الميلودي شغموم من الأ سماء الروائية العربية البارزة والخبيرة في المشهد الروائي المغربي، يكتب ولا يزال، نصوصا سردية تنسج حكايات تؤسس للتخيل، وتبحر في الأزمنة مشاغبة ومجربة. كاتب مائز، يزاوج بين الكتابة والتفكير، بل يشغل الفكر في الحكي، والحكي في التفكير: - لنبدأ أولا بالكتابة وجدواها، لماذا تكتب ، وما الذي تريد أن تقوله عبر الكتابة؟ - سؤالان مختلفان، لماذا تكتب وماذا تريد قوله، في الأول كأنك تسألني لماذا أعيش، أو لماذا أدخن أو أتنفس، وفي الثاني أتصور أن الكتابة، والاستمرار في ممارستها، خيار وأكثر من هذا أنها خيار وفق برنامج أو هدف سابق علينا، فنحن نأتي إلى الكتابة كما يأتي شخص آخر إلى الموسيقى، أو إلى أي نوع من الرياضة، تجد بعض المتعة في اللعب، اللعب بالكلمات، في حالة الكتابة، في محيطك الصغير، ثم تتولى الصدف الباقي، صدف كثيرة، متنوعة، تبدأ من اكتشاف كتاب، أو صحيفة، أو لقاء، وتنتهي بالنشر، أو القراءة، قبل أن تصبح عادة، مثل التدخين، أو التعود على القهوة، في وقت معين، أو حرفة تمارسها لتعيش منها أو تؤدي من خلالها وظيفة، وقد ينتهي بك الأمر إلى ألا تتقن شيئا آخر، أو تجد لذة، في غير الكتابة، فتصبح الكتابة مثل الدواء اليومي أو مثل المخدر، إن لم تصبح هي المرض بعينه. آنئذ يصبح سؤالك الثاني مهما: ماذا أقول أو ماذا أريد أن أقول بناء على ما قلت حتى الآن وتوقعا لما سأقول، الخ... تساؤلات حول المعنى، أو القيمة، أو الجدوى، من الكتابة والاستمرار فيها... ولاحظ أن هذه الأسئلة لا تقف بك عند حدود الكتابة و لكنها تتعداها إلى كل حياتك ونمط وجودك وأن الأجوبة عنها قد تطول وتتشابك وفيها ما هو ممكن وما هو صعب وما هو غير ممكن إلا لدى من يزعم القدرة على الإحاطة العالمة بكل أسرار حياته وأفعاله. على مستوى الممكن أستطيع أن أقول لك أمرين: الأول، إن من يكتب، كمن يتكلم، قد لا يعرف شيئا، ولكنه يجد متعة في الكتابة، وعليه فإنه لا يريد أن يقول شيئا آخر غير تلك المتعة. الأمر الثاني، إن المتعة تكتمل أكثر عندما تكون مشتركة، أو متبادلة، أي أن الكتابة تحتاج إلى القراءة، إلى قراء، إذن إلى نشر. من هنا ينشأ ذلك البند السري في العقد ما بين الكاتب والقارئ فيستمر الكاتب أو ينتهي! - بدأت قاصا، ثم انتقلت إلى الكتابة الرواية ، هل قدر القصة أن تبقى متروكة مهجورة كما الزوجة الأولى؟ أم هي رغبة دفينة؟ -زر موقعي على الانترنيت تجد الجواب: إني ما زلت أكتب القصة. وأنا لا أفاضل بين القصة والرواية إلا من زاوية واحدة: القصص التي كتبت تبدو لي أقرب إلى سيرتي الذاتية، فيها الكثير من عناصر هذه السيرة، فهي، إذا جاز التعبير، أسطورتي الشخصية، إلى حد ما، بينما الرواية أسطورتي المجتمعية، إلى حد كبير، مع ملاحظة أن ما يدخل إلى الأدب يفقد أصله فالتاريخ، مثلا، عندما تتناوله رواية، من تلك التي نسميها تاريخية، لا يبقى كما هو في علم التاريخ. - بماذا تطالب الرواية لحظة ممارستها، بقول الحقيقة والمسكوت عنه، بواقع بديل يقاوم الفجيعة ؟ ماذا تنتظر منها تحديدا؟ - أن تبني حكاية محكمة لم يخلقها غيرك ولو بطريقتك، كما تحكى النكت والطرائف وتختلف من شخص إلى آخر، حكاية محكمة البناء، متعددة الأبعاد، مثل الحياة والبشر، تمتع وتسائل، يسكنها، ويحركها، طفل اسمه الإنسان بكل براءته وشقاوته و سعادته و شقائه، الخ...أي إنسانية الإنسان، بأعمق ما فيه وما هو أشد هشاشة وقوة: تأمره، مع نفسه، وصراعه، مع محيطه، ليظل حيا ويقترب أكثر ما يمكن من المثال الإنساني بينما الرواية تسعى إلى أن تقترب من النص المثالي ولكنها مثل الإنسان تسعى ولا تصل، تقترب فقط، وقد يكون مجموع ما كتبت، من هذه الناحية، هو نموذج مثالك، صورة من تحققاته الممكنة ! - للعناوين أرقها وسلطتها في تحديد اهتمام القارئ، وفتح شهيته للدخول إلى عالم النص ، في نفس السياق ، عناوين رواياتك تمتاز بالغرابة ، كيف تختارها ؟ ومن أين تأتيك؟ -كل عناويني اختيرت لتضيف بعدا آخر إلى متنها لتكون شيئا إضافيا للنص وليس لتلخيصه أو تكون زائدة عليه. إنك إذا غيرت، أو حذفت، عنوانا مثل «عين الفرس» أو « فارة المسك» أو « المرأة والصبي» أو «خميل المضاجع» تقوم ببتره وتكون كمن حذف منه الحوارات الوظيفية، مثلا، ولم يحدث أن فكرت في عناويني بغير هذه الطريقة، مازلت مخلصا لهذا الاختيار حتى الآن، أمارسه على أساس أن العنوان عتبة ولكنه مكون أساسي من مكونات البيت! - انطلقت في تجربتك الروائية بنص « الضلع والجزيرة « وتواصل هاجس التجريب في كل أعمالك اللاحقة، فهل في هذا الاهتمام بالتجريب رغبة في مراضاته حبا وشغفا، أم هو الإيمان بأنه لا قيمة للكتابة خارج التجريب؟ - الجواب قد يختلف باختلاف رؤيتنا إلى التجريب، فهذا المفهوم، كما تعلم، لم يعد يعني، في الغالب، أكثر من أن تكتب رواية، مثلا، تكون كل شئ غير ما سبقك، وهذا بعد أساسي في تعريف كل إبداع. وهو قد كان يعني، من جملة ما يعني، أن تكتب كل شئ غير رواية كلاسيكية كأن الرواية الكلاسيكية سبة، بينما هي أكبر مدرسة لتعلم فن الرواية، ولا تضاهيها في ذلك إلا الرواية البوليسية. وهو، من جهة أخرى، يرفع كشعار للثورة، أو التمرد، كأداة سحرية ستمكنك من إنجاز المعجزات، وكأن هذا الموقف ليس في صلب كل روح مبدعة، أو كأن من لا يرفعه لا يبدع شيئا ذا بال. كنا قد رفعنا شعار التجريب، في نهايات الستينيات وبدايات السبعينيات، كشعار من شعارات ذلك الوقت، وكان ذا حمولة سياسية أكثر منها أدبية، وقد كان حافزا على التجاوز ولكن هل أدى هذه المهمة كما تصورناها، أو حلمنا بها، آنذاك؟ وهل يبقى من حقك، بعد تحقيق تراكم معين، أن تظل تعلن أنك كاتب تجريبي؟ ألا يصبح هذا التراكم مقيدا لك؟ ألا يشكل نوعا من التاريخ بدوره، الذي يحتاج إلى من يتجاوزه، سواء دخل إلى التاريخ أو بقي على هامشه؟ لقد أصبحت أتحفظ كثيرا من وصف أعمالي التالية بالتجريبية: لنترك لكل جيل جديد أمر التجريب بكل ما فيه من وهم، وسحر، وغموض، وقوة، وحدود! - تفسح رواياتك المجال للعناصر العجائبية التي تنفلت من المنطق، كي تشارك في صنع الأحداث والتحكم في مصائر الشخوص وتوجهها ، كيف تنظر إلى العجائبي وكيف توظفه في ما تكتب؟ - ذلك مكون من مكونات التجريب كما استعنا عليه بالعجيب، والغريب، والخرافة، والأسطورة، أو التاريخ، أي أعدنا ربط علاقة جديدة، مع ذاتنا، بواسطته، وأتاح لنا إمكانات إضافية للبناء والتكثيف، ولكنه كان كذلك تقية قوية ضد الرقابة في تلك الظروف! - حضور الجسد في رواية أريانة، يسمح لي بالسؤال عن مرجعيات الجسد عندك ، هل هي فلسفية أم ذاتية؟ أم هي رؤية المبدع لهذا الجسد بحياته وفنائه؟ - لا أستطيع أن أستثني أي بعد من الأبعاد التي ذكرت. فلقد تعلمت، بفضل الفلسفة، أن الجسد هو أداتنا لمعرفة العالم واكتشافه ولا نستطيع اكتساب حتى أبعاد المكان، منذ الصغر، بدونه. إن الجسد ليس هو البدن أو الجسم، هذه الكتلة من الشحم واللحم، ولكنه هذا المجمع الحي من قلب وذهن وإحساس وحتى الخيال، الخ...إنه مركز وجودنا الذاتي والموضوعي معا، به نعيش ونعايش، أو ننكمش ونموت، إذن نكتب، نكتب عن الحياة والموت، عن السعادة والشقاء، عن الإنسان الذي يتكون من هذا الجسد ، ليس أكثر من هذا الجسد. لذلك تجد حضوره قويا في كل النصوص القوية، في كل اللوحات، وفي الأفلام، وماذا يكون فن مثل النحت، أو التصوير، غير هذا الجسد؟ - «شجر الخلاطة «اقتضاب : في السرد ، في الشخصيات، في الحدث، في المكان ... لماذا كل هذه الاقتضابات؟ هل لأن إيقاع العصر مكوكي وسريع؟ أم أن القارئ لم يعد له ذاك الخاطر الواسع للسرد المطول؟ - أردت أن أجرب كتابة نص بدون وسائط تقليدية مثل: نظر إليه غاضبا وقال! حاولت أن اخلق الوصف، مثلا، من الحوار، وهي طريقة قديمة جدا قد نجد أنجحها في محاورات أفلاطون، أن أنجز حوارا لا تستطيع أن تزيل منه شيئا من غير أن تزيل أهم مكونات الرواية، بدون حتى الاستعانة بوسائط الحوار في المسرحية أو السيناريو، أي شئ من لزوم ما لا يلزم. لذلك عانت هذه الرواية من صعوبات في تلقيها عند بداية صدورها وهناك من المحسنين من اعتبرها علامة على نهايتي حتى صدورّ خميل المضاجع «! - حضرت المدينة بشكل مكثف في رواية «المرأة والصبي«: الرباط ، مراكش، الصويرة، والدار البيضاء ... هل هي تداعيات الذاكرة أم أن بناء الشخصيات ورسم عوالمها الداخلية يؤديان إلى الالتصاق بالبناء المعماري؟ - أولا، هذه رواية رحلة، فمن الطبيعي أن تحضر فيها أماكن الرحلة. ثانيا، إن محور الحكاية فيها هو البحث عن لوحة قديمة قد ضاعت فكان لا بد أن تجري في أماكن قديمة على الأقل قدم تلك اللوحة. ثالثا، إن تيمة اختفاء القديم لا يمكن أن تتحقق في أماكن جديدة. رابعا، إن ما يهمني من المدن ليس هو المدينة بعينها ولكن قيم المدينة. وهكذا أفهم قولهم إن الرواية بنت المدينة. هي بنت قيم المدينة حتى عندما تجري في بادية وإلا، أو لذلك، أستطيع أن أخلق المدينة التي أريد، كما فعلت في روايات أخرى، تتحقق فيها قيم المدينة، بخيرها وشرها، ولكن بشكل أفضل. - رواية «الأناقة« ومؤلفك «تمجيد الذوق والوجدان«، هل هي صدفة ؟ أم تتمة لتمجيد للاشتغال على رشاقة وجمالية الرواية ؟ - من حين لآخر يهرب مني فكري إلى بعض القضايا التي أكون قد لاحظت أنها لا تطرح بالمرة، أو تطرح بشكل مغلوط، أو غير كاف، وربما بطريقة قد تم تجاوزها، فأحاول، مثلا، أن أعيد التفكير في مفهوم الأديب، أو في موضوع الأدب. ولكني بدون علاقتي بالفلسفة، وممارستي للأدب، ما كنت لأقوم بذلك: هوامش أخرى أشتعل عليها حين أجد الوقت خارج الأدب! - ماذا عن اللغة، وكيف ترى دورها في أعمالك الروائية ..وسيلة أم غاية، أم الاثنين معا؟ - منذ مدة طويلة وأنا مقتنع بأن اللغة ليست، وبأي وجه من الوجوه، مجرد وسيلة أو أداة: اللغة هي جسدنا الثقافي، بالمعنى الذي سبق أن تحدثنا عنه، وهي، بمعناها الواسع، أهم مكونات ذلك الجسد. وأنت تعرف ولا شك أن البنية اللغوية ليست بنية لسانية فقط ولكنها كذلك بنية نفسية واجتماعية وفكرية وروحية ولا تخلو من حمولة تاريخية أو حضارية والجانب اللاواعي فيها، والمتحكم فينا بهذه الطريقة، أعظم من الجانب الواعي. ولهذا حين تكتب بلغة معينة فإنك، من جهة، تعكس كل هذا في ما تكتب، أو هو الذي ينعكس بالضرورة، ولكنه لكي ينعكس ينبغي أن توظف كل مستويات وسجلات هذه اللغة ثم إنك، من جهة أخرى، يجب أن تتحكم قذر الإمكان في هذا الانعكاس لتستطيع تمرير قولك أو كلامك الخاص: معركة كبيرة وحقيقية! - يقول الناقد الحبيب الدايم ربي إن «القارئ لرواية «الأناقة« يتوقف عند الجانب الأسطوري على مستويين: مستوى البناء المعماري من جهة ، ومستوى البناء الأطروحي من جهة أخرى، بالمناسبة، أود أن أسألك: أتراك تلتفت للأسطورة حين يعجز الراهن عن البوح؟ أم هو تطوير لسردك الروائي بناء وتخيلا؟ - الحبيب على صواب: الرواية اليوم هي أسطورة زماننا بالرغم من أن أبطالها لم يعودوا آلهة أو أنصاف آلهة، أي أبطالا ممدنين، وإنما أصبحوا أناسا مثلي ومثلك، أو أقل منا أو أكثر، يقاومون من أجل إعطاء معنى لحياتهم، فهذا الأمر بدوره تمدين، يمكننا من إيجاد جوانب أسطورية في كل رواية. الأسطورة، من هذه الناحية، تتيح وسائل أخرى للتنويع والتطوير. ولكني لا أستطيع أن أقول إنها، بالنسبة لي، تطوير لأني قد بدأت بها في أعمالي الأولى. إنها لم تعد سوى تلوين. - في رواياتك ثمة لعبة روائية محاكة بطريقة يمتزج فيها الواقع بالمتخيل، ويختلط ما حدث، ويحدث، بما سوف يحدث، حدثنا عن هذه اللعبة ؟ - سر هذه اللعبة بسيط: كم تحلم، وتتخيل، وتتمنى، أو تتحسر، وكم تمارس من الجرائم والممنوعات، أو المكبوتات، في سرك، وكم تنام أو تعيش الكوابيس، كم تفكر، أو تتوقع، أو تخاف، أو تفاجأ، الخ...؟ هذه مكونات من أوجه الحياة، فلم نفرغها منها، مما نسميه اللاواقع، أو الخيالي، وحتى الجنون، ونحن نكتب رواية؟