التقليص التدريجي في حجم المجالات الخضراء، من حدائق ومنتزهات ومتنفسات طبيعية وفضاءات مفتوحة,صار اليوم أحد لازمات التعمير في مدننا الكبرى، يبدو أن العمل على توفير هذه المساحات أو صيانة المتبقى منها هو آخر ما يرد في اهتمامات ومشغوليات المخططين الحضريين والمتدخلين في إنتاج المدينة. هكذا فإن التعطش إلى فتح الطرق والمسالك أمام زحف الاسمنت لا يرويه سوى المال المدرار المتأتى من زحف مواد البناء على الأخضر واليابس سواء بسواء، على السهل والجبل، على ضفاف الوديان وجنبات القناطر، على المناطق اللصيقة بالسكك الحديدية، على أشجار الغابات كما على البقع الفائضة من تجزئات ماكان لها أصلا أن تقوم لو كان هناك تقيد بالضوابط المتعارف عليها في دنيا البيئة والتعمير. أمام هذا التقلص المضطرد في المجالات الخضراء وأمام هذه اللامبالاة إزاء متطلبات البيئة ومقاييسها، لن نبالغ إن قلنا «»التعمار»« أصبح عندنا هو المضمون الحقيقي لمفهوم التعمير, هو أصدق وأدق على حال التعمير في مدننا الكبرى اليوم. قبل أقل من شهر طلعت علينا الأخبار تقول أن السلطات في مدينة طنجة (المنتخبة أو المعينة لايهم) فتحت محمية السلوقية في وجه التعمير، دون احتساب ولا مراعاة لا لطابعها الخاص كمحمية طبيعية من العيار النادر، محمية يصعب سلخها من محيطها الجغرافي بالشكل البشع الذي يراد لها, هي اللؤلؤة المضيئة, المنافسة جمالا وموقعا لمثيلاتها من المحميات الطبيعية على الضفة الأخرى من البوغاز. في مدينة فاس كان تعميم التهيئة الأخير الذي أثار الكثير من الجدل تكريسا نهائيا لغلبة هاجس التعمار على منطق التعمير, منطق أدى إلى جعل المضاربين من كل حدب وصوب في صراع مع الوقت من أجل ابتلاع كل المساحات الخضراء والجري المحموم واللاهث لاقتناص كل ما يبدو أخضر أو مفتوحا لرؤية الأفق. وهكذا فمن فتح التعاونيات الفلاحية السابقة في وجه التعمير واستفادة بعض مراكز القوى من عقارات ضخمة سيحولونها فيما يأتي من السنوات إلى حزام إسمنتي (لا تتحدثوا عن الحزام الأخضر) إلى تجربة آخر بقعة في قلب مدينة فاس كانت محج التنزه والرياضة لكل سكان منطقة أكدال, ضدا على اعترافات كل جمعيات البيئة, نقصد تجزئة ملعب الخيل والذي كان مجالا أخضر حتى حينما لم تكن ساكنة المدينة تتجاوز 250,000 نسمة (هي اليوم أزيد من مليون) وصولا إلى اقتلاع آلاف الاشجار من واد فاس. في كل هذا يبدو كما لو أن الشعار المرفوع هو «»املئوا الفراغات، عمروا البقع كل البقع واجعلوا تثنية الطرق في أحسن الأحوال بديلا نهائيا عن توفير المجالات الخضراء«. طغيان هاجس التعمار على منطق التعمير تراه بالعين المجردة اليوم بفاس, يوميا في منظر الأطفال الصغار وهو يضطرون إلى اختيار حيزات من الأزقة والشوارع لممارسة رياضاتهم، وأسبوعيا حينما ترى عشرات الآلاف من الأسر على جنبات الطرق وفوق ما تبقى من الربى على طريق مكناس, منظر يتكرر عند كل نهاية أسبوع، يحاول الناس الإفلات من اختناقات نسيج حضري تتقلص مجالاته الخضراء سنة بعد سنة، مذكرين المضاربين العقاريين والمخططين الحضريين المسايرين لنزواتهم أن البسطاء من عباد الله ممن لا يملكون القدرة على وضع «الميكروكليما» داخل منازلهم لهم حق في الفضاء المفتوح والمجال الأخضر. هوس العقار ومنطق التعمار وصل اليوم ذروته في منطقة زواغة, حيث يعمد المضاربون إلى استخدام تقنيات متعددة للتحايل على القانون بما في ذلك، فيما يحكى في أوساط الساكنة وصار يعرف بتمليكات اللفيف والمستفيدين منه أشخاص بدأوا مياومين وانتهوا اليوم أصحاب ملايين بالعقار السهل والموقع الانتخابي. لاتهم الطرق والوسائل, المهم ملء الفراغات وتعمير البقع كما اتفق, هاجس العقار و»التعمير بالتعمار» يؤدي -وهو أخطر ما في الأمر-إلى جعل عقلية المضاربة وسلوك المضاربة النواة الصلبة للتفكير الاقتصادي,تصبح عقلية المضاربة النقيض المدمر لتلك الخصلة التي تحدث عنها الاقتصاديون الليبراليون والتي أكدوا على ضرورة توفرها لدى رجال الأعمال في مرحلة الإقلاع الاقتصادي, أي عقلية المقاولة (كالبرايت وروستو). لم المخاطرة، لم التوجه إلى الصناعة أو باقي القطاعات الانتاجية، لم صداع الرأس مع إدارة الضرائب والأبناك وصناديق الضمان الاجتماعي، لم المعاناة مع الدفاتر المطلبية والمفاوضات ,لم التراكم البدائي (بلغة ماركس وآدم سميت) إذا كان يكفي التراكم البدوي؟ لم كل هذا إذا كان التعمار يعفينا من كل التعقيدات فاتحا أمامنا مناجم ذهب لا تنضب مادامت هناك بقع نفتحها للتعمير بالشكل الذي نريد؟ في هذا الحوار الافتراضي إطلالة سريعة على بعض مكونات الفكر المضارباتي الذي هو اليوم في مارس، كما في غيرها من المدن الكبرى بصدد فرض هيمنة هاجس التعمار، على منطق التعمير, هيمنة هاجس ملء البقع على كل المقاييس والمرجعيات البيئية. ربما كان أحسن سؤال نختم به هذا التقديم هو «»ترى كيف كان سينظر المضاربون العقاريون عندنا وتابيعهم في غواية العقار من المخططين الحضريين إلى وجود مئات الهكتارات المعدة للراحة والتنزه في قلب النسيج الحضري، ماذا لو كان السنترال بارك أوالهايد بارك في قلب مدينة فاس؟ { المناضل البيئي: كيف تجد حال مدينتنا اليوم؟ أقصد كيف تقيمون وضعها الحالي في مجال التعمير، من وجهة نظركم كمشتغلين على المضاربة العقارية المضارب العقاري: المضاربة العقارية قلت, ماذا تقصد أولا بالمضاربة العقارية هلا وضحت الأمر. { المناضل البيئي: أيحتاج الأمر حقا إلى توضيح، ومع ذلك دعني ان اوضح لك ما نعرفه نحن مما تمارسونه انتم كل وقت وحين: المضاربة ياسيد هي تحين الفرص لشراء العقار ثم بيعه، اكان هذا العقار ارضا عارية او كان سكنا مبنيا، او ليس ذلك ما تقومون به كل يوم، كل شهر، وكل سنة. المضارب العقاري: تحين الفرص, اراك تنطق العبارة بنوع من الاشمئزاز، وعدم الرضى، تنطقها وأنت مقطب الجبين، وكأن الامر يتعلق ببدعة من البدع، أليس تحين الفرص هو قاعدة العمل الاولي في مجال الاقتصاد، اليس تحين الفرص ابجدية النشاط العقاري، مبتدأه وخبره؟ { المناضل البيئي: لكن الذي تعلمناه من دروس الاقتصاد في الجامعة ان هناك دورة تبدأ بالعمل، ثم الادخار، ثم الاستثمار، ثم الانتاج، ثم السوق، فالربح في النهاية. وعلى امتداد حلقات هذه الدورة ليس هناك، ولا مجال لشيء اسمه تحين الفرصة او الفرص، هناك الجهد المبذول والمكافأة المستحقة، ومايسمح به ذلك من تراكم طبيعي واصيل. { المضارب العقاري: دعك من المنهجيات المدرسية. لنعد الى سؤالك الاول، كيف ارى حال مدينتنا اليوم، لن اجيبك بالطبع خارج مجال تخصصي كمشتغل على العقار، في هذا الجانب أرى ان حال مدينتنا بألف خير, مشايع البناء في كل مكان، التجزئات مفتوحة، الرافعات منتصبة في وسط المدينة كما في الارجاء. وضمن هذا الحراك المعماري الذي عم الزوايا و المفاصل في كل ارجاء المدينة بدون استثناء، الكل واجد بدون شك ضالته، نحن معشر المشتغلين على العقار والمختصين في العقار جزء من هذا الكل لا غير. { المناضل البيئي: دعني اسألك مادمت قد صنفت نفسك ضمن دائرة المختصين في مجال العقار، ومادام إشكال العقار يحيل الى اشكالية التعمير، هل انتم حقا راضون على مسار ودينامية التعمير في هذه المدينة. المضارب العقاري: مقاطعا .. مسار التعمير ماذا تقصد بالضبط؟ { المناضل البيئي: اقصد اشياء كثيرة ومتنوعة مما يدخل في عداد مفهوم التعمير، ولكنني اكتفي بشيء واحد هو مصدر قلق متزايد كمتتبع لأحوال البيئة في هذه المدينة، شيء واحد هو كذلك مصدر المكتوين بنار تدهور البيئة من عامة الناس. اقصد فقدان التوازن بشكل متزايد بين المجال المبدئي والمجال الاخضر، وهو توازن مطلوب، ضروري وحيوي يرتهن بوجوده او لفقدانه, حسن أو سوء حال سكان المدينة. اقصد للتوضيح أكثر المساحات الخضراء، حجمها مقاس عدد السكان. اقصد ما يسمى في لغة جغرافية الامكنة بالفضاءات المفتوحة في علاقتها بمعيش السكان، وحيث يجب أن ينتفي الحساب المركانتيلي امام شروط التناسق والجمالية وأمام الوضع الصحي للناس. المضارب العقاري (بين الضحك والاستهتار) هل من امثلة عن هذا الذي تسموله الفضاءات المفتوحة؟ { المناضل البيئي: تحضرني امثلة من عواصم كبرى عالمية، رأسمالية حتى النخاع، لكن النزعة المركانتيلية وقد تهذبت بالحراس لم تمنع فيها من اقامة حدائق ومنتزهات بمئات الهكتارات في قلب المدن. يحضرني مثال السنترال بارك في قلب نيويور.والهايد بارك في قلب الوست اند بلندن ومنتزه الريتيرو في قلب مدريد يحضرين من عندنا مثال حديقة الجامعة العربية بالدار البيضاء يوم كان التخطيط الحضري يأبه بالمجال الاخضر. المضارب العقاري (واضعا يده اليسرى على جبينه كمن يفكر) هذا كلام كبير لا قبل لي به، العواصم الكبرى، النزعة المركانتيلية التخطيط الحضري، دعني اجيبك عن سؤال التوازن، تقول التوازن، ليس بناء المساكن اولا وتعمير الامكنة هو شرط التوازن الاول. اراكم معشر البيئيين حالمون، ما الذي يستفيده السكان من وجود بقع خضراء عليها اشجار وحدائق, ما الذي تستفيده البلدية, ما الذي تستفيده الدولة. او ليس وجود مثل هذه الفضاءات عبئا ماليا ثقيلا مصدر انفاق للجماعات المحلية سقيا وصيانة واجور عمال وحراس، عوض ان تكون مصدر دخل لو اعدت للبناء؟ { المناضل البيئي، هو ذا اذن مفهومك للتوازن, طيب، دعني اسألك سؤالا مباشرا واريدك ان تجيبني اجابة مباشرة، وسأحاول أن أنسلخ هذه المرة وأنا اسألك من مرجعيتي البيئية راغبا وانا استمع الى اجابتك اولا وقبل كل شيء ان اعرف كيف يشتغل العقل المضارباتي: قل لي بماذا تجيبون من يقولون، وهم الغالبية اليوم ضمن كل الاعراف والاجناس، مسنودين في ذلك بخبرة ورأي كل العلماء, بأن الحاجة الى المجالات الخضراء، تصبح، في مدن تتوسع ديموغرافيا وعمرانيا سنة بعد اخرى حاجة طبيعية، تكاد تقترب حد الالتصاق من حاجيات اخرى اولية كالماء والهواء, بماذا تجيبون كل هؤلاء؟ المضارب العقاري: (متأففا) المجالات الخضراء، حاجة طبيعية!! اراك صديقي البيئي مبالغا ايما مبالغة ، تتحدث عن التوازن البيئي وتراه ضرورة من الضروريات لم نسمع عن أموات ماتوا او مرضى اصيبوا بالمرض جراء كثرة البقع المبنية على حساب البقع الفارغة. التوازن، فلسفة فارغة. { المناضل البيئي: طيب، فلسفة فارغة، لكن قل لي، اعرف انك تسافر الى بلدان جوارنا الاوروبي, ولا شك انك لاحظت على الطبيعة في المدن التي تزورها انهم لا يقتصدون ولا يمزحون حينما يتعلق الامر بتخصيص منسوب المجال الاخضر ضمن النسيج الحضري، اي انهم، بكل بساطة لا يجعلون التخطيط و التعمير مرادفين للتعمار كما يحصل للاسف عندنا مما تباركونهم انتم و تضعون انفسكم قيمين عليه. واريد ان اسألك، هل هم هناك كذلك دعاة فلسفات فارغة مثلنا نحن البيئيون الحالمون هنا. اما عن سؤالك التنذري هل سمعت عن اموات ماتوا بسبب كثرة البقع المبنية دعني اوضح لك انني لا أقصد الموت السريري الاكلينيكي، لم نصل الى ذلك المستوى بعد، ولكنني اتحدث عن الاختناق البيئي المتسبب في ضيق النفوس وشد الاعصاب وتوتر الامزجة الذي يؤدي اليه نموذج التعمير بالتعمار. ثم دعني اسألك اخيرا واجنبي بما تعلم: هل كانت الحكومات في بلدان الدنيا لتفكر في استحداث وزارات للبيئة أو وزارات مكلفة بسياسة المدينة لو كان يكفي التعمار للإيفاء بمسنى التعمير؟ هل كانت لتفكر في الأمر لو كانت تعتبر المدن مستثناة من متطلبات التوازن البيئي؟ المضارب العقاري (مفركا يديه ومبرزا نوعا من التفكير القبلي في الموضوع من خلال قسمات الوجه). الحقيقة أن ليس لدي جواب آخر غير ما تعودت عليه، من خلال ما علق بذهني وذاكرتي وتكويني من أن الاشتغال في العقار هو أقرب الطرق وأضمنها وأكثرها وثاقة للربح الشخصي موازاة مع إنعاش الحركية الاقتصادية العامة, وأن هذا الربح حلال مادام أن كل ما يتطلبه هو تحين الفرص واشتغال محكم وذكي على دورات الزمن المتعاقبة. تلقيت هذا من مشايخة العقار في هذه المدينة ممن زرعوا العقار فأكلنا من ثمراته ونود اليوم من جهتنا لو نزرع مثلهم ليأكل الآخرون من ثمرات زرعنا، ولم نسمع من مشايخة العقار أن تعمير الأرض بالبناء لا يكون حلالا أو مشروعا إلا إذا ترك بعض البقع للمجال الأخضر أو الملاعب الأطفال أولما تسمونه في لغتكم بالفضاءات المفتوحة. أما بخصوص فلسفة التعمير وتقنياته, حسبما هو متعارف عليه، حسب قولك، دعني أذكرك بالآتي: تلك أمم تستطيع أن تركب ترف البيئة وتفكر بمنطق توازن الطبيعة حتى داخل المدن وليس فقط على جنباتها أو في محيطها، وليس هذا هو حالنا نحن، نحن يا صديقي البيئي لنا أولويات أخرى. { المناضل البيئي: أرى كما لو أنك تومئ إلى وجود علاقة تحديد وارتباط متبادل بين يسر الحال والحاجة إلى المجال الأخضر, علاقة بين التحضر والغنى الصناعي (للبلدان المتطورة) وبين الحاجة إلى التوازن البيئي، بهذا التعالق تحاولون اقناع أنفسكم وإراحة ضمائركم بأن ما تقومون به (أي التعمير بالتعمار) هو أجدى وأنفع للفقراء من الناس: إذا كان تأكيدكم على تلك العلاقة بين اليسر والحاجة الى الفضاءات المفتوحة صحيحا، نافين بذلك أن تكون الحاجة إلى المجال الأخضر حاجة طبيعية، تلقائية، بشرية، فكيف تفسرون خروج الناس، خروج الأسر بالآلاف أيام نهايات الأسبوع بحثا عن عشب أو أشجار لم تطلها المعاول ولم يصلها الإسمنت أو الخرسانة المسلحة, كل تلك الآلاف من الأسر التي نراها على جنبات الطريق باتجاه مكناس أو سيدي حرازم. المضارب العقاري: يصعب أن نلتقي في الرؤى والأهداف يا صديقي، أنت ترى الأشياء بمثالية وبعاطفية حالمة ليس هذا زمانها ,وأنا أراها بعين الاقتصادي الراغب من الاستفادة من الفرص اللامحدودة التي تتيحها أمنا الأرض وما يرتبط بذلك أو ينتج عنه من رواج يستفيد منه الجميع ,عمال أجراء، مهن مختلفة, ساكنو مدن الصفيح، مستثمرون من كل صنف. أنت تبحث عن توازنات غامضة، مجردة، ترفيهية فيما أرى أنا أن أولى الأولويات هو الرواج الاقتصادي طالما هذا الرواج لا يضر بالأنفس ولا يهلك أرواحا. { المناضل البيئي: التوازن البيئي بالنسبة إليك إذن ينتمي إلى عالم التوازنات المجردة الغامضة. طيب لنترك النقاش في هذا الموضوع جانبا، فنحن بكل تأكيد لا نتكلم لغة واحدة ولا نمتح من نفس المعين والمرجعية فيما يخص النظرة الى المدينة والتعمير وأشكاله واسبقياته. لقد سمعنا من قبل أن عددا من المشغلين (بتشديد الغاء وكسرها) في هذه المدينة كانوا يعتبرون المطالبة بتطبيق قانون الشغل مطلبا مثاليا وسلوكا راديكاليا من طرف النقابات. وأنت بكلامك هذا تذكرني تماما بأولئك المشغلين حينما تقول بأن مطلب التوازن البيئي في المدينة هو تعلق بمثاليات. طيب ليكن، ولنبق إذن في المجال الاقتصادي المحض. هل تعتقد حقا أن الرواج العقاري ينشر حقا خيراته على الجميع ويستفيد منه الجميع على قدم المساواة كما تدعي؟ هل يشتغل سلم الحركية الاجتماعية المرتبط بالمضاربة العقارية بنفس الطريقة بالنسبة للجميع كما تزعم؟ لست متيقنا من الأمر، والمسألة والأمر يبدو لي شبيها بما يحيط بزراعة القنب الهندي من »»رواجات»«، مع الفارق في الاستعمالات وفي الأطياف المستفيدة). هل يستوي المزارعون البسطاء المغلوبون على أمرهم وأباطرة التجارة والتهريب في مجال المخدرات؟ وبالمثل هل يستوي في الاستفادة من الرواج المعمم المزعوم، العامل المياوم والموظف المدخر بعناء مع المضارب المتحين للفرص؟ ألا ترى أن الأمران متشابهان، ألا ترى أن المضارب العقاري متحين الفرص، ينتج في العمق نفس أنواع المسلكيات، أي الإثراء بلا سبب مشروع، التي ينتجها المشتغلون على الممنوعات والمستفيدين من عائداتها. ألا نكون ,هنا وهناك,أمام نفس العقلية ,عقلية خذ بسرعة ما يتاح لك وفكر أولا فيما تتيحه الفرص السانحة، ثم هل هي محض صدفة مثلا أن نرى العائدات من تجارة المخدرات وكل أنواع الممنوعات توظف أساسا في مجال المضاربة؟ ألا يفسر تقارب العقليتين هذا الانتقال السلس الملاحظ بين المجالين؟ المضارب العقاري (وقد بدا عليه نوع من الانقباض، ومظهرا نرفزة لا تخلو من اصطناع). - ويحك، أتقارننا بهذه البساطة، أو لعلها الوقاحة بتجار المخدرات، أهذا ما أوصلكم إليه علم الاقتصاد، وكذا ما تسمونه بالمذاهب والأفكار في مجال التعمير؟ { المناضل البيئي: إنني لم أقارن إنسانيا أو بشريا بين تجار المخدرات والمضاربين العقاريين، ولست على هذه الدرجة من انعدام الفطنة لكي لا أرى الفوارق بين المجالين, لقد قصدت أن أوضح لك أنه في كلتا الحالتين ليس من الصحيح القول من أن الكل يجد ضالته في الرواج القائم، بنفس درجات الاستفادة، أي المزارع والوسيط والتاجر (في حالة المخدرات) وعامل البناء والموظف الصغير والمضارب (في حالة المضاربة العقارية، في الحالتين معا، ومع اختلاف بالطبع في روافد الفاعلين ونواياهم، يصل الصنفان معا الى نشر وتثبيت ثقافة الإثراء بلا سبب مع اختلاف بكل تأكيد لنوعية المضار بالنسبة لأفراد المجتمع، مضار على الأدمغة والجيوب في حالة المخدرات، ومضار على الجيوب أساسا في الحالة الأخرى. المضارب العقاري: مصر أراك. إذن على مقارنة ما لا يقارن، رغم الاحترازات اللغوية والأسلوبية، لكن تيقن لا أحد سيشاطرك الرأي في الموضوع، وتأكد أن قانون الاقتصاد الفعلي كما رسمناه ماض في طريق لا يأبه بالمثاليات من نوع ما تذكر ولا يعير أي وزن للأفكار المجردة. { المناضل البيئي: سؤال أخير ربما كان مغرقا في الافتراضية، مع ذلك أود معرفة إجابتك لأنها ستلخص في العمق مجمل ما جرى بيننا من حديث، ولعلها تكشف بكثافة وتركيز عن رؤيتكم للأمور في مجال التعمير. قل لي ماذا لو كان السنترال بارك (مئات الهكتارات من الحدائق والفضاءات المفتوحة في قلب مدينة نيويورك) أو الهايدبارك (مئات الهكتارات من الحدائق والمنتزهات في قلب منطقة الويست إند بوسط لندن) ماذا لو كان أحدهما في قلب مدينة فاس. هل كنتم معشر المضاربين العقاريين لتقبلوا بوجود هذه المناجم العقارية لتنزه وتفسح المواطنين، هل كنتم حقا لتقبلوا بذلك، انتم والمخططون الحضريون من شاكلة من تتعاملون معهم، انتم الذين استكثرتم على سكان فاس، ان يبقى فضاء ملعب الخيل (36 هكتارا فقط) متنزها لسكان أكدال، علما أن العارفين بتطور المدينة يحكون أن سيدة معروفة باسم المرنيسية (جازاها لله خيرا) كانت قد قدمت ذلك العقار للجماعة قبل عشرات السنين لتخصيصه كمنتزه، وليس لملئها بعلب اسمنتية كما يحدث الآن. المضارب العقاري: سؤالك حول السنترال بارك والهايد بارك ليس افتراضيا فحسب بل له هو مغرق في التفكير التجريدي المنافي لأصول الاقتصاد كما تفهمها. وداعا صديقي البيئي لدي موعد في الحال مع التوبوغرافي.