1 اتسمت السنة التي ودعنا بحيوية ملحوظة في باب البحوث الأدبية والدراسات النقدية، دليل آخر على أن المشتغلين في هذا الميدان في ازدياد،وأعمالهم تواصل تراكمها العدّي وتميّزها النوعي، موسعةً ومطورة لأنواع البحث الأدبي ومجددة في مناهجه، ومتطلعة نحو آفاق لم تطلها في السابق، باستعمال أدق وأعلم للمفاهيم والمصطلحات والأنساق النظرية. ولعل الأكثر توفيقا الأعمال التي ينتجُها الجامعيون، ذوو العُدة العلمية والحنكة المنهجية والمراس في قراء النصوص وتدريسها،وبين هذه ما يخطه على الخصوص يراع المتمرسين حقا بالحقل الأدبي، لهم فيه باع طويل محتدا ومعايشة وعطاء، فإن هذه المعايشة تؤهل صاحبها لمعرفة أفضل للنصوص وظروف العمل الأدبي، وصولا إلى أمزجة الكتاب ومناخ الكتابة. 2 نجد في رأس قائمة هذه الأعمال الكتاب النقدي الذي ألفه الدكتور رشيد بنحدو،الأستاذ بجامعة محمد بن عبدالله، والمترجم المحنك، والدارس، والناقد، والمنخرط عضويا في الحقل الثقافي ببلادنا منذ مطلع الثمانينات، انطلافا من فاس العامرة، وهي عاصمة علمية، وامتدادا إلى آفاق قريبة وبعيدة، وطنية وأجنبية،جاب وما زال فيها يحلق. إنه كتاب:»جمالية البين بين في الرواية العربية»(منشورات مؤسسة نادي الكتاب بالمغرب،فاس،2011،417 صفحة من القطع المتوسط)، وفيه تستطيع أن تقف عند هذه الخصائص والخصال وهي مائزة،مجتمعة ومتذررة، منضدة في المفهوم، منسقة في النظرية، ومبسوطة منمقة في العرض والتحليل، مؤشرة في سياق تاريخ الأفكار مثلما هي متبلورة في منهجية الدارسين، وعبر نصوص المنشئين وفي مرآتها بالدرجة الأولى، باعتبارها العاكسة ومشتل الأغراس الإبداعية. ولكنك لن تبلغ لب هذه الدراسة، وتستوعبها على أحسن ما يجب إلا إذا استحضرت شخصية صاحبها وبالذات فيه مساره الشخصي، أعني نوعا ما سيرته، لأقل بالنسبة لعموم القراء العامة، ولمن تواصل به الخاصة بعض الشيء. لاشك أن هذا التوجيه، الطوعي منا على كل حال،يبدو مفارقا بعض الشيء ما دمنا نتحدث عن عمل نقدي بمواصفات منهجية علمية، يفترض فيها استبعاد الذاتي كليا، غير أننا لا نعرف نشاطا مهما تنمذج موضوعيا لم يستسق بطريقة ما من معين الذات،بالحافز أو الاستلهام، بله من السيرة الشخصية لصاحبه،هو الشأن الحاصل هنا. ذلك أن البينية هي القالب الأنسب لرشيد بنحدو، لمسها فيه عن كثب أصدقاؤه، وطلبته الذين أخلص لهم ومحضوه ثقتهم، فوجدوا عنده أهلية الأستاذ الجامع، درسُ الترجمة التي هي عنده، خلافا للهواة والعابرين،إن لم أقل العابثين،اختصاص جدي يتحول إلى درس للنقد الأدبي،وهذا للمصطلحية، ومنها للمناهج، وفي السياق ذاته نظرية الأدب، وما هو توزع أو تبعثر، ولا حتى استطراد(جاحظي) بل نزوع إلى الشمول، واختيار فكري وقر في عقل صاحبه بأن هذه المعارف والدرايات متصاهرة متكاملة، وهل يمكن حقا اليوم الخوض في السرديات دون استحضار المصطلح السردي الذي يعد سجله حديثا جدا كلية، ويتطلب من السردانيين العرب،الذين يعد الأستاذ بنحدو في عداد أبرز مجتهديهم، منهجية واصطلاحا، بذل مجهود غير مسبوق، إن أرادوا تفادي النزعة الإسهابية، وإرسال الأحكام على عواهنها. ما أحسبه في هذا المضمار إلا حمل على عاتقه مواصلة ذلك الجهد الريادي الذي بدأه أساتذة لنا في كلية آداب فاس الستينات،أعلاهم عندي أستاذي محمد السرغيني، أطال الله في عمره. 3 ينتظم هذا البحث في مستويين: الأول، تمهيدي نظري، يحدد فيه الباحث: أ نوع مقاربته، وما حفزه لبلورة موضوع بحثه، والمسوغات من وراء ذلك. ويمكن إجمال ذلك كله في انتباهه إلى أنه عمد دائما في قراءته للرواية المغربية والعربية عامة، إلى وقوفه عند خاصية جمالية تتمثل في»تذبذب النصوص بين مقتضيين(أو أكثر)» إما بين شكلين أو تقنيتين سرديتين أو رؤيتين للعالم، الخ.. ويريد الآن الانتقال إلى تأطير هذا الاهتمام بنقله إلى صعيد متصورات تجريدية ومصطلحات دقيقة:» بطريقة يزدوج فيها التحليل النصي بالتنظير بالمفهمة». وقد وجد الحافز خاصة في كون نصوص بعض الروائيين العرب تواقة:»إلى الإقامة البرزخية في أفضية[ج فضاء] البين بين الفاتنة». ونراه يستند إلى بارت لاستلهام سيميائيته دعما لمفهومه البيني الروائي، باعتباره مقوما مناهضا للثبات، ويقصد تجهيز النص بمعنى ما هارب، وليس بالمعنى كاملا. ما يقوده إلى نظام للقراءة يهتم بإوالية دلالة هذا المعنى على نفسه في ما بين شيئين،أو ما يَصطلِح عليه ب»الاندلالية»، ومن ثم «فحص النسق الذي يتركب من خلاله معنى النص في مراوحته بين هذا وذاك»،أي المعنى في صيرورة تشكله. وينبغي أن يفهم من رغبة حصر المعنى عنده اندراجه في كونه لغة،أي نسقا من الأدلة، ورسالته كامنة في هذا النسق(بارت) وهو ما يقابله النسيج عند صاحبنا، وبمبنى النص، أي شكله الذي عبره يصنع الكاتب تقطيعا جديدا للعالم، وفهما ما لمعنى العالم. ب: في الشق الثاني من رسم الخطة النظرية والمنهجية،يسعى الأستاذ بنحدو إلى حصر نسبي للمجالات والإحالات التي يتم فيها تداول مصطلح البين بين،ومن ثم نقله إلى مستوى المفهمة. وهي عديد أمثلة، لغوية، إشارية، اجتماعية، ثقافية، فضائية،زمنية، سلوكية، بما يفيد في النهاية توفر مفهوم البين بين على قوة تداولية كبرى، يبقى مرجعها الأساس تعريفه المعجمي الأول، انطلاقا من لفظة»بين» في اللغة التي هي ظرف يفيد: وسط شيئين؛ الفرقة والوصل؛، وكذا موقع مُركب»بين بين» في وضع الثنائيات المتعارضة. وتشمل إحالات الباحث لتعضيد طرحه المفهومي تجذيرُه في التحليل النفسي، والمضمار الهوياتي، والمجال السوسيولوجي، إضافة لمبحث الأنتربولوجيا الثقافية، فضلا عن الحقل اللساني المتصل مباشرة بتجربة التنقل بين الكتابات واللغات،وإلى اللغة المتعددة. يبغي الباحث من وراء نشر هذه المروحة الانتقال إلى بسط المناهج والاختيارات النظرية المطروحة في النظرية الأدبية للمفهوم، منها ما يمكن تطبيقها وقراءة النصوص المختارة عنده على هديها، من حيث تخضع لمنظور البينية، وتتوفر سلفا على هذا المكون أو تنقضه. نشير إليها باختصار شديد (نصية بحت؛ متعلقة بهوامش النص؛ مناهج تاريخية، سوسيولوجية،بنيوية، سيميولوجية، وحتى توفيقية الخ،...). ج المتداول في الشعرية المعاصرة من مفاهيم تنهض على ازدواج بين بيني تكويني. منها ما نقرأ في الشكلانية الفرنسية من تمييز في النص بين»القصة»و»المحكي»(جنيت) أو بين «المتخيل» و»السرد» (ج .ريكاردو)، نستفيد من هذه الثنائيات مراوحة النص السردي بين مستواه التداولي، والآخر التركيبي. ومثله بالنسبة للمقاربة السردانية المتأرجحة بين ما هو تيمي(غريماس) وشكلي/صيغي(جنيت). أضف»حوارية»باختين للعلاقة المابينية مع نصوص سابقة، بصيغ التهجين، والأسلبة، والتنويع..ثم في السياق ذاته تناص كرستيفا، وصولا إلى ثنائية المطلع/ المقطع، ومفهوم عبر النصية، والنص الجامع، وهلم جرا. 4احتاج رشيد بنحدو إلى هذه المقدمات والاحترازات، والترسيمات المنهجية جميعها ليسلمنا إلى مضمار التحليل حيث تبرز تجليات البين بين في الرواية،لا كلها، ولكن ما تخيّر منها حسب، يحدده في أربعة أسئلة بالذات سيسعى للإجابة عنها في مدار كتابه، تتمحور حول: آثار البين بين في الرواية العربية؛ كيفية تدبيرها نصيا؛وظائفها الممكنة؛أسباب نزوع الرواية للتنقل بين الشفرات واللغات والأساليب والأشكال. إجابات تنبثق من لحم نصوص روائية مغربية عربية لكتاب متوفرين على مدونة روائية باتت مصنفة، ويتم تقليبها في ضوئها، متنٌ مكون من أربع وعشرين رواية مغربية ومشرقية،بين اللغتين العربية والفرنسية، للمؤلفين عبد الكريم غلاب، محمد شكري، محمد خير الدين، الطاهر بن جلون، محمد عز الدين التازي، محمد برادة، يوسف القعيد، إدوار الخراط، وكاتب هذه السطور. وبالنظر إلى ذخيرة هؤلاء الكتاب الكمية والنوعية، المشهود لها، يبدو المتن المختار مقنعا وملائما للاستجابة للمتصور النظري والمنهجي للدارس، الذي حرص على الاحتفاظ لنفسه بحقه في أن يتنزل بدوره»بين منزلتين»، مقحما ذاته لينتزع ما يسميه حقه كقارئ، مقررا أن هذا بالذات:» هو جوهر تصوري الشخصي للقراءة النقدية»(16). لا بل نراه يذهب أبعد متحدثا عن شيء يسميه متخيل الناقد،على غرار متخيل الروائي(17)، مما يدفع إلى التساؤل، من بين نواح أخرى، عن مدى تماسك القراءة، وضبط المنهج والمفهمة، التي لا نعلم أنها تتصل بالذوق(الذات) ولا أي متخيل، صانعة بينية إضافية،خانة قرائية بين الدرس والنقد(!). 5 لنلق الآن نظرة على بعض تجليات البين بين،(النّوَسان) مصطلحا، مصدر لفعل ناس، حيث مختبر العدة الموصوفه واجتهاد القراءة. تقرأ متن غلاب كله تقريبا، من «سبعة أبواب» إلى» شروخ في المرايا»،بالتركيز على مادة المطلع الروائي، بوصفها برزخا نصيا، وباعتبار مطالع روايات صاحب»دفنا الماضي» تمثل بين أمور أخرى مجالات لتنافذ وتنابذ بين جوهرين متعددي الأشكال: ما قبل/ ما بعد؛ غياب/ حضور؛ تعددية/ لزوم. زيادة على كونها ثمرة مراوحة خفية بين واقع جاهز، وكتابة هذا الواقع، بمعنى أسلبته. مع محمد شكري تطرح مسألة البين بين في درجة اختبار إلى أي حد تكون سنادا للسيرة الذاتية بقدر ما هي دعامة للمتخيل الذاتي. هكذا يتراوح نص «الخبز الحافي» بين الصقيل المكشوف وما يحاول إخفاءه، وبين الافتقار إلى صفة» الأدبية» وحيازته لها، والتذبذب بين الجهر والإضمار، من البوح المطلق إلى الانتهاك الفضائحي، مقابل الانتقاء حد التسامي والانتقال الزمني: طفولة، مراهقة،زمن الكتابة، والفضائي: فضاء الكاتب، فالماضي، ففضاء القارئ. تجاذب اللغة بين نزعتين متعارضتين: الشفاهية والكتابية، نحويا وقاموسيا وإصاتيا. ويختار بن حدو للطاهر بن جلون روايته»حرودة»(ترجمها هو نفسه إلى العربية) ليتقصى فيها جمالية البين بين، ومستخلصا وجود تجاذب بين لغتين:(فرنسية وعامية مغربية)؛ تقريرية واستعارية، وتذبذب في الانحياز إلى الواقع، والانزياح عنه، ووجود بنية ازدواجية. ازدواج إيقاع الحركة بين ظهور حرودة واختفائها؛تبني الرواية لتركيبة ثنوية يزدوج فيها المرجعي بالمفارق. تأرجح الرواية بين محاكاة الواقع ومحاكمته. بينما يتشيد المتخيل الروائي عند محمد خير الدين على تنوع وتعدد الانتحاءات بناء على رفض صاحبه لفكرة الثبات، ووقوع أدبه في جغرافية «بين هنا وهناك»، ما يجعل نصوصه:» تنكتب في ما بين ذا الحد وذاك، فإذا هي لا هذا ولا ذاك(...) ولا شك أن هذه الخاصية جعلت نصوصه في نوسان حر ودائم بين كذا وكذا،وكأن الأمر يتعلق بعنصرين متناغمين لا أثر فيهما للتنافر.» (257). فيما تتجلى البينية عند إدوار الخراط في نهج سردي يعطيه مؤلفه تسميات عدة،أغلبها «الرواية عبر النوعية»وهو ما يعرضه بن حدو في صورة أن يترجّح النص بين كونه رواية (معياريا) وكونه لا رواية (نزوة؛كولاج؛ تنويع، كعتبات، أو علامات مشفرنة286)، هذه السمة الأساس التي إذ تعبر عن ما يحب الخراط تعميده ب»الحساسية الجديدة» هي ما يرى الباحث، في خاتمة تحليل وتفكيك مُفصلين ومفخخين في كل خطوة بالمصطلح السرداني والنقدي مترجما باجتهاد،أنها تؤول إلى « نوع هجين يدين بشكله للجمالية الشذرية»(350). 6 هي مصاحبة ما قمنا به مع كتاب» جمالية البين بين في الرواية العربية»، فهو عمل موسع في موضوعه، موسوعي نقديا في أسسه ومرجعياته، طريف في مقاربته، ومجدد، جرئ في وضع أطروحته المركزية بين عرض وشرح وتشخيص نصي وقواعد إقناع، قد اعتمد نصوصا راسخة، وسلط عليها أضواء معرفة أدبية ونقدية كاشفة كشفا باهرا، يزاوجها يحس نقدي ذوقي، أو شخصي، مقترحا ومتسائلا إلى أي حد يمكن اعتبار هذه الأطروحة في النهاية والكتاب عموما بمثابة لبنات أولى»لأفق بحثي جديد في النقد الروائي العربي، أفق يتم فيه تبئير الاهتمام على الكتابة الروائية(...) من جهة ارتهانها بالبين بين»(365). وليكن شروعنا في الجواب أول ملاحظة نقدمها على المشروع الطموح والجدي للكتاب، نرى فيها أن جميع النصوص الأدبية المعتبرة في الفن، بما هي تعبير عن الذات، وكشف عن الوجود وبحث في بالمصير الإنساني، بمقتضيات تعبير خصوصية، تتحرك جميعها في دائرة البين بين،أي أنها في هجسها وقلقها لا يمكن أن ترتكز على ثابت أو تقدم أي يقين، وإيمان الإبداع فيها مصدره الانفلات من القيود، وأفقه الحرية دائما. هي إذن، بينية بَدَهِية ويحتاج النقد، وأعلى منه الدرس الأدبي أن يرتقي مدارجها، ويذهب أبعد من وصف تجلياتها التي تحتاج من غير شك إلى خبرة ودربة أكيدتين برهن عليهما الدارس بلا جدال،إلا أنها تؤول إلى ما يشبه تحصيل حاصل؛ مران ينفع النقد بلا مراء بوصفه تمحيصا وتمرينات في تحليل النص بأدوات ومصطلحات معينة،أكثر مما يسعف النظرية الأدبية التي تنبني وتفضي إلى الاستقرار(وهو عكس الجمود) من منطلق دراسة النصوص الكبرى(الكلاسيكية) وهذه لم تعد بينية قط. نظن أن نجاعة المقاربة البينية هي في استخدامها الإجرائي، والإجرائي بالتعريف ما يصلح للقيام بعمليات منطقية، ولصياغة مفاهيم،وهو أيضا ما يستخدم لتجربة معينة وقيمته في هذا التطبيق وحده. فإذا أضفنا إلى هذا النزعة»المزاجية» التي تقحم الذائقة الذاتية للقراءة ومتخيل صاحبها،في المقاربة، وتنتهي حتما بأحكام القيمة، متخللة التحليل أو في استنتاجات الكتاب، نصل إلى أن هذه الجمالية، ذات مقتضيات نقد أدبية إجرائية، أكثر منها مفاهيم، ومن قابليتها للتبلور كنظرية أدبية وفي الدرس الأدبي. وماذا لو قلنا إنها فعلا معالجة بين بين، لأن مجترحها يناوب فوق رأسه، بالتعبير الفرنسي، قبعتين. وأيّ غنى هذا الذي يحفل به الكتاب لو أُخذ فقط من زاوية الاجتهاد والابتكار في ترجمة ونحت المصطلحات حد التخمة،وفي الجمع بين الاستشهادات والإحالات من كل صوب، لتصل إلى البين بين بين، وهذه قضية أخرى تحتاج إلى وقفة مستقلة، إنما تعزز في الأخير من فرادة هذا الكتاب وعلو كعب مؤلفه.