يكتسي البحث في مضامين الرواية الشفوية التي توارثتها الأجيال، قيمة كبرى في التوثيق لتغير مكونات الذاكرة الجماعية وفي تطور أنظمتها الثقافية والسلوكية، المادية منها والرمزية. هي العين الثاقبة القادرة على التقاط التعبيرات المتداخلة التي يفرزها المجتمع في سياق تطوراته التاريخية الطويلة المدى، تطورات تنفلت من بين ثنايا المتون المدونة والمظان الأسطوغرافية « العالمة «، لتؤسس لكتابة « بديلة « تسمح بالتوثيق لما لا يمكن التوثيق له في سياق الاهتمام بتوفير المادة الارتكازية الضرورية للاشتغال سواء بالنسبة للباحث المؤرخ أو السوسيولوجي المتخصص، أو بالنسبة لإمكانيات التوظيف الإبداعي الواسع والرحب، في المسرح وفي السينما وفي التشكيل وفي القصيدة وفي النصوص السردية التخييلية المختلفة. إنها تجسيد للامتدادات اللامتناهية لهذا الولع الصوفي بخصوبة المكان وطراوة الفضاء المحلي للمدينة ولقيمه المجتمعية والسلوكية والذهنية المتوارثة، إلى جانب تغير / أو ثبات وجوه ساكنته المتعاقبة واهتماماتها المتغيرة. كل ذلك في إطار تناسق علاقة الثابت بالمتغير في وعي الناس وفي أنماط تساكنهم مع فضائهم الأصلي وفي وعيهم بعناصر الخصب والعطاء في إبداعاتهم الذهنية والسلوكية. ونظرا لهذه القيمة الفكرية والثقافية المتميزة، فإن إنقاذ هذا الرصيد الشفوي، بالتجميع وبالتصنيف و بالتحليل وبالاستغلال، يشكل أمرا محوريا في إعادة ترصيص معالم الذاكرة المشتركة وفي إعادة تجسير عناصر الوعي بالمكان وفي الارتقاء بمستوى هذا الوعي في قراءة جزئيات « التاريخ الذهني « في أبعاده السياسية والاجتماعية والثقافية المتداخلة. في إطار هذا التصور العام، احتضنت مدينة اصيلا يوم 26 ماي الماضي ندوة فكرية، من تنظيم جمعية ابن خلدون للبحث التاريخ والاجتماعي وجمعية الثقافة والفن للتنمية البشرية، بمشاركة ثلة من باحثي المدينة المهووسين بالبحث في خبايا التراث الشفوي والذاكرة الجماعية المشتركة التي صنعت بهاء العطاء الثقافي غير المدون الذي راكمته المدينة على امتداد تاريخها الطويل. يتعلق الأمر بكل من الأساتذة محمد البوعناني وعبد الحميد المليحي وعبد الرحيم الجباري ومصطفى زيان وأسامة الزكاري وسوسن المليحي ومغيث البوعناني ومحمد الأمين المليحي والزبير بنبوشتى، باسم مندوبية وزارة الثقافة بطنجة، وممثل عن مندوبية وزارة السياحة بنفس المدينة. لقد استطاعت مجمل المداخلات إعادة نفض الغبار عن خبايا الموضوع، من خلال محاور متكاملة، أضاءت مجال البحث في جوانبه المتداخلة، وفتحت الأعين على ما ينتظر أبناء المدينة ومثقفيها من عمل متواصل للتأصيل لآفاق الهوية الثقافية المشتركة، هوية تلاقحت فيها الأجيال واغتنت عبرها التجارب وتضافرت فيها مختلف أوجه الإبداع الحضاري والثقافي الذي ميز / ويميز الوجه الثقافي لمدينة أصيلا. وقد تمحورت مجمل المداخلات حول قضايا البحث في عادات وتقاليد مدينة أصيلا من خلال المحكيات والأمثال الشعبية، مثلما هو الحال مع مداخلة الإعلامي محمد البوعناني ثم مع مداخلة الفنان التشكيلي محمد الأمين المليحي، وقضايا التراث الديني بمدينة اصيلا من خلال ذاكرة مساجد المدينة، وهي القضايا التي رصدتها مداخلة الأستاذ عبد الرحيم الجباري. ومن جهته، اهتم مغيث البوعناني بتقديم شذرات مفصلية في ذاكرة حقل التربية والتعليم بمدينة أصيلا خلال عقود القرن الماضي، وتوقف أسامة الزكاري لمساءلة حصيلة الكتابات التاريخية المرتبطة بالتراث الشفهي لمدينة أصيلا، واهتم مصطفى زيان بتقديم جملة رؤى اقتراحية حول واقع التراث التاريخي والثقافي للمدينة العتيقة لأصيلا بين الاندثار ورد الاعتبار. وبهذه المبادرة الثرية، استطاعت كل من جمعية ابن خلدون للبحث التاريخي والاجتماعي وجمعية الثقافة والفن للتنمية البشرية، وضع أسس رصينة لتنظيم الاشتغال المتأني حول تلاوين الذاكرة الجماعية لمدينة أصيلا، مما يفتح آفاقا واسعة لتحويل موضوع الندوة إلى ورش مفتوح، يمكن ان تتقاطع عنده الاهتمامات وجهود الباحثين المتخصصين. ويقينا إن الندوة، بما طرحته من أفكار جريئة، قد فاجأت المنظمين قبل المتتبعين، وجعلتهم أمام مهام مسترسلة لاستكمال حلقات الموضوع وتوسيع آفاق البحث حوله. باختصار، فالندوة أضحت تشكل أرضية لما يمكن إنجازه مستقبلا حول قضايا الاحتفاء بالذاكرة الجماعية لمدينة أصيلا، في أفق تلقيح وعينا المشترك بعناصر الثراء داخل مكونات الهوية الثقافية للمدينة، بالأمس واليوم.