عندما نتحدث عن الصناديق السوداء فإن ذاكرتنا تذهب مباشرة إلى حوادث الطيران الكارثية، لكن الحمد لله أن تلفزيوننا لم يصل بعد إلى مرحلة السقوط الكارثي مادام يوجد في الطائرة ربابنة قادرون على إنزال آمن للسادة المشاهدين، لكن من يمتلك الصندوق الأسود للتلفزة المغربية؟ في فترة سابقة شاءت الصدف أن أعمل رفقة طاقم صحفي لمجلة «كنال اوجردوي» لصاحبها الإعلامي والمنتج أحمد بوعروة، وكنت مكلفا بإجراء حوارات لصالح المجلة فالتقيت بوجوه فنية من عالم التلفزيون لها وزنها وتاريخها وعطاؤها الكبير وبعض هاته الوجوه كان مازال يشق طريقه لأول مرة. مازلت أذكر لقائي بمحمد الجم الرجل الأنيق الذي يخفي وراء مسحته الكوميدية كائنا مثقفا وخلوقا، ومحمد الخياري الذي فاجأني بهدوئه وأجوبته الذكية الممزوجة بروح الدعابة التي لا علاقة بينها وبين ما نراه في السيت كومات، وأذكر الفنان الكبير حمادي عمور الذي تشعر بأنك أمام تاريخ فني عريق، ثم أثناء سفري إلى مولاي بوسلهام لتغطية فعاليات تصوير مسلسل «شجر الزاوية» صادفت هرما آخر وهو عزيز موهوب الذي تكتشف للحظة أنك أمام إنسان كلما ازداد عطاء ازداد تواضعا، والفنان محمد بسطاوي بشاربه الكث الذي يوحي لك بأنك أمام ملامح فنية نادرة، ثم اكتشفت رومانسية ورقة الفنانة نورا الصقالي وكبرياء ربيع القاطي الذي كان في بداية طريقه رفقة ماجدة زبيطة. وأثناء تحركي ببلاطو التصوير بإذاعة عين الشق التقيت بالراحل عزيز العلوي هذا الفنان الذي كان يمتلك نموذجا كوميديا من طراز الفنانين الكبار كتشارلي تشابلن وإسماعيل ياسين حيث كانت له القدرة الكبيرة على توظيف إمكانياته الجسدية والانفعالية لإدخال المرح إلى قلوب المشاهدين. التقيت كذلك بالممثلة سناء عكرود بقامتها القصيرة وعقلها المتيقظ، وعند انتقالي إلى استوديو الفاسي الفهري على طريق الجديدة لتتبع مراحل تصوير «الربيب» في جزئه الثاني أجريت دردشات مع الممثل الشاب محمد عزام، فاتن اليوسفي والفنانة الكبيرة نعيمة الياس وبعض التقنيين، وفي خضم بلاطو تصوير سلسلة «من دار لدار» التقيت بالفنانة ماجدة بنكيران وبوشرى أهريش، وجوه أخرى أتيحت لي الفرصة لرؤيتها عن قرب دون أن أخوض معها في حوار كالكوميدي الكبير مصطفى الداسوكين، لكن كلما اقتربت أكثر من كل رموز الفن المغربي إلا واكتشفت أن وراء هاته الوجوه البشوشة تقبع العلبة السوداء للتلفزة المغربية، فهم الأعرف بواقع الحال، يعرفون السماسرة الذين يظهرون لكي يختفوا، يعرفون الشروط المجحفة التي يشتغلون في خضمها، يعرفون من يأكل الكتف لكي يترك لهم العظام، الفنان المغربي من خلال ممارسته واحتكاكه المباشر يدرك الأسباب الحقيقية لطغيان السيتكومات التافهة ويدرك بكل التفاصيل دوافع الأوضاع المزرية التي تقود الكثير من الفنانيين إلى طلب الرعاية الملكية لوضع صحي طارئ، ويعرفون كذلك الأسباب التي جعلت بطاقة الفنان مجرد ورقة تافهة لا تسمن ولا تغني من جوع ويعرفون لماذا يتم اختيار وجوه نسائية لا علاقة لها بالفن، إنه صندوق العجب الذي وإن كتب له أن يفتح لفاحت منه روائح لا تسر الأنوف إن أول جواب تنتظره عندما تسأل فنانا عن أحواله الفنية هو: بخير والحمد لله وحنا كنصور في ظروف جيدة والماكلة في المستوى والمنتج الله يعمرها دار، لكن ماتكاد الصحافة تفاجئنا بين الفينة والأخرى على دخول فنان الى المستشفى وعجزه على أداء مصاريف السكانير والراديو أو تقرأ عن فنان «كالوه في حقو» أوآخر «دارو ليه الصابونة في الكاستينغ» أو «ما باقي ماخدا حتى ريال»، إن وراء البشاشة ألم يعصر القلب والعفة تمنع الكثيرين من التصريح بأحوالهم كما أنهم يخافون أن تغلق شركات الانتاج أبوابها في وجوههم فيعودون للجلوس في منازلهم في انتظار الجملة التي تسعدهم: «سيلاونس اكسيون». إن جزءا كبيرا من أسرار الفن المغربي هي في صدور الفنانين المغاربة ولكشف هاته الأسرار يجب حماية الفنان ليتكلم ويقول ما في جعبته لأن خبز الفن «صعيب وصعيب بزاف».