وجود الحس المعارض كان يتلبس كل مثقف ليبي دون استثناء تقريبا، ولذلك يوجد في ليبيا تيار فني يجنح إلى الغموض وعدم المباشرة. صابر الفيتوري، شاعر وصحفي ليبي، صدر له كتابان شعريان: «لطم لتاريخ الأمواج «و «الماء واقف في صفك»، شاعر يستمد قوته من الوعي النقدي الحداثي، شاعر حالم بليبيا الجديدة والحديثة،ولأجل هذه القناعة رابض مع الثوار بقلمه أولا، بسلاحه أبضا لتنتصر الثورة،وتشرق شمس الحرية المشتهاة. عن موقعه كشاعر وصحفي في الثورة، كان لنا معه نص هذا الحوار.هو الآن يشغل تحرير مجلة «الفضاء الثقافي» الالكترونية، ورئيس تحرير جريدة «الميدان»وليدة فجر الثورة في مدينة الزاوية القريبة حد التماس مع مدينة طرابلس عاصمة ليبيا. } من موقعك كشاعر، والشاعر عادة لديه تلك القدرة الحساسة والمتجددة في استشعار ما قد يأتي ويحدث، هل كنت تتوقع أن تحدث ثورة بهذا الحجم في ليبيا..؟ كان المشهد السياسي يوحي بأن شيئا ما على وشك الحدوث. فالتغيير ،كان يبدو حتميا. لكن متى يأتي وما كنهه وكيف؟؟ كانت أسئلة يطرحها كل منا على طريقته عبر الشعر والقصة ومقالة الرأي. وكان النضال، قد أعلن في ليبيا بالنسبة للمثقفين في عنفوان الدكتاتورية. فوجود الحس المعارض كان يتلبس كل مثقف ليبي دون استثناء تقريبا، ولذلك يوجد في ليبيا تيار فني يجنح إلى الغموض وعدم المباشرة. كان الأقرب للتكهن أن يستلم ابن أبيه مقاليد الحكم بشكل طوعي أو أن يقود انقلابا في شكل مدني. وكان هناك خوف حقيقي من أن يموت المقبور القذافي ميتة طبيعية فيحدث فراغ قد يؤدي إلى بروز عدة رغبات في تولي قيادة كانت محصورة في القادة العسكريين. ومثلي مثل الكثيرين ممن كانوا يعارضون النظام تحت غطاء الرغبة في الإصلاح، كنت أرى أن خلافة سيف بالقناع الذي أزاحه عند انطلاق ثورة 17 فبراير هو أفضل من أي خيار آخر خصوصا أنه قد يكلف البلاد الكثير. تفجر ثورة فبراير المجيدة كما قلت أنت بهذا الحجم من الزخم والتفاف الجميع حول مطلب واحد هو :رحيل الدكتاتور وكل أبنائه عن الحكم ولا شيء آخر، لأنه حكم لم يتأسس على الشرعية الدستورية وعرض البلاد إلى جملة من المواجع والانتكاسات المحلية والعالمية، ولا داعي لأن أسرد عليك كل المآسي التي عاناها الليبيون وكبدتهم أموالا كثيرة ذهبت في غير مكانها من أجل حصد مكاسب شخصية القذافي الذي لا يملك عقلا أصلا. } من خندقك في «الزاوية» المدينة التي تبعد عن طرابلس العاصمة بحوالي 40كلم، كيف واكبت شرارة وتطورات أحداث ثورة 17 فبراير وأنت الشاعر والإعلامي؟ كانت مدينة الزاوية، وهي عاصمة الغرب الليبي شعلة من النضال الذي انتقل من التظاهر السلمي المطالب بالعدالة والحقوق ووقف الدم في عاصمة الشرق الليبي بنغازي إلى الكفاح المسلح.وكانت مدينة الزاوية أول المدن الليبية التي اختارت خيار الكفاح المسلح ضد الدكتاتورية. وهي نقلة نوعية كانت مهمة على صعيد الثورة ككل. فأن تواجه ترسانة عسكرية بحجم ما كان يملكه المقبور القذافي من عتاد وعدة في حين أنك لا تملك أيا من هذه المعدات اعتبرت في البداية نوعا من الانتحار، لكن شباب الزاوية وهم تحت الحصار أذاقوا نظام القذافي وكتائبه المر وكبدوهم خسائر موجعة. } ما هي الصورة التي كانت عليها مدينة الزاوية في بداية الثورة..؟ تصور أن المظاهرات التي عمت مدينة الزاوية يوم 18 فبراير حولت المدينة كلها إلى ساحة من الرفض وكانت أصوات المتظاهرين في ميدان الشهداء الشهير وتكبيراتهم تسمع حتى على بعد كيلومترات، وكانت تدخل الرعب في قلوب المرتزقة والخونة. فلقد كان يوما تاريخيا مشهودا شاركت به، وكنت شاهدا على حرق صور الطاغية ورموزه. وحاولنا وقتها أنا وعدد من الثوار حماية المراكز الحساسة المملوكة للدولة كمصارف ومراكز الشرطة وغيرها من المؤسسات العامة خوفا من أن يستغل الفراغ من قبل عصابات القذافي ومرتزقته ويقومون بأعمال ضد الثورة ويلصقونها بنا. وهذا ما حصل بعد تغلغلهم ليلا، فأحرقوا ودمروا المراكز الحيوية لأننا لم نكن نحمل السلاح للدفاع عن النفس، وتمت مداهمة الشباب المعتصم في ميدان الشهداء، حيث كان الاعتصام سلميا وأطلقت الأعيرة النارية من البنادق على صدور المعتصمين المحتجين العارية، فحاول الثوار أن يحموا أنفسهم وأن يحاولوا حماية الميدان ليتمكنوا من مواصلة اعتصامهم فتوجهوا إلى المعسكرات وغنموا ما تسنى لهم من أسلحة، وأصبحت مدينة الزاوية حرة، وكان مسجد الميدان مركز القيادة المدنية والعسكرية، وارتفع علم الاستقلال والثورة في الزاوية، وصار الشعار الواحد الأوحد هو إسقاط النظام. حاول الطاغية وزبانيته إخراج الثوار والضغط من أجل أن تتراجع الزاوية عن خيارها، عرض بادئ الأمر على الأهالي مبالغ مالية كبيرة ورصد لكل عائلة مبلغ 200 ألف دولار من أجل أن يرفعوا علم القذافي، لكن الجواب كان نحن قوم لا نستسلم، ننتصر أو نموت وهو قول صار شعارا للثورة، كان قد قالها شيخ المجاهدين عمر المختار وعلق الثوار بأنهم لا يساومون على الدماء يومها، كان قد دفن في ميدان الشهداء حوالي 7 شهداء فقالوا له: إذا كنت تريد التفاوض فهذه جثامين الشهداء تحاور معهم فإن وافقوا وعادوا للحياة نقبل..! } ساعتها ما الذي تفعله..؟ التقطت يومها عدسة جهازي النقال قتالا دار في شارع عقبة بن نافع. كان الشباب يواجهون الدبابات دون سلاح. وكانوا يرفعون السيوف لمواجهة أعتى الدروع.وكانت المدرعات تفر منهم. والجنود المدججون بالأسلحة يتركون أسلحتهم ويهربون. المعارك لم تكن متكافئة. وكانت المدينة تعج بالأهالي والأطفال والنسوة، والقذافي خاض حربه ضد شعبه بلا أخلاق. فقصف المدينة بشكل عشوائي وهدم البيوت والمساجد والشوارع. فانسحب الثوار. وتم إخماد ثورة المدينة الأولى. خلال الخمسة أيام الأولى، كنت أنقل مراسلات من الميدان لجريدة «لوفيغارو «الفرنسية و»الفايننشل تايمز» و»الغارديان» الإنجليزية بشكل يومي. ونقلت لهم الصورة مفصلة، موضحا طبيعة الصراع. كان ذلك قبل انقطاع الاتصالات عن المدينة. } باعتبارك وجها معروفا ومألوفا كشاعر وإعلامي، هل سعت جهة ما لتوظيفك لإخماد شعلة الثورة..؟ اتصل بي أثناء اشتعال أوار الثورة عدد من المسؤولين الليبيين، مطالبين بأن أقوم بدور في تهدئة المحتجين والثوار، وأن استخدم علاقتي الطيبة بأهلي في المدينة لإسكات الاحتجاجات، لكني أخبرتهم أن الدماء التي سالت هي ليست لمخلوقات فضائية أو لحيوانات أكرمكم الله فهم أقاربي وأهلي وأصدقائي وهم أعزاء وكرام في أهلهم، والدم عندما يراق يزيد الأمور تعقيدا. إن الدم إن سكب على النار زادها اشتعالا ،فهو كمثل البنزين ?تماما- إن هب لا يوقفه شيء. } خلال الثورة، كنت تحمل القلم والسلاح، حدثنا عن هذا المسار..؟ قطعت كل وسائل التواصل التي يمكنك أن تعبر بها عن رأيك:الصحف والجرائد كلها مدجنة، والأنترنت مقطوع، ولم يبق من خيار إلا أن نعتمد طريقة بدائية.فكنا نكتب المناشير ونوزعها أثناء ساعات الليل المتأخر، نطئمن بها الأهالي بدنو التحرير وقرب نهاية الطاغية، وأن النصر قريب والعون والمدد سيأتي إلينا من بنغازي التي تحررت. فكانت البيانات والنشرات التي أكتبها أنا وأوزعها رفقة بعض الأصدقاء، حيث أطلقنا على أنفسنا «حركة تحرير ليبيا الحرة»، تزرع الفزع في صفوف كتائب الطاغية، وتبعث الأمل في نفوس الأهالي، لكنها كانت مخاطرة قد تدفعنا ثمنها أرواحنا. تعرضت للاعتقال يوم 17 -5-2011 م وتم اقتيادي إلى نقطة الصفر المرعبة.لكن وبعد تحقيق معي، استمر لنحو 5 ساعات وجدت تعاطفا، وشعرت أنهم تعاطفوا معي. وكان المحقق يبدو من لهجته أنه من خارج الزاوية. ومع ذلك، أفرج عني، ولم يقم بتحويلي إلى سجن بو سليم بل تركني.بعد ذلك، عدت للاختباء بأحد منازلنا البعيدة دون أي اتصال مع أحد حتى حان وقت التحرير. وقد أعلمت بموعد الانتفاضة، وخرجنا هذه المرة بعد أن تحصلت على السلاح، حيث بقيت في أحد الثغور ببيت أحد أقاربي الذي تحول إلى معسكر يجمع حوالي 200 مقاتل. لم نكن منضمين أو منتمين لسرايا مقاتلة وكتائب وقتها بعكس ما نحن عليه الآن. كنا نحمل السلاح للدفاع عن أنفسنا وأهلنا. وحاجتي لحمل السلاح انتهت بتحرير ليبيا. وبعد أن عم الأمن وسأقوم بتسليم سلاحي قريبا من أجل العودة لممارسة دوري كمثقف وكاتب مع انتشار المنابر الإعلامية وغزارتها في ليبيا واختلافها أيدولوجيا من الإسلامي إلى الليبرالي إلى غيرها من التيارات الفكرية.