عزف موسيقي هادئ. يتناغم وجسدي المتمايل في مشيته، وأنا أتنقل بين الصور واللوحات، داخل رواق المعرض هناك، حيث رصدت ظلي، الذي هو دائما الآخر، الذي ينافسني في كل شيء. بدأنا، كأننا أنصافا أنصافا، تحت مجهر أضواء مسرح المرايا، والعدسات المعتمة.. مسرح اللوحات الكثيفة للألوان، والخطوط في مقابل تلك اللوحة المتنقلة، الأخرى، الغريبة ، المتحركة ، على مهل ، بالأسود والأبيض ، لرجل وظله. متمهلا، أقف أمام لوحة ربة الجمال والشعر، أقف فيطل من الخلف بقامته القاتمة ممتدا وطويلا، رغم كونه ينبثق من ضلعي كما تنبثق حواء من ضلعي آدم، أو فينوس من زبد البحر، حقيقة لا يحمل ملامحي، لا يمثل سوى قامتي، الآن يزعجني حضوره ،لأنه يصرفني عن الشعر الهفهاف والعيون الخضر كالبرسيم، وروبتها المهيبة، التي تبدو فيها كإلهة مرتدة إلى ذاتها، فاتنة بجمال هادئ، مطمئنة، واثقة ،من ذاتها، وهو لا يشف إلا لماما عما يمكن أن تنطوي عليه هذه الإلهة من احتمالية. أخطو بتؤدة، فيرتمي أمامي كعمود قاتم، أتفادى الدوس عليه، بغتة، التفت إلى الوراء ضبطت العينين الخضراوين، تتعقبنا بإشفاق، نظرتها ساكنة، لكنها، هامسة، معبرة ، بل نفاذة، مفصحة.. تفشي عن احتمالية المكنون، لعل هذا الغيور، يجاري لعبة الانخداع، لكن قوة سحر جمال العيون الخضر، وموسيقى جيوفاني فوسكو، يجعلانه يبقى مأخوذا، مسحورا، حين يتوقف ، نبدو كنسخة واحدة. أوخزه بإصبعي في خصره، على هذا التوقف المفاجئ، يقفز ليقع بيني وبين اللوحة، أحدث مسافة ملائمة، لأتأمل، في خدعة هذا المساء، أو بداية لعبة الانخداع .. أدرك أن الانخداع بداية معرفة الذات ، ها أنت الآن، تترصد لونية، هذا الكائن الهش .. الظل، الغيور الذي يبدو حضوره كأم رءوم ، غيورة ، تنازع زوجة ابنها ، قد يكون حضور هذا الكائن، حضورا لا وعيا لربة الجمال الكامن في ذاتها ، أو، الأصح هي الحاضرة في ألاوعيي، كأنثى، رغم المسافة التي رسمتها خطواتي، المتمهلة، على السجاد الأحمر، والمبتعد قليلا، أحس ذاك الشعاع الأخضر، النفاد، يخترق ذاتي، بل، ينفد إلى أعماقي ليحرك ذاك الجزء من احتماليتي، التي هي احتماليتها، التي تسطو علي في هذه اللحظة .. أفلت قدر الإمكان إلى زاوية نصف مضاءة داخل الرواق، أرى ظلي ينحني في خشوع، منكسر، أفزع لهذا المشهد ، المهيب. أشفق عليه، أتفقد وضعي، أجده سليما ومستقيما، بعدها، أدرك لعبة الانخداع.. كما تنطوي عليه الابتسامة الساخرة، المرسومة على شفتي ربة الشعر والجمال، والنظرات الموشكة عن الإفصاح، كونها الأنثى المبثوثة في الذكر..نعم، نظرات عينيها الزائغتين ، تقر بذلك ..تأسرني اللمسات، التي جسد ت هذه الروعة الحية، كيف يطفو الثاوي فينا على السطح؟ على أضلاع الزاوية القائمة، النصف المعتمة، تتضاعف الظلال، متمايلة، كأنها تجاري موسيقى جيوفاني فوسكو، تحت كرنفال هذه الأضواء الملونة، والسحر الغاوي.. أندهش لهذه الاحتمالية، التي يريد تفنيدها هذا الدفق الهائل من الأشعة .. ثم أجدني أعود متقهقرا، إلى حيث لوحة ربة الشعر والجمال، أرى ظلي يبتهل إليها في خشوع وتضرع، أميل برأسي، متعجبا، ويميل معي بدوره، كيلانا حركة واحدة، هناك حيث لا أحد سوانا ، أراه يتمدد ويستطيل في حركة منه للاستنجاد من الإنعتاق. الإنعتاق ممن؟ يا إلهيِ؛ أرفع رأسي عاليا ، لأكتشف مكنون اللعبة، بل المتحكم فيها، كوة ،عالية ، كأنها عيون إله فوقية، تترصد حركة زائر لمعرض الرسوم والصور، هذا المساء، العين اللعينة ترسل النور والهواء، بل ، تنفث لعنتها ريحا على طول الممر للرواق، تضطرب الإطارات والمرايا والرسومات ، تهزها ، حتى تكاد تسقط من أمكنتها ، تحدث الفوضى في الأشياء..تداهم بصري ، أحس غشاوة على عيني ، بفعل اندفاع هواء قريب من زجاج إطار لوحة ربة الشعر والجمال، تنعكس عليها أشعة بصري ، حتى أني لم استطيع فهم الأمر على حقيقته ، أرى ظلي يتنصل مني ويمشي بحرية أمامي، يعدو حرا طليقا على طول الممر المفضي إلى باب الخروج..ألاحقه من الخلف ، كما تلاحقني الابتسامة الساخرة، عند الباب الخارجي ، توارينا معا ، في الظلمة ، ولم أعد أرى سوى شعاع فسفوري أخضر، من عيون قط يعاقر قطته. (*) كاتب من المغرب