عرف إستيبان الاضطراب في البداية وهو طفلٌ، وخبر العذاب وهو تلميذ ثم طالب. وتردَّى بعدئذ وفي الأخير وهو شاعرٌ، إلى الضنى، ثم انبعث منه ليعيد اكتشاف ضوء النهار بموازاة اكتشافه لأنوار الكلمات. فقد نشأ إستيبان منذ بواكير طفولته على الثنائية اللغوية [الإسبانية - الفرنسية]، أسيراً للفضاء مزدوج اللسان الذي سيصير على الدوام عالمه الذهني والفكري. ولن يهدأ باله أو تسكن حواسه، إلا عندما سيتجاوز ذلك التنازع المضني للغتين، ويغامر بنفسه في عالم شعري ستستعيد فيه الكلمات نكهتها الأصلية، فتمنح نفسها له كأنها قطرات ندى، تحمل إليه الهدوء والسكينة والمتعة. وسوف تنبِّه هذه الحيرة في البداية المدرِّسَ، الذي سيحاول أن يجد في هذه التجربة المحزنة ما يغذي به تفكيره وممارسته التربويتيْن. كما ستنبِّه بوجه خاص الآباء الذين لا يبالون كثيراً بالتسامحية المحيطة، فيقعد بهم ذلك عن أن يفهموا لماذا يخلط أبناؤهم في اللغات المتداولة، فيعيقهم ذلك من استعمال شفرة اللغة من تلك اللغات بما يوافق السجلات والمقامات والمشاعر المناسبة. وسوف تنبِّه في الأخير الباحثَ الذي سيحاول في مسعاه أن يحيط بالآليات شديدة التعقيد التي يقوم عليها انعداء لغة بلغة أخرى. لكن تلك الحيرة ستظل أولاً وخاصة شاهداً على مسار فردي، لأننا سنحسها، نحن القراء، حاجةً ملحةً عند إستيبان في أن يشركنا في خاتمة اضطراباته؛ حين سيلج عالماً ستكون فيه كلمات لغة واحدة لديه هي كلمات اللغات جميعاً. لكن ليس كل الذين يعيشون، مثل إستيبان، في الثنائية اللغوية يصبحون شعراء. إن مصيرهم أن يلبثوا في صراع مع ما يمثل كابوس المدرِّسين، وأحياناً كابوس الأبوين، ألا وهي استحالة الفصل اللغوي. ففي المغرب على سبيل التمثيل تتجلى هذه الوضعية في الحياة اليومية في ممارسة لغة مزيج غريبة يؤتى فيها بفاعل في اللغة العربية ويُلحَق به فعل متصرف في اللغة الفرنسية، يليه مفعول بالعربية يُلبَس نعتاً بالفرنسية، من دون أن ينتبه المستمع أو المخاطَب إلى فظاظة هذه الوضعية أو ينتبه إلى الاختلال الفاحش الذي يترتب عنها. «وابتداء من تلك اللحظة... لم أعد أرضى عن هذه الرطانة نصف الإسبانية ونصف الفرنسية التي كنت أمارسها عن طيب خاطر وسط أسرتي ... وينبغي لي أن أو يضّح في هذا الصدد أن الفواصل اللغوية لم تكن دائماً بالمتانة التي كنت أتصوَّرها لها... وأنني كنت أحب أن أتلهى بمزج كلمات إسبانية بجملي الفرنسية، أو أقوم بعكس ذلك... وهنا أيضاً أفترض أنه ليس بين الأطفال اللذين نشأوا في ازدواجية لغوية من لم يأت بخطاب مختلط في صورة تبعث على الضحك ... لكنها في حقيقة الأمر ممارسة محزنة...». إنها حقاً ممارسة محزنة هذه الغرابة في اللغة، التي ليست في الواقع سوى الثمرة البديهية للأفراد والمجتمعات. وإنني لعلى اقتناع بأن الخلاص إنما سيأتي من النظام التعليمي. إنه المكان الوحيد الذي سيتأتى فيه برد فعل صارم وقوي وقْف هذا الانحراف الخطير؛ حيث سيتأتى التمهيد بفضل - تنظيم المشهد اللغوي، لتجاوز الحيرة التي تطبع الكلام الحالي. وهذا عمل ثنائي يسهم فيه اللغوي والمدرِّس بنصيب متساو. وإنني لعلى يقين أنه سيكون فيه المخلِّص من الحيرة اللغوية التي تغرقنا. سبق للمرحوم صالح قرمادي أن مهَّد السبيل لهذا الأمر، قبل ما يزيد عن عشرين سنة خلت. فقد أفلح في أن يقف في المواجهة التي تقوم بين اللغة العربية واللغة الفرنسية، التي هي قدرنا اليومي، على آليات العدوى. لكن موتاً فاجعاً أوقف مبادراته الواعدة. ولم أسمع عن احتمال لمواصلة أبحاثه من طرف بعض تلامذته. لقد أفلح قرمادي في إثارة انتباه المدرِّس إلى السؤال الوحيد والأوحد الذي ينبغي أن يستأثر باهتمامه في هذه الثنائية الطارئة، والتي أصبحت محتمة لا راد لها. والسؤال هو «أي لغة عربية ينبغي تدريسها؟». إن المعاشرة اليومية التي أصبحت قائمة بين اللغة العربية واللغة للفرنسية قد جعلت اللغة الثانية تلحق التحوُّل ببنيات اللغة الأولى وتتغيَّر بها وتجعلها تحيا حياة مختلفة. وإليكم مثالاً من بين أمثلة أخرى كثيرة. الجملة (جملة عربية) : رغم أنه كان مريضاً فقد ذهب إلى الاحتفال إنها جملة لا يستغربها أحد إذ يطالعها في الصحافة المكتوبة أو تطرق سمعه في الصحافة المسموعة. ومع ذلك فهي تطرح مشكلة واضحة على المدرِّس. ذلك بأن اللغوي الأصولي كان سيجعل تلك الجملة كذا. كان مريضاً ومع ذلك فقد ذهب إلى الاحتفال لأن من الواضح أن الجملة الأولى هي ترجمة للجملة الفرنسية : Bien qu›il fût malade, il a assisté la fête إنه مثال عن عدوى خفية ومؤذية. فهل ينبغي معاقبة التلميذ المضطرب على إتيانه بالبنية الأولى، وإرغامه على استعمال البنية الثانية؟ ذلك بأنه لم يؤت بعد بأي جواب شاف لهذا المأزق، بحيث يظل تعلُّم اللغة العربية واللغة الفرنسية عندنا مشوَّشاً تطبعه الفوضى والخطاب مفككاً تسمه الغموض. ولقد اشتغل كلود إستيبان بالتدريس في مدينة طنجة. لكنه رفض عن قصد واختيار أن يكون له اهتمام بالبلد الذي استضافه. فقد قال: «لقد وجدت عناء كبيراً في أن أوفِّق في ذاتي بين أفقين ثقافيين، فأحرى أن أضيف إليهما الآن عالم الإسلام». وقال كذلك «إن الاقتراب بشيء من الجدية من الحياة العميقة لهذا الشعب إنما هو... من قبيل الوهم لمن لا يشارك هذا الشعب لا عاداته ولا لغته...». والإنسان المغربي الوحيد الذي أمكنه أن ينفذ إلى - الحصن المنيع الذي أحاط به إستيبان نفسه كان تلك المرأة العجوز التي اتخذها لخدمته، والتي استعاد عندها اللغة، - كأنما استعاد جذور تاريخه. وإنها لخسارة كبيرة، وإنه لأمر مؤسف جداً، إذ لو أن الأستاذ إستيبان ترك - خارجه الشعري، لكي - يرى الحياة الطنجية اليومية، لأمكنه من دون أدنى شك أن يحس باضطرابات الطفل والتلميذ والطالب المغربي الذي عاش مثله ولا يزال يعيش - معركة العلامات الرائعة، التي هي في نظر جاك بيرك مميز أساسي للمغرب المعاصر. معركة علامات لا يمكن أن يهدِّئ منها غير نقاش لغوي هادئ، في مسار تعليمي مجدد.