إن الطريق الذي اختاره الشاعر عن معرفة وعلم وهمة لأن الهمة دَرَّاكة كما يقول الفقهاء، هو الطريق الروحي، «الطريق الذي يرتبط بالارتفاع فوق عبودية واسترقاق الجاه والزينة والمنزلة، والذي سوف ينال العالم الحقيقي في صفائه المطلق، هو الذي قطع طريق العلو من خلال تجرده المطلق عن السوى والأغيار» : - شهواتك قبسة من أسراري وخلواتك بسطة من حدائق عرفاني بك تعرفني إن عرفت الكون فيك أقبل أو أدبر فلا أنت عن النقطة مائل كل موجود من وجودك وكل حياة من حياتك بنظرتي الدائمة إليك تبصر فقد إلي خلقي.. نعم !! خذه إلى الخير والحق والجمال، خذه إلى مابه يسمو على وضاعته وضعته، ويعلو على طينه وحمإه المسنون، وحيوانيته الخام. إنها يقظة الروح الوجلة القلقة الباحثة عن مستكن، وعن ملاذ أخضر وماء كوثر، وإدراك للجمال باعتباره أعلى التجليات، و»إدراك شهودي يتحقق في عالم المثال الذي يعتبر الخيال الشهودي عضوه الفاعل. وبما أن الخيال هو ملكة الإدراك الشهودي، فهو، أيضا، ملكة التأويل النبوئي، لأنه هو الذي استطاع، ولا يزال دوما، تحويل المعطيات الحسية إلى رموز، والأحداث الخارجية إلى قصص رمزية» (الخيال الخلاق في تصوف ابن عربي). بعض هذا الكلام يوميء إلى العماء الذي تُدَاوِرُه الكتابة الصوفية لا بوصفه ظلاما دامسا نقيضا للضوء والنور، ولكن بوصفه مدخلا، به ومن خلاله تتكشف وظيفة الخيال، حيث : «يتضمن العماء النواة المركزية للعلاقة بين الإلهي والإنسي، نواة تنهض على التدخل بينهما، أي على الجمع، فابن عربي يحدد العماء طورا بأنه أقرب الموجودات إلى الله، وطورا بأنه الحق المخلوق به، فالعماء عين النفس، والنفس مَبْطُونٌ في المتنفس، فالعماء لديه هو الخيال المحقق، مما يجعل الإيجاد الأول للعالم مبنيا على الخيال. فليس عبثا، إذن، أن يعتبر ابن عربي الخيار ركنا عظيما من أركان المعرفة ) خالد بلقاسم = الكتابة والتصوف عند ابن عربي. لِنَتَمَلَّ فعل الخيال الخلاق في هذا المقبوس الشعري لأحمد آيت وارهام : - جلنار رأت نفسها في المنام لرمانة الحلم تُفْرِدُ سالفها وتسير تحت قبعة القيم نغنغة وحقول ابتسام جلنار البتول نتدثرها في منافي الهوى نجمة يفتح الليل صدر أساطيره كي يراها الفضاءات ماء يمد يديه ليمسكها تتأوه عشقا وتلثمنا. نتملى النص الشعري ويتهادى إلينا حفيف ورفيف لا أرق ولا أشف، نازل من طيف قزحي، طَيْف امرأة بلسم، نوارة الشجرة، روحها ونُسْغُها الشافي، فإذا المرأة عين امرأة، أو صورتها، أو مضاعفها الساطع بالفتون، أو فَرَاشٌ فَانٍ وقد غمره الضوء من بين يديه ومن خلفه، وإذا الكل يضج بالتفتح.. والتضرج، والتَّلَمُّظ الشهواني، وإذا الصور المقومة التي هي جواهر، والصور المتممة باعتبارها أعراضا، بتعبير إخوان الصفا، تنبلج كقمر لجين، أو امرأة بضّة مضّة تفتك بجماع الحس والعقل، امرأة تسمى جلنار. وتقدم قصيدة «لاميا» تجربة روحية جليلة شَخْصَنَها الشعر الغنائي البديع مسنودا بالمعرفة الصوفية، والقلق الأنطولوجي، متخذا من الأنثى -أيا كانت دلالتها- رمزا بعيدا، قصيا، مُشِعًّا، ومكثفا لحال العاشف المدنف للمعشوق الذي يرحل إليه القلب والحس والشعور كل لحظة وآن، ذلك : «أن الرجل - فيما يقول ابن عربي في «فصوص الحكم» - مدرج بين ذات ظهر عنها، وبين امرأة ظهرت عنه، فكن على أي مذهب شئت، فإنك لا تجد إلا التأنيث يتقدم عند أصحاب العلة الذين جعلوا الحق علة في وجود العالم». من بعض هذه المعاني العميقة للشيخ الأكبر، تستمد «لاميا» كل الألق الشعري، والشطح الصوفي، والحفر المعرفي؛ وهي أول باب في «أهل الشهود» الذي يشتغل فيه الخيال الخلاق اشتغالا تأويليا عظيما يخترق المحسوس بالحدس فإذا هو إلى رمز وإشارة وأليغوريا: - عندما في الأعالي مشطت شعرها كانت الأرض مثمرة بشهي الضياء، لم يكن غيرها يمزج الماء بالروح والروح بالطين من كفها تظهر الشمس صاهلة في المراعي والوجود مزامير تنفخ فيه الأسامي تلاوين أقدارها - فَقُمْ أيها القلب، ها هي بين مياهك تصطاد غرنوق غربتها وتؤاخي دماءك بالبجع المتلأليء في يتمه، فمن تكون هذه الغامضة الساطعة، وهذه المحتجبة السافرة، وهذه الأثيرية، القدسية، الروح، الغلو، السدرة؟ وكيف أمكن للشاعر أن يغزل على نول صبره، ومجاهدته، وقيامه، وقَوْمَتِه، جديلة شعرية منقوعة في دم معنى المعنى، وبهاء الفتح، ووطء الأرض البكر؟ إنه السفر بالجسد الفاني في المطلق الحاني حيث تكتسب الذات عنفوانا، واللغة صولة، والخيال مقعدا ما ورائيا، نافخا في الأشكال والألوان روحا حيِّيَة مرفرفة كطائر أخضر فُوَيْقَ المحبوب الذي به قوام الحواس والمحسوسات والمعقولات و المقولات والهيئات والآلات، والسموات والأرضين، والبرزخ، واللوح، والسدرة : - أغثني بقطرة عافية من جمالك بين أصابعك القلب يولد مبتسما بنوالك، هبني المشاهد، وَامْحُ السوى من يقيني. وبعد، يمكن اختزال المتن الشعري الوَارْهَامي، من خلال «حانة الروح» في ثلاث حركات تدرجية تصاعدية، هرمسية، وعرفانية. أو فلنقل في ثلاث لحظات ضوئية بها يلج المريد سم الصفاء والنقاء، و السمو الروحي، ويرتقي سلم العز والقبول والوصول إلى الحضرة السنية، إلى التماهي مع المطلق، إلى الفناء، والانزراع ذرة سابحة في الملكوت الأعظم، تدور مع وحدة الوجود، عَنَيْتُ بهذه الحركات الثلاث أو اللحظات = الشوق، والمكابدة - المجاهدة، ثم الوصل والإتصال بالمحبوب. وهي لحظات شعرية عرفانية تُنْتَسَجُ، على التوالي، ضمن المتواليات الكبرى التالية : 1 -الشوق = أما النصوص الشعرية التي تحتضن، وتستبطن موضوعته بكل الألق، فهي: ولادة - عابر تنبجس من عروقه الأسماء - أثبتني تجدك حروفا باسم النقطة تتجلى - يد النقطة. 2 - المجاهدة ونعيم الشقاء = والنصوص الشعرية التي تستبطن موضوعته يحفها ويخترقها خيال خلاق : لاميا -كسنبلة الماء - حديقة في مهب الظنون - أوراق لزهرة تتجرع ليل الوأد- جدي الفضي - جلنار - انتفاشك غيهب وخطاي مزولة الحدوس. 3 - الوصل والاتصال: وهي نصوص استبرت بإدراك العارف، دخائل الإنية والهوية والمطلق : مياه التسرنم - المنازل - مثل صواحب يوسف - ماء الضراعة- سنبلة الحلول - مخاطبة. أما قبل، فإن ديوان «حانة الروح» هو ديوان الإنشاء والانتشاء، الإنشاء في بعديه : اللغوي والاصطلاحي من حيث هو بناء وخلق، وكشف وبوح، ونشر للسر الآدمي، سر احْتراق الشاعر بنار التوق والشوق والحب، لا السر الإلهي الذي نجح آيت وارهام في الإبقاء عليه، وكنزه طي لغة شعرية أرادها أن تكون دَوَّارة، رَوَّاغة، سوريالية أحيانا، ومستعصية لتعمل على الحجب والستر، والإسدال. وانتشاء لأنه جماع ذكي للخمرة والمرأة والطبيعة، والآدمية، والإلهية. فبالأقانيم الثلاثة الأولى، يستدعي الجمال، في كل تجلياته، إلى أطواء النصوص، كما فعل أسلافه المتصوفة الأفذاذ حين جعلوا من الخمرة في دلالتها الفارضية (ابن الفارض) تحديدا، سلما إلى التحليق في الأجواز العليا، وذريعة إلى النشوة، والانتشاء في حضرة الجمال والجلال. ومن المرأة معادلا موضوعيا للفتنة والسحر، والخلق، والولادة المتجددة، والفيض المتواصل. ومن الطبيعة، بكل عناصرها ومكوناتها الترابية والنباتية والبحرية والحيوانية، مجلى للحضرة الإلهية، ومرآة للكمال الذي ليس غير جمع ?في العمق- للجمال والجلال. ومن ثمة، بات لازما لازبا، أن نعلن، من دون مواربة، أن «حانة الروح» عنوان على شاعر صوفي، وصوفي شاعر، أدركه اللهيب الأزرق، والجمرة المرجانية، فراح يوقع شعرا حضور الإنية والغيرية في ذاته، ودوران الكون برمته، بعوالمه العلوية والسفلية على تلك النقطة باعتبارها الدليل القاطع على هذا الصنيع فادح الجمال والجلال. فمن لا يتأيد بتأييد الحضرة العلية الأرفع، «لا يخرج من ظلمات الحواس، ولا تصفو له شهوات الأنفاس» فيما يقول الشاعر. يقول صوت الحق بالصوت الفصل : «إن رأيتني اكتملت». وها قد رأى، وفني فيما يعني الكمال والإكتمال، لأن الاكتمال محو، وعودة إلى الصلصال، أو ما قبل الصلصال.