اختلفت آراء الأدباء والنقاد حول تصنيف السيرة الذاتية كنوع أدبي متفرد، له ضوابط خاصة وتركيبة تميزه عن باقي الأنواع الأدبية، لكن الإجماع يكاد يكون حول مركزية ذات الكاتب فيه، في محاولة للتأريخ لمرحلة من الحياة، إن لم تكن كل الحياة، مع كل ما يحمله ذلك من لحظات بوح، انتشاء، وتوتر، وكذب أيضا. تعريفات متقاربة حينا، ومختلفة أحيانا أخرى للكتابة السير-ذاتية طرحها مجموعة من الأدباء والنقاد من المغرب ومصر في جلسة أدبية احتضنتها يوم السبت الماضي قاعة محمد بردوزي في إطار أنشطة الدورة الثامنة عشرة للمعرض الدولي للنشر والكتاب بالدار البيضاء. وانطلق الناقد المصري صلاح فضل في حديثه عن السيرة الذاتية من الرواية العربية وعناصرها الثلاثة الأساسية المتمثلة في الإيقاع والمادة الروائية والرؤية، معتبرا أن هيمنة كل عنصر منها سيعطينا، على التوالي، رواية درامية، أو رواية غنائية أو رواية سينمائية توثيقية. وأوضح صلاح فضل أن السرد في الرواية لا يتجاوز خمسين بالمائة من العنصر الروائي، في حين النصف الباقي يتطلب إقحام عناصر التخيل، والتأمل واللغة الفنية، ولولا ذلك لما كانت الرواية السردية فنا وإبداعا، ولظلت مجرد تاريخ. وخلص لأن «جوهر العمل الإبداعي هو عطر الوجود وجوهر التخيل». وشدد الناقد المغربي أحمد اليبوري، من جهته، على ثنائية الذاتية والموضوعية، معتبرا أن الإنسان يميل بطبيعته إلى الذاتية في التعبير، لكنه يمر بمراحل التكوين والاحتكاك ويغالب الذات إلى أن يصل إلى الموضوعية. وانتقد اليبوري بشكل كبير الخطأ المرتكب في النقد العربي، الذي يلجأ إلى الأدب الغربي لاستعارة مصطلحاته النقدية، وأوضح أن السيرة الذاتية عبارة عن تيار يسير في خط مستقيم تتوالى فيه الأزمنة والأحداث، وتفتقد ل «التوتر»، في حين أن الرواية تعتبر ابتكارا، أي «خلق شيء من أشياء أخرى». ويرى أن الغرب في تحقير دائم للسيرة الذاتية، في حين يعتبر أن الرواية عالم آخر تحقق تميزها من خلال طريقة صياغة التجارب الشخصية، وتعدد الأصوات الذي يعكس التباين الذي تعرفه بنية المجتمع. ويؤكد اليبوري أن الرواية لا توجد إلا عندما يقص الكاتب ذلك الحبل الذي يربطه بالسيرة الذاتية، «فهو لا ينقلها، بل يتغذى منها». وفي المقابل، اعتبر الباحث المغربي عبد الرحمان طنكول أن حضور الموجز السير-ذاتي لا يقتصر فقط على الثقافة الأدبية العربية، لكنه يتخذ أشكالا مختلفة، فمنها ما هو معلن عنه، ومنها ما هو مضمر، ومنها ما هو نوع من المشاكسة الروائية والسير- ذاتية،لكنها تظل في الآخر مختبرا دائم الاشتغال يتميز بالتجديد والابتكار. ويلاحظ طنكول أن ثمة محاولة للعودة إلى الأشكال البسيطة، والخروج من ظاهرة التجديد، كما لو أن جميع أشكال السيرة الذاتية قد استنفدت، واعتبر أنه لا يمكن التنميط لهذا الشكل الأدبي، كما هو حاصل مع المسرح والشعر. وفي تصوره، فإن السيرة الذاتية هي نوعا ما «فوق - فوق» أي أنها تتجاوز وضع ال «بين - بين»، أي أنها بلغت شكلا جديدا يعكس شكل الذات وشكل الحياة. ويرى الكاتب والناقد المغربي أحمد المديني أن السيرة الذاتية تضع الشخص أو الأنا في مجال موضوعي، وعندما تتدخل الذات، فإنها تجري تحويرا وتعديلا لذلك العالم، لذلك فإن «عملية التمثل، والانتقال والتحويل تستخدم فعل «التذويت»، وتعتمد وسائط الكلام بكل تقنياته والخيال والبلاغة، ما يسمح للأنا بالتحرك داخل مضمار الأدب، بكل ما في ذلك من مكاشفة، بوح، تخييل وكذب (بتعريف البحتري). كما ذكر أنه، في انكبابه على تأليف «حياة أخرى في باريس»، يجد نفسه يتساءل عن الدوافع التي جعلته يختار سرد حياته الجديدة في فرنسا، والتي تختلف عن حياته الأولى، ربما لأن الرواية ليست قادرة على احتواء كل تجاربه وهمومه السابق، أو هي تكرار لتجربة جديدة كما فعل أسلافه (طه حسين، سهيل إدريس...).وخلص في النهاية إلى أن السيرة الذاتية غير معلقة بالذوات فحسب، بل بكل المكونات الوجودية ذاتا وعالما. ومن جهته، اعتبر الروائي عبد الكريم الجويطي أن السيرة الذاتية تطرح سؤالا فيلمولوجيا تتقاطع فيه عناصر الزمن، الذاكرة والكتابة. ويرى فيها «محاولة للاستحمام في نفس النهر مرتين» حيث يدعي صاحبها أنه «يمتلك الماضي»، وهو أمر صعب أو مستحيل، حسب الجويطي، لأن علاقتنا بالزمن متقلبة، فيها ما فيها من الكثافة والتقطع، ويأتي خيار الكتابة ليحاول فقط تحرير الذاكرة، مضيفا أن تطور تلك الكتابة يتغير بنضج مجتمع المدينة والحداثة، حيث يحاول الفرد الانفلات من سطوة الجماعة.