إن ظاهرة وصول الإسلاميين إلى الحكم تحتاج إلى مساءلة علمية لفهم دلالاتها وأبعادها وامتداداتها واستنتاج الدروس منها. وفي انتظار قيام الباحثين الخلص بهذا المسعى العلمي النبيل لا يسعني إلا أن أدلي بدلوي في النقاش الدائر حاليا معبرا عن وجهة نظري الخاصة. إن فوز الإسلاميين اليوم كان متوقعا منذ عقود بحكم اعتبارات كثيرة يمكن أن أجملها فيما يلي: أ- أخرت الأنظمة العربية، لبواعث عديدة ومتباينة، التداول الديمقراطي. وهو، من جهة، ما جعل الشعوب العربية تسأم وتتطيَّر من الوجوه نفسها التي تربعت على عرش الحكم عقودا طويلة ، وما عطل، من جهة ثانية، تجديد النخب، وإرساء دعامات الحكامة والمحاسبة، وتعزيز أخلاقية النقاش بالاحتكام إلى التفاهم اللغوي والبرهان الحجاجي ونبذ أساليب العنف والميز والإقصاء. وفي هذا المضمار، لا بد من الإشارة إلى أن الأحزاب المسيحية الديمقراطية لعبت دورا هاما في ترسيخ الأعراف الديمقراطية بأوروبا. ومع مر الزمن أضحت أحزابا عادية لا يجادل أحد في مرجعياتها الدينية. كما أن التدبير العمومي هو من صنع البشر وخميرة لاجتهاداتهم التي تحتمل الخطأ والصواب. وعندما نتوصل إلى هذه النتيجة، بفضل الممارسة والتقويم والنقد المستمرين، سيتيسر على الناس التمييز بين أحزاب ذات شرعية تاريخية وأخرى ذات شرعية شعبية. ب- اشتغل الإسلاميون في مختلف المنابر والأوساط لإسماع صوتهم والتنديد بالنزعة الإقصائية التي طالتهم، واستعملوا خطابا شعبويا للاستخفاف بمنجزات خصومهم وتحميلهم مسؤولية تفشي المظاهر السلبية في المجتمع ( الفساد الإداري والأخلاقي، البطالة، الفقر..)، ونظموا أنفسهم استعدادا للحظة الحسم أكانت عاجلة أم آجلة، وكيفوا خطابهم مع طبيعة المرحلة لتطبيع العلاقة مع مختلف الأحزاب والسياسية، وطمأنة المستثمرين ورجال الأعمال، والحفاظ على ثوابت الحياة العامة. وفي المنحى نفسه، ضرب الإسلاميون على الوتر الحساس لدى غالبية الساكنة فيما يتعلق بحسهم الديني واعتزازهم بأصولهم الإسلامية. وإن كان هذا العامل يعتبر إيجابيا في ترويج خطابهم على نطاق واسع، فهو قد يؤثر سلبا على شعبيتهم إن عاين المواطنون شرخا بين النوايا والأفعال، وهوة بين الشعارات الطنانة والممارسة الشاحبة. ج-لقد ساهم التدخل الأمريكي في أكثر من منطقة عربية في تأجيج مشاعر الكراهية حيال الغرب، وتنامي المد الأصولي في البيوت والمدارس والجامعات والإدارات. ومما زاد في انتشاره على نطاق واسع وجود مواقع كثيرة ذات التوجه الإسلاموي على شبكة الانترنيت. د-لما وصلت الأحزاب الليبرالية أوالاشتراكية-الديمقراطية إلى الحكم، وجدت مصاعب في تدبير كثير من الملفات المعقدة والمتراكمة، و تمتين سبل التواصل مع كتلتها الناخبة لإمدادها بالمعطيات والحقائق المناسبة، و تجديد نخبها بأطر شابة ومؤهلة. ورغم ما بذلته من جهود في تحقيق الأوراش الإصلاحية لم تستطع أن ترضي الرأي العام الذي كان متطلعا إلى نتائج أفضل. إن مثل هذه الاعتبارات، وغيرها كثير، قوت نفوذ الإسلاميين على نطاق واسع. لما وصل بعضهم إلى الحكم منذ عقود (إيران، السودان، أفغانستان، تركيا، قطاع غزة..) قدموا تجارب متفاوتة في نتائجها. مع ذلك تظل تجربة العدالة والتنمية في تركيا وحزب الله في لبنان من التجارب الرائدة لما أفرزته من نتائج ملموسة، ولما أعطته من أدلة على الانفتاح والتعايش والتواصل.وكان الإسلاميون ، في كثير من البلدان العربية،على وشك الوصول إلى الحكم لو احترمت إرادة الشعب. لكن الظرفية، حينئذ، كانت تدفع في اتجاه حرمانهم من الوصول إلى السلطة توجسا من اختياراتهم التي لا تهدد البلاد فحسب وإنما مصالح الغرب أيضا. وفي هذا الصدد، كثرت أساليب إقصائهم بتزوير الانتخابات أو بصدهم من ممارسة حقهم الذي خولته لهم صناديق الاقتراع أو بشن حرب علنية عليهم. وإن حرموا من الوصول إلى السلطة فقد استطاعوا أن يؤدوا « دور الضحية» التي لها الحق في الاحتجاج و الرفض سعيا إلى رد الاعتبار إليها. وهو مما زاد من تعاطف الناس معهم بدعوى «أنهم لو مارسوا حقهم في الحكم لتغيرت كثير من الأمور في المجتمع». مع تأجج شعلة الربيع العربي تحرر الإسلاميون من الخوف، ودخلوا تدريجيا في خضم ثورة الشباب التواق إلى الكرامة والحرية، وعرفوا كيف يسرقون الثورة من ثوار لم تكن لهم من مطامح غير تغيير النظام المستبد القائم. ولقد تجندت، في هذا الصدد، كثير من الفضائيات العربية لممارسة الدعاية للإسلاميين وبيان دورهم في إحداث التغيير المنشود. وهذا ما جعلها تؤثر التقنيات التطويعية (Techniques manipulatoires) على حساب أخلاقية المهنة الصحفية التي تقتضي الموضوعية والتحري وعدم إيثار طرف على حساب طرف مناوئ (الرأي والرأي المعارض). وجدت السياسة الأمريكية في هذا التحول المفاجئ فرصة مواتية لإعادة ترتيب الأوراق في العالم العربي (مساندة الإسلاميين المعتدلين) حرصا على ضمان مصالحها في الشرق الأوسط تحديدا، واسترجاع نفوذها على مختلف مناطق العالم (تحقيق حلم الأب الروحي للمحافظين الجدد الفيلسوف الألماني ليو ستراوسLeo Strauss)، والضغط أكثر على إيران للتراجع عن مواقفها وبرنامجها النووي، والحد ما أمكن من الخطر الإرهابي. وبالمقابل، بدأنا نعاين كيف أصبح الإسلاميون يرسلون « خطابات مشفرة» إلى إسرائيل التي كانوا يناصبونها العداء المطلق ويؤلبون الرأي العام عليها، ويغازلون الحكام الأمريكيين توددا لدعمهم، وسعيا إلى انتزاع « حسن السيرة» منهم. إن مطامح الإسلاميين تختلف من قطر عربي إلى آخر بالنظر إلى توجهاته السياسية، وطبيعة ساكنته، ونمط الحكم السائد فيه. قد يكون الخطر أكثر على مصر بحكم النفوذ الذي يمارسه الإخوان المسلمون والسلفيون في الأوساط الشعبية رغم اختلافهم المرحلي سياسيا وتنظيميا، و ذلك بالنظر إلى سعيهم الحثيث لنسج دستور على قيس توجهاتهم وأهوائهم ، وتبعا إلى مواقفهم التي يمكن أن ترتد بمصر سنوات إن لم نقل قرونا إلى الوراء. بدأ مشهد الفزع بتفجير عدد من المقامات في القلوبية ومقام الشيخ زويد بشمال سيناء، والاعتداء على تمثال جمال عبد الناصر بسوهاج وتحطيم تمثال سنوسرت الثالث بمدينة المنصورة، وتغطية تمثال حوريات البحر بالإسكندرية بقطعة من القماش. ولم يتوقف الخطر « الطالباني» عند هذا الحد بل تجاوزه إلى تحريم العمل في السياحة، واتهام روايات نجيب محفوظ بالرذيلة والفجور، ومنع الطلبة من الاحتفال، والدعوة إلى تغطية وجوه التماثيل الفرعونية وغيرها بالشمع، وفرض الحجاب على النساء، وتطبيق العقوبات المنصوص عليها في الشريعة الإسلامية مثل الرجم في حالة الزنا. حاول الإسلاميون في المغرب، وفي مقدمتهم حزب العدالة والتنمية، تجريب هذه الأشكال الدعوية والتطويعية لمنع ظاهرة الاستجمام في الشواطئ، وإغلاق أبواب الحانات والفنادق التي تروج فيها الخمور، والفصل بين الذكر والأنثى في الفصول الدراسية والإدارات والفضاءات العمومية، والتصدي لمهرجانات الغناء ... لكنهم اصطدموا بعقبات كثيرة يمكن أن نجملها فيما يلي: - مكونات المجتمع المدني حيث توجد فئة كبيرة من الحداثيين. - طبقة البورجوازية والتجار التي رأت في الشعارات المتطرفة تهديدا لمصالحها المادية وأعمالها التجارية ومشاريعها السياحية. - حركة المتياسرين ذوي النزوع الماركسي - اللينيني الذين لهم حضور قوي في صفوف الحركة الطلابية و في بعض القطاعات العمالية. وهم من يتحكم ، علاوة على حركة العدل والإحسان الإسلاموية» في حركة 20 فبراير التي مازالت مصرة على مواصلة نضالاتها واحتجاجاتها إلى أن تتحقق مطالبها. وهكذا وجد إسلاميو 20 فبراير أنفسهم محرجين في التعامل مع حكومة عبد الإله بنكيران واضطروا إلى مغادرة « سفينة الاحتجاج» بعد مغامرة دونكخوتية لم يجنوا منها ما كان متوقعا، وهو ما يحتم عليهم تبني اختيارات جديدة وضمنها الدخول إلى « اللعبة الديمقراطية» التي أفضت بحلفائهم إلى السلطة لمحاربة مظاهر وأوكار الفساد، وبالمقابل سيتعزز حضور اليسار المتطرف الذي له مطالب جذرية ذات توجه علماني للفصل بين المؤسستين الدينية والسياسية. - مكونات المجتمع السياسي ( أحزاب اليسار والوسط واليمين) التي رأت في المطالب الدعوية لحزب العدالة والتنمية توظيفا للدين في السياسة ( وهو ما يحرمه صراحة القانون الجديد للأحزاب)، وهجمة ممنهجة للارتداد بالتجربة الديمقراطية المغربية إلى الوراء، وعاملا من عوامل تأجيج الكراهية والعنف في المجتمع. وسينضاف إلى هذه العوامل عامل جديد يتمثل في تطبيق روح الدستور الجديد الذي يعلق عليه المغاربة قاطبة آمالا عريضة نظرا لكثير من إيجابيته المتمثلة أساسا في التوجهات الحداثية ، واستقلالية القضاء، وتنزيل القوانين التنظيمية، ومحاربة الفساد، وتخليق الحياة العامة، وإعمال الديمقراطية الترابية الجهوية المتقدمة، وحماية لحقوق الأقليات الفكرية والدينية والإثنية، ومنح المعارضة وضعا اعتباريا جديدا يمكنها من مراقبة الحكومة وتقصي الحقائق على أحسن وجه. إن حركية المجتمع المغربي وتعدد ثقافته وأصواته الإيديولوجية حتمت على حزب العدالة والتنمية تغيير نبرته الدعوية والتركيز على أمور دنيوية تهم الحكامة والفساد والتدبير . وهو ما ارتاحت له كثير من الأوساط التي كانت تناصبه العداء فيما قبل، وأضحت تنظر إليه كحزب من الأحزاب المحافظة التي تتنازع على تدبير الشأن العام. وقبل الانتخابات التشريعية الأخيرة وبعدها بدأ يردد عبد الإله بنكيران رئيس الحكومة الحالي وأمين عام حزب العدالة والتنمية أن « الحريات الفردية مسألة مقدسة لا يمكن أن يعترض عليها». وهو ما حفز المغاربة على إطلاق مجموعة من النكت والطرف المستملحة التي تبين أن هذا الحزب لم يبق متسامحا في القضايا الأخلاقية وإنما يحرض عليها ضمينا بضرورة الاستتار على المعاصي عند الابتلاء . وهو ما أكده رئيس الحكومة المعين في حوار على القناة الأولى يوم الأحد 4 دجنبر 2011 في الساعة التاسعة ليلا. وفي عدد جريدة لوسوار le soir المغربية (عدد 965 الجمعة 2 دجنبر 2011) خصصت محورا يهم موقف الفنانين المغاربة من احتمال تضييق الخناق على حرياتهم الفردية والإجهاز على مكاسبهم الفنية. ونورد في هذا الصدد موقف الفنانة لطيفة أحرار التي سبق لها أن تعرضت لهجمة شرسة من أعضاء الحزب نفسه لخلعها بعض الملابس في مسرحية فردية» كافور ناعوم « قامت بأدائها أمام الجمهور. وامتد التنكيل والتشهير بها على مستوى توزيع لقطات من المسرحية على مواقع متعددة وخاصة على موقع اليوتوب. « أحترم اختيار الناخب المغربي. إن حزب العدالة والتنمية هو حزب كباقي الأحزاب. قدم للناخبين برنامجا واعدا. يمكن أن نختلف معه لكن يجب أن يظل الاحترام متبادلا. لا يخيفني فوز هذا الحزب، ولا يمكن لأحد أن يرعبني. أضع ثقتي في ذكاء أعضاء هذا الحزب. وفي حال تعرض حريتي في التعبير إلى الانتهاك فإنني سأحتج. يمكن أن نحب شيئا أو نمقته. لكن ، كيفما كان موقفنا منه لا يجب أن يطاله المنع». وهو المنحى نفسه الذي سار عليه جميع الفنانين الذين عبروا عن رغبتهم في الاحتجاج والانتفاض في حال حصول تراجعات وانتكاسات في مجال الحريات الفردية وفي حال السعي إلى تكريس الردة الفكرية والثقافية. وما يلفت النظر إثر وصول الإسلاميين إلى الحكم هو تغير نبرتهم حيال الفن الذي كانوا، إلى حد قريب، ينعتونه ب» الأدب المشبوه». وبدأوا، خاصة في مصر، يدافعون عن عينة من روايات نجيب محفوظ باعتبارها حمالة لقيم إسلامية ( على نحو نعت رواية رحلة ابن فطومة بأنها « إسلامية قحة»)، ويستنكرون تهجم أناس جهلاء عليه والسعي إلى تصفيته جسديا، ويشيدون بدور السيد قطب في تقديم نجيب محفوظ إلى الساحة الأدبية، ويميزون بين المسلم والإسلامي ( يمكن أن يكون العلماني مسلم كما يمكن أن يكون للمسيحي توجه إسلاموي)، ويعتزون بموقف نجيب الكيلاني لتعليل أحقية نجيب محفوظ بجائزة نوبل استدفاعا للتهم الرخيصة والمجانية التي كانت توجه إليه لأسباب سياسية ودعوية ضيقة. وإن كانت هذه المواقف تصدر عن مثقفين محسوبين على الاتجاهات الإسلاموية ( وخاصة نادر بكار، ومحمود خليل وخالد فهمي..) فهي مازالت غير واضحة بما فيه الكفاية، ولم تتبلور في شكل مواقف حزبية لنقد مختلف أشكال التفتيش والترهيب التي كانت تراهن على مصادرة الفن وإخراس أصوات الفنانين والمثقفين. وما يمكن أن يبعث على القلق هو أن ممارسة الفنان أو المثقف الرقابة الذاتية على ذاته إرضاء للحكام الجدد أو توجسا من تعرضه إلى مضايقة محتملة. وهو ما سيسهم في ترسيخ « أصالة مزيفة» إلى جانب « حداثة معطوبة». وكلاهما يدعم قشور الأمور عوض النفاذ إلى عمقها ولبها. لقد جرب المغاربة حزب العدالة والتنمية على مستوى المجالس الجماعية، وتبين لهم مع مر الزمن أنهم كانوا، في حالات معينة، خديعة لشعارات معسولة مغلفة بنبرة دينية. لقد اهتز الرأي المغربي لترويج شريط على اليوتوب يظهر رئيس مجلس جماعي منتم إلى حزب العدالة والتنمية في ميدلت يتقاضى الرشوة. لا نريد من خلال هذا المثال أن نبخس نضالية أو شعبية هذا الحزب أو فعالية بعض أطره في جماعات محدودة، وإنما نريد التأكيد على ضرورة التمييز بين الإسلام فوق الصومعة والإسلام في الواقع، وبين الإسلام الحق الذي ينص عليه الشرع و الإسلام كما يطبقه الناس في حياتهم اليومية، وبين التوجه الإسلامي الذي يمتح منه غالبية المسلمين شعائرهم وواجباتهم الدينية والحركة الإسلاموية التي تستغل الدين لتحقيق أجندتها السياسية والإيديولوجية. كما أن الناس ليسوا في حاجة إلى من يعلمهم دروس الوعظ والإرشاد فحسب وإنما من يضع لهم حلولا جذرية حتى ينعموا بالطمأنينة والحرية ويتمتعوا بالكرامة المنشودة. لا ينبغي أن نستبق الأمور. قد يحمل المستقبل مفاجآت لم تكن في الحسبان. وما يهم الآن هو معاينة كيف سيتدبرون شؤون الملفات الكبرى والساخنة، ويتعاملون مع الحياة العامة وضمنها حركية الثقافة والفن، و يجسدون روح الدستور الجديد ومقتضياته بعد أن مكثوا سنوات عديدة في خندق المعارضة، ومارسوا حقهم في الاحتجاج. 1