من نصيبها وخرج سهْمها لكيْ ترافق الرسول خلال خرْجته القادمة التي سيحدّد وجْهتها. نظرت إليْها الأخريات بنوع من الغيرة وهي تجمع حاجياتها من الملابس والزينة، بما فيها عقْد كان أهداه لها زوجها، وهو العقْد الذي سيحدث زوبعة وتحوّلا في حياتها. كانت عيون محمّد التي تأتي بالأخبار من خارج المدينة عن القبائل العربية، حتى لا يفاجئهم أحد بحرب أو خيانة، قد أبلغته أن زعيم بني المصطلق -وهم من اليهود- يجهّز قومه للهجوم على المدينة. ولمّا تأكد من هذه الأنباء، جهّز جيشه، واتجه نحو الجنوب الغربي، غير بعيد عن الساحل وعن مكّة، وغزا بني المصطلق على حين غرّة، واتخذهم أسارى وسبايا. فيما ظلّتْ عائشة داخل خبائها تتابع ما يجري في الخارج، وتتأمل الخطوط الصافية للهضاب القرْمزيّة تحت زرقة السّماء، وهي تداعبُ حبّات عقْدها حول جيدها. الحمدُ لله، ما يزال في مكانه. ذلك أنها قبل يوميْن، كان العقد قد انْقَطَعَ لها وسقط بيْن الرمال، فصرختْ وتوقّفتْ القافلة للبحث عنه، فَأَقَامَ النَّاسُ مَعَها يبحثون وَلَيْس معهم مَاء للوضوء، فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَقَالُوا: - أَلا تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ ؟! بقينا نبحث عن العقْد وَلَيْس معنا مَاء. فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ ووبّخ ابنته على ذلك. واشتكى الجميع ما فعلته عائشة إلى الرسول، وبعد هذا الإحراج الذي سبّبته له عائشة، جاء جبريل لإنقاذ الوضعية بآية قرآنية تقول: - «...فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا» (سورة النساء، الآية 43). وسرعان ما انحنى الرسول، على الأرض، وتناول حفْنة رمل وشرع في التيمّم، وتبعه الجميع في ذلك وهم يصرُخون: - مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ ? وحين أقاموا ناقتها، عثروا على العقد تحتها. شعُرت عائشة في قرارة نفسها بنوْع من العزاء والانفراج. وشكرت الله مرّتيْن، مرّة لكونها وجدت عقْدها، ومرة ثانية لكوْنها كانتْ سببا في حلّ مشكل التوضّؤ بالماء النادر في بيئة صحراوية. غدا: حديث الإفك: عائشة زنتْ، عائشة بريئة هوامش: 1 عن عائشة : أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع وهو صعيد أفيح وكان عمر يقول للنبي : أحجب نسائك. فلم يكن الرسول يفعل ، فخرجت سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي عشاء وكانت امرأة طويلة فناداها عمر : ألا قد عرفناك يا سودة ، حرصا منه على أن ينزل الحجاب فأنزل الله الحجاب.( رواه البخاري ومسلم ). (المترجم). 2 الحجاب - بمعناه الأصلي كما بينا - لم يفرض على غير نساء النبي صلى الله عليه وسلم من ناحية ، وأن عامة الصحابيات لم يحتجبن ولو من قبيل الاقتداء حيث فقهن خصوصية الحجاب بنساء النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لا مجال للاقتداء بهن رضي الله عنهن في أمر خُصصن به.