هب المفكر المغربي البارز «عبد الله العروي» في مقابلة اخيرة معه (1) ان «المغرب الموحد الذي نحلم به ليس سوى وهم بعيد،لأنه فكرة نشأت لدى نخبة صغيرة ،ولا تعبر عن أي حقيقة سوسيولوجية». الرجل الذي أطلق هذه العبارة هو المؤرخ المرموق الذي كتب احد أهم الكتب حول تاريخ المغرب العربي من منظور دافع فيه عن وحدة المنطقة (2)،كما انه من جيل الحركة الوطنية المغربية الذي اعتبر مشروع وحدة المغرب العربي المحطة المكملة لاستقلال بلدان المنطقة وتحررها. فما الذي غير موقف العروي وأوصله إلى هذه الدرجة من الإحباط والياس ، شانه شان غيره من جيل الحركة الوطنية الذي قضى نحبه أو شاخ وهو يرى حلمه يتعثر وتتقلص آفاقه؟ لقد كان انطلاق اتحاد المغرب العربي في مراكش سنة 1989(بعد محاولات عديدة لبناء كتلة مغربية موحدة منذ مؤتمر طنجة سنة 1958 ) ميلاد أمل جارف لدى مواطني البلدان الخمسة (المغرب وتونس وموريتانيا والجزائر وليبيا)في إمكانية بناء نظام إقليمي قائم على الاندماج الاقتصادي والحد الأدنى من التنسيق السياسي ،على الرغم من الخلافات المعروفة بين الأنظمة من حيث طبيعة التركيبة السياسية والخيارات التنموية والعلاقات الخارجية. وقد بدا أوانها ان صيغة الاتحاد التي توصل إليها الزعماء المغاربة في عاصمة المرابطين والموحدين قابلة للتفعيل ،لما تتسم به من مرونة ،وما تكتسيه من طابع استعجالي ،في ظرف تكرست فيه عمليا الوحدة الأوروبية وبالتالي انغلقت الحدود أمام العمالة المغربية وأمام السلع شمال افريقيا،كما بدأت مختلف مناطق النظام العربي تشهد قيام تجمعات إقليمية مماثلة (مجلس التعاون الخليجي ،مجلس التعاون العربي...) اعتبرت أوانها الخطوة المطلوبة نحو تحقيق الوحدة العربية الشاملة. ولذا اعتبر الرأي العام المغاربي مطلب الاندماج بين أقطار المنطقة هدفا استراتيجيا واقتصاديا حيويا ،لا يجوز التقاعس عنه ،ولا التهوين من شانه.وهكذا تعددت في الفترة المذكورة اجتماعات الخبراء ومسؤولي الإدارات الحكومية ،ووقعت عشرات الاتفاقيات في مختلف المجالات ،وأقيمت الهيئات التنفيذية ،وعلى رأسها الأمانة العامة (في الرباط) والمؤسسات الاندماجية المتخصصة الأخرى. بيد ان عوامل عديدة قد تضافرت لكبح حركية المشروع المغاربي قبل ان تحكم عليه بالتوقف،ولعل أبرزها ما يلي: 1. تجدد الأزمة الصحراوية بعد تنحية الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد واغتيال خلفه محمد بو ضياف ،اللذين ربطتهما علاقات ثقة متينة بالأوساط المغربية ،كان من المؤمل أن تفضي الى الحل المنشود الذي تعتبر الجزائر دون شك مفتاحا رئيسا من مفاتيحه.وهكذا عادت أجواء التوتر بين الطرفين الرئيسيين في الشراكة المغاربية (المغرب والجزائر)،مما أدى إلى قرار جماعي بتجميد نشاط الاتحاد الذي كان مشلولا بالفعل. 2. اندلاع أزمة لوكربي وإقرار الحصار على ليبيا ،وبالتالي عجز الاتحاد المغاربي عن التفاعل الفعال مع هذه الأزمة التي تولد عنها خروج العقيد القذافي عن المرجعية المغاربية (التي لم يكن منذ البداية متحمسا لها) والمرجعية العربية إجمالا ،مقترحا بديلا منها اتحاد الساحل والصحراء (سين صاد) الذي ولد ميتا. 3. دخول الأقطار المغاربية في سلسلة من الاهتمامات والانشغالات الداخلية التي أثرت بالغ التأثير على هامش حركيتها الدبلوماسية ،التي غدت محدودة وضيقة. فبالإضافة إلى الأزمة الجزائرية الحادة (الحرب الأهلية الدامية التي استمرت طيلة عقد كامل)،دخلت موريتانيا في نزاع طويل مع جارتها الجنوبية السنغال ترك آثارا داخلية معقدة ومتشعبة ،في حين تردت الأوضاع الداخلية في ليبيا من جراء الحصار الدولي المضروب عليها ،وانشغل الشارع السياسي المغربي بموضوع التناوب الحكومي الذي شكل في نهاية التسعينيات تجربة غنية ورائدة في المصالحة السياسية ودفع المسار الديمقراطي. تنضاف الى هذه العوامل الثلاثة الأساسية تداعيات حرب الخليج الثانية ،التي عصفت بالنظام الاقليمي بمجمله ،وخلفت حالة غير مسبوقة من التفكك والضياع على المستوى القومي. وهكذا في الوقت الذي انحسر زخم المشروع المغاربي في نهاية التسعينيات ،بدأت الأقطار الخمسة تحس خطر الفراغ المتولد عن التحولات الدولية والإقليمية الخطيرة التي غيرت تركيبة النظام العالمي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة . وقد شاعت أوانها عدة مبادرات استهدفت المنطقة تجمعها وحدة المصدر (الطرف الأجنبي سواء كان أمريكيا أو أوروبيا)،لعل أبرزها: * المشروع الشرق أوسطي:الذي انطلق اثر مؤتمر مدريد سنة 1991 ،وبرز عينيا عبر المؤتمرات المتتالية التي استضافتها عواصم عربية منذ سنة 1994 (الدارالبيضاء وعمان والقاهرة والدوحة) ،بعد توصل منظمة التحرير الفلسطينية إلى اتفاقيات تسوية مع إسرائيل في سبتمبر 1993.ومن المعروف ان الدول المغاربية (ما عدا ليبيا) قد تحمست للمشروع ،وتبنته في سياق الحماس الجارف الذي ساد أوانها أملا في قيام السلام العادل والشامل المطلوب.ربطت ثلاث من الدول علاقات دبلوماسية بمستويات متباينة مع اسرائيل تراوحت بين العلاقات السياسية الكاملة (موريتانيا) ومكاتب الاتصال (تونس والمغرب)،قبل ان تجمد هذه العلاقات اثر توقف مسار التسوية الشرق اوسطية وينهار مشروع الشراكة الذي صممه الثنائي كلينتون - بيريز(3). كاتب ومحلل سياسي، عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية الموريتاني سابقا