الشاعر تَبْتَعِدُ َعنّي أَيُّها الزَّمَن ! تَجْرَحُني ضَرَباتُ أَجْنِحَتِك، و حيدا: ماذا أَفْعَلُ بِفَمي؟ و ماذا بِلَيْلي و نَهاري؟
*** لا حَبيبَة َلديّ و لا مَأْوى، و لا مكان حَيْثُ أَعيش، فَكُلُّ الأشْياء التي أَهَبُها نَفْسي، تَسْتَغْني بي، على حِسابي. وحدة شَبيهَةُُ هي الوَحْدة، بِهذه الأَمْطار، صاعِدَة مِن البَحر، ماشِيَة نَحو المَساءات، عَبْرَ السُّهول تَسير، مُبْتَعِدَة، ضائِعَة، و مِن السَّماء، تَساقَطُ على المَدينَة.
*** تَبْكي هذه الوَحدة، في ساعاتِِ حائِرَة، حين نَحو الصّباح، تَلْتَفِتُ الشَّواِرع الجَديدَة، حينَ هذه الأَجْساد، المُنْهَكَة بالاحْتِقار، تَنْفَرِج حَزينَة، ظامِئَة غَير مُرتَوِيَة، و حينَ تَرى الرِّجال، المُحْتَقرين لِبَعْضِهِم، مُضْطَرّين لِلنَّوْم، في سَرير واحِد، حينَها تَبْتَعِدُ الوَحْدَة، عَبْرَ الأَنْهار. ألأَسْمى هو الرَّحيل أَلأَسْمى هو الرّحيل، شَيءُُ مِنّا بِالرَّغْمِ عَنّا، عِوَضًا مِن المَشْيِ وَرائَنا، يَبْتَعِدُ عَنّا رَغْبَة في السّماوات.
*** فَلِقاءُ الفّنِّ الأَسْمى، أَ لَيْسَ ذاك الوَداعُ الوَديع؟ و الموسيقى، هذه النَّظْرَة الأَخيرَة، هذه التي نُلْقيها بِرَغْبَتِنا على أَنْفُسِنا ! مقدمة لا بد منها حول الترجمة. من جهتنا، نعتبر الترجمة فنا له أساليبه، و مهنة لها شروطها و أدواتها، حتى لا تصبح النصوص المنقولة من لغة لأخرى، عبارة عن صورة مشوهة للنصوص الأصلية. لهذا ننبه القارئ الكريم، بأن هذه الدراسة التي خصصناها للشاعر الكبير" ماريه راينر رلكه"، اعتمدنا فيها على نقل القصائد الأصلية إلى اللغة العربية، انطلاقا من مراجع موثقة. و لقد سمحنا لأنفسنا بحرية إعادة تشكيل و صياغة بعض القصائد، حتى يتأتى المضمون الذي عبر عنه الشاعر، مستوفيا لشروطه الفنية و "الشاعرية" في حلة جمالية، تليق به و تعبر عن فحواه. و حتى لا نكون قد تجاوزنا الحدود المسموح بها لنا، نسوق تنبيه الشاعر نفسه حيث يقول بشأن الترجمة:" إنني أعتبر كخيانة لشعري، كل ترجمة لا تأخذ بعين الاعتبار إعادة صياغة أفكاري. و في الوقت نفسه، كل من اعتبارات الزمن و الحركة الداخلية و الإيقاع الموسيقي للنص الأصلي. فالترجمة الحرفية مهما كانت دقتها، تظل في وجهة نظري، ليست سوى استبدال لجسد حي بآخر من الشمع، أي جثة باردة." و لا أحسبه إلاّ مرددا نوعا ما لتلك المقولة الجاحظية الشهيرة، تلك القائلة بأن:" الشعر لا يترجم. لأنه إذا ترجم، فقد موطن التعجب منه."
نبذة وجيزة عن حياة الشاعر. ولد راينر ماريه ريلكه Rainer Maria Rilke و اسمه الحقيقي René Karl Wilhelm Johann Josef Maria Rilke في براغ سنة 1875. و كمواطن نمساوي، كانت لغته الأم الألمانية. و عن تكوينه نقول، بأنه كان قد التحق بالمدرسة العسكرية للضباط، حيث بدأ أول تجربته الشعرية. ولأسباب صحية، مثله مثل الكاتب الفرنسي الشهيرMarcel Proust مارسيل بروست، صاحب مجموعة "البحث عن الزمن المفقود"، اضطر الشاعر أن يتخلى عن تكوينه و الخروج مسافرا، عبر آفاق المعمورة. سافر إلى إيطاليا، فإسبانيا، فروسيا حيث التقى Léon Tolstoï بليون تولستوي، فالدانمرك، إلى أن ساقته الأقدار و حطت به الرحال على أرض فرنسا. و في باريس تعرف على النحات الفرنسي الكبير أوغست رودان Auguste Rodin و إبان إقامته عنده تزوج ب Clara Westhoff , وأنجبا طفلة اسمها Ruth . و لقد سجل لنا التاريخ، لقاءً بين ريلكه و رودان، حين سأل الأول رفيقه عن معنى الحياة قائلا له: كيف بإمكان الإنسان أن يعيش ؟ فأجاب رودان : بالعمل. و أدرك ريلكه للتو بان تجربته الشعرية ستكون تجربة عمل. و أن القصيدة مركبه الوحيد لعبور قنطرة الدنيا، المحفوفة بالكآبة و القلق و الآلام. بالفعل لقد كانت ولادته شعرا و حياته شعرا و وفاته شعرا. و إبان إقامته في باريس فاجأته الحرب العالمية الأولى فاضطر إلى مغادرة البلد باعتباره مواطنا نمساويا. و هكذا خرج من فرنسا و قد سلبت منه كل ممتلكاته. و حطت به الرحال من بعدئذ و من جديد في النمساAutriche و في دوينو Duino بالتحديد، عند صديقته الأميرة مارية de la Tour et Taxis Marie في قصرها المنعزل و الواقع في جوار ضفاف الأدرياتيك. و هنالك عندها، ألف من أجلها و لها مراثي دوينو. وانطلاقا من 1919 رحل إلى سويسرا عند صديقه الثري ونترثور Winterthur الذي وهب له برجا لإقامته، إلى أن حانت ساعته و دق جرس الرحيل، فحمل جثمانه من قبل بعض أصدقائه إلى كنيسة رازوني التي تقع في Rarogne en Valais حسب وصيته. هنالك في مقابل الجبل الذي يطل على الكنيسة، حيث صار الصدى يردد آخر أبياته، هنالك حيث بإمكانك أن تقرا على شاهدة قبره وصيته الأخيرة.
التجربة الشعرية لقد كانت تجربته في البدء شعرا، كما صارت في النهاية شعرا. لقد عاش للشعر و بالشعر، لأنه حسب تعبيره، قد اكتشف في فضاء الشعر ليس فقط الأبيات المشحونة بالعواطف و الأحاسيس، وإنما البيت الشعري كتجربة حياتية. و في هذا السياق نورد كلمته بهذا الخصوص حيث قال:" من أجل أن تكتب بيتا شعريا واحدا، عليك أن تكون قد سافرت و شاهدت مدنا و أشخاصا و أشياء." و هنا تحضرني مقولة تشيكوف الرائعة:" إذا أحببت أن تكتب عليك أن تنزل إلى الشارع". فحسب تجربته الشعرية التي مارسها في مستهل القرن العشرين، يصبح بإمكاننا أن ندرج ماريه راينه رلكه من بين كبار شعراء المدرسة الرومانسية من أمثال ألفونس.د. لامارتين Alphonse de Lamartine ، لورد بايرون Lord Byron ، شيلي Shelly ، شيلر Schiller ، نوفاليس Novalis ، ألفريد .د. فينيي Alfred de Vigny ، جرار .د. نرفال Gérard de Nerval ، تيوفيل غوتييه Théophile Gautier و ألفريد .د. موسيهAlfred .d. Musset و القائمة طويلة، سوى أننا نقتصر على هؤلاء الذين سردنا أسماءهم كنموذج للتجربة الرومانسية. فلغة رلكه من هذه الناحية، أي من حيث انتمائه إلى الفضاء الشاعري الرومانسي، هي لغة كئيبة و سائلة، تنساق في صور انطباعية شفافة، شبيهة إلى حد بعيد، بتلك التي كان يمارسها في فترته فنانوا فيينا Vienne الانطباعيين. و كان نمو القصيدة و تطورها عنده يمر بمراحل تراتبية، كتراتب السحب، لغاية ما يدرك مستواها الأعلى. و يقول رلكه بهذا الصدد:" لقد كانت قدراتي محدودة، و حياتي العاطفية مملوءة بالقلق، و المخاوف و الخشية، و لم يكن بإمكاني أن أمنح قارئي أغلى شيء على قلبي." و نلمح في هذا الاعتراف، تلك الكآبة العميقة التي سترافقه طوال حياته. فلنصغ إلى هذه الكآبة الفينة التي تسكن هذه المقاطع: آه لَكَمْ تُؤَثّر فيّ، ألأَنغام البوهيمِيّّة العَتيقَة، إلى قَلبي تَنْفُذ و توحي إِلَيه، بِالحُزْنِ و جُرن المَعْمودِيَة.
*** حِين يُدَنْدِنُ طِفلُُ ما، في مَكان ما، و هو يُعَشِّبُ مُدَنْدِناً، باقْتِلاعِ الأَشْواك، أَشْعُرُ بِأُغْنِيَتِه تَتَعَقبُني، لِغايَةِ أَوهام حُلُمِ اللّيْل. و هذا الحزن و هذه السماء نفسها التي تتخذ لديه رمزا لِلاّ نهاية، لا تفتأ تدخل بدورها في آفاق تصور الشاعر متغلغلة في ذاته :
كذلك الحنين
كَذَلك الحَنين: السَّكَنُ على الأَمْواج، و أَن لا يَكون لَكَ أَبدًا في الزَّمَنِ مَنْفى، و كَذلك هِي الرّغَبات: حِوارُُ خافِتُ الصَّوْت، عَن الزّمَنِ الرَّتيب مَع اللاّ نِهاية.
*** كَذلك الحَياةُ لِغايَةِ ذاكَ اليَوم،أَمْس، تَرْتَفِعُ الوَحيدَة مِن بَين كُل السّاعات، و مُبْتَسِمَة بِخِلافِ كُلّ شَقيقاتِها، تَصْمُتُ مَوْهوبَة ًلِلخالِد الأَبَدي. و يزداد هذا الحزن، بل و يكبر هذا الحنين و يزداد انسيابا في داخله، حسب تعبيره، حيث يقول:" يزداد نزولا في هذا الأنا الذي أحمله و الذي لست أدري ماذا يدور فيه." إنه يتعلم الرؤية من الداخل، فلنستمع إليه: ضَجّاتُُ جَديدَة أَشدّ صَخبا، حياتي هذه العَميقَة، و كأَنها في انْحِدار، في سَرير مُوَسّع الحَواشي. دائِما و أَكْثَر فَأَكْثَر قُرْبًا، دائِمًا إذ تَصيرُ الأَشياء، و تُصْبِحُ أَكْثَرَ رُؤْيَة، فأَشْعُرُ بِأَنّي أَكْثَرَ اسْتِئناسًا، بِذاك المُنَزّه عَن الوَصْف. و حَواسي مِثْل عَصافير، مِثْلَها حَوْل سِنْدِيانَة، ومِثْلَها تَضيع في سَماء، مُضْطَرِبَة بِالرّياح. و هكذا كان شعر ريلكه، يقع مثل ضوء حيّ في منتهى النعومة و المسامحة، على المناظر الطبيعية التي كان يحبها، بل يعشقها بمظاهرها الطبيعية البسيطة و المباشرة. لقد كان في البداية، يكتفي بملاحظة مظاهر الأشياء، ليشرع من بعدئذ باختراق ظلال جمالها الظاهري، متجها نحو منبع ذاك الجمال العصيّ، الذي لا يتجلى إلا لذاك الذي منح قابلية الاستعداد الروحي، للنفوذ إلى جوهره و التوحد به. و تصبح مناجاة الشاعر في هذه الأثناء، رجع صدى لموسيقى خفية، قادمة من آفاق اللاّ نهاية. فلنصغ إليه عندما يقول:" كل الأشياء التي أمنحها نفسي تستغني بي و تنفقني." و يضيف قائلا من دفاتره "المالطية" تلك المسماة بدفاتر مالطا Les Cahiers de Malte Laurids Brigge و التي بإمكاننا أن نعتبرها كجزء من مذكراته الذاتية :" إنني أتعلم النظر. لست أدري لماذا كل شيء يتغلغل في بعمق و لا يمكث حيث يلامس نهايته. بل يزيد في التعمق و الانتشار في داخلي، في هذا الأنا الذي أجهله و الذي لست أدري ماذا يدور فيه." هذا التصور هو عبارة عن علاقة دفينة، تربط الشاعر بالعالم الذي يتجلى متذبذبا تارة في صور ذات إيقاع رتيب، و طورا في صور يطفح إيقاعها و يفيض مندفعا في موجات غنائية، حيث تبدأ الأشياء فجأة بالتداخل، محمولة بزخم شاعري قوي، رابطة فيما بينها بأغرب العلاقات الإسترسالية. و نذكر بهذه المناسبة ملاحظة إدموند جلو Edmond Jaloux بخصوص نوفاليس Novalis و التي تنطبق بالمناسبة على شاعرنا رلكه إذ يقول:" ثمة أشياء هي من حيث اللطافة أدق و أصعب من أن تخضع للأفكار، فكيف بك إذا أنت حاولت إدخالها إلى حيز التفكير و نطاقه." و تستحضرني هنا مقولة أبي حامد الغزالي بهذا الخصوص، وأسوق العبارة من الذاكرة، حيث يقول معبرا عن تجربته الصوفية :" ثم يرقى الحال، من مشاهدة الصور و الأمثال، إلى درجة يضيق عنها نطاق النطق، فلا يحاول معبر أن يعبر عنها، إلا و اشتمل لفظه على خطأ صريح لا يمكنه الاحتراز منه." و ليست هذه الرؤية الغزالية إقحاما منا لتراث صوفي إسلامي في تجربة الشاعر رلكه، و إنما هي تجربة حقيقية عاشها الشاعر إبان إقامته في إسبانيا. الشيء الذي سنعرض له فيما بعد و الذي نعتبره الأساس المستجد في هذه الدراسة، ألا و هي تجربته الإسبانية. و نضيف معلومة إضافية بهذا الخصوص، ففي سنة 1916 أهدى رلكه إلى صديقه الوفي الكاتب ردولف كاسنر Rudolph Kassner دفترا يحتوي على اثنان و عشرون قصيدة تحت عنوان" قصائد للِّيل" poèmes à la nuit ، و ثيمة هذه القصائد الليلية تحمل روابط خفية بمجموعة نوفاليس الشعرية" تراتيل لِلَّيل" hymnes à la nuit . هذه التي سيصبح فيها الدليل المجازي هو "الملاك". وهذا الملاك بدوره يذكرنا بأورفيوس. و ليس من المستبعد أن يكون دور الملاك الرمزي، هنا في هذه النخبة الشعرية كدور أورفيوس مع أوِربيد، فدوره إذن هو دور المخلص، الذي قدم إلى هنا لينقذه من عالم الموت و الفناء و يصطحبه معه حيث الخلود و الحياة الأبدية. نعم، جاء ليسافر به عبر أفاق ليلية، مزدانة بكواكب و نجوم و فضاء لا متناهي، يتجلى فيه وجه الأبدية. لقد كانت كلمات رلكه تتردد فيما بين الوداعة و التمرد، و شعرا كهذا، قال رلكه ذات يوم لأحد أصدقائه:" لا يمكن إلا أن يكون إلهاما." فهذا الأسلوب التجريدي، التشكيلي و المجرد، حيث تصبح الأحاسيس شكلا و الأفكار صورا، يعود بنا إلى تجارب الشاعر السابقة، و خصوصا ذاك الدور التوجيهي الذي لعبه المَثّال الفرنسي رودان في مستقبل التجربة الشعرية لدى رلكه، حين كان هذا الأخير، يشغل لديه منصب سكرتير. و في هذا السياق تكشف عبقرية رلكه الشاعرية عن جمالياتها في أسلوبه الذي لا يضاهى،حيث تعكس الكلمات الأكثر بساطة على وجه الإنسان الخارجي الإنطباعات الأكثر سرية،حيث يصبح كل شيء شكلا يحيا، ويبدأ في التصاعد نحو الآفاق تحت أعيننا. و إذا كان رودان كمَثّال يعمل على تشكيل المادة الجامدة و إعادة خلق الحياة فيها، فإن دور الشاعر يصبح هنا، ذاك الذي يمنحها الروح الغنائية. و كما أشرنا من قبل إلى تجربة الشاعر الإسبانية، فانطلاقا منها سار متغلغلا بتجربته عبر محاولة جديدة. راح يدمج فيها الواقع باللاّ واقع، حيث أصبح دور "الفعل" الشعري الحقيقي في هذه الأثناء، الرابط الخفي الذي يحمل الشاعر إلى آفاق تتجاوز الواقع المعطى، نحو حقيقة مثالية علوية أكثر انسجاما و تناسقا. بل باختصار حقيقة مثلى. و كما يصرح هو نفسه:" ليس لهذه الأرض من حل، سوى أن تصبح لا مرئية." و بالعودة إلى مجموعته " المراثي - élégies " فلقد بدأ بتصورها في "دوينو" سنة 1912 و كمقاطع متفرقة في إسبانيا، لينهيها بعد الحرب العالمية الأولى في "ميزو Muzot " بالإضافة ل" سونيتات أورفيوس." و كانتا عند الشاعر كشراعين لقاربه الشعري، ملئتا كلتاهما بنفس النفس الشعري الصاخب : فالشراع الصغير الذي كانت تمثله " سونيتات أورفيوس" كان يظهر بلون باهت في مقابل شراع "المراثي" الكبير الذي كان يخيم على كل ما حوله ببياضه الناصع، الصارخ. و يتساءل الشاعر قائلا:" هل من الممكن بأننا لم نر شيئا؟ أمن الممكن بالرغم من الاختراعات العصرية الحديثة، الثقافات، الديانات و المعارف الكونية أن نكون قد بقينا على صفحة الحياة و قشرتها الخارجية ؟ و يجيب الشاعر نفسه قائلا:" نعم من الممكن." و هكذا سيصبح هذا القلق الوجودي الممزوج بطعم الكآبة المر، وأشباح الموت التي تحوم في كل مكان، شغله اليومي بل الوسواس الذي سيسيطر على مجمل حياته. و رمز أسطورة أورفيوس، التي سبق و عرضنا لها في هذا البحث، ستمثل لديه رمزا مزدوجا. من ناحية موت "أوربيد" المبكر، ثم من ناحية أخرى، رمز الخلود في أغاني "أورفيوس". فالذي مات في "أوربيد" هو جسدها، أي الغلاف الفاني، أما كينونتها الحية فلقد انتقلت إلى أغاني "أورفيوس" لتحيى فيها إلى الأبد. فرمز أوربيد لا يكون إذن سوى مرحلة موت مؤقت، للعودة من جديد إلى رمز الحياة الأبدية. و هذا ما يفسر قصيدته التي كتبها في موت صديقة شابة من معارفه و هي فيرا أوكاما Vera Ouckama . و كانت هذه الأخيرة تحلم بأن تصبح راقصة شهيرة، حين فاجأها الموت بغتة في ريعان شبابها ومضى بها. و بهذا الخصوص نضيف بأن هذه الظاهرة الرومانسية، ظاهرة الفجع من الموت المبكر كان قد عرض لها كثير من الشعراء الرومانسيين، نذكر من بينهم الشاعر إدغار ألان بو Edgar Alain Poe القائل إن موت امرأة جميلة، قد يعد من أكبر موضوع من مواضيع جمالية الشعر. و بالوصول بهذا البحث إلى هذه الخلاصة، نتوقف من جديد لنستحضر تجربته الإسبانية التي كنا قد لمحنا إليها، و التي تركناها عمدا لختام هذه الدراسة، لأننا نعتبرها المصباح الوحيد الذي سيمنحنا الرؤية الداخلية للشاعر. رلكه و التجربة الإسبانية إن تجربة رلكه الإسبانية، تشتمل على لقطة مهمة من حياته. و هذه اللقطة قد مر بها عدد كبير من الدارسين و الباحثين الأوربيين مرور الكرام، إن لم نقل بأن غالبيتهم لم يشروا إليها قط. أو بعبارة أخرى و إن أشاروا إليها عرضا لم يولوها أي اهتمام يذكر. و نعتبرها من جهتنا، مفتاحا هاما للنفوذ إلى آفاقه المبهمة، ألا و هي تجربته الصوفية. فإبان إقامته في إسبانيا من أواخر 1912 إلى بداية 1913 كرس رلكه وقته لقراءة المتصوفين الإسبان، أمثال جون لا كروا و أمثاله. و لا نستثني، أنه اطلع بالمناسبة على المتصوفة المسلمين، خصوصا و انه اكتشف "القرآن الكريم" في هذه المرحلة و أعجب به و استوحى منه قصائده "الملائكية". و يعزز لدينا هذا الرأي، الرسائل التي بعثها من إسبانيا سنة 1912 إلى مترجمه البولوني "وتولد فون هولويكس" Witold von Hulewics . حيث يخبره بمدى تأثير "القرآن الكريم" في القصائد التي استوحاها له الملاك. فلنطلع إذن على بعض هذه المقاطع المتعلقة برؤية الملاك : هَلْ كان لِزامًا هَكذا، أَن يَكون المَلاك، المَلاكُ العَطْشان، الذي أشار عَليك بِالقُدوم؟ لِيَشْرِبَ بِتُؤْدَة مِن قَسَماتي، خَمْرًا أَكْثَرَ صَفاءً مِنَ الوُجوه.
*** أن تكون ظَمْآنًا أَنْتَ، أَنْتَ الذي لَمْ يَرْوِ غَليلَه، فَلْتَسْتَسْلِم لِهذا الظّمَأ، آه ! كَم شَدَدْتَني، أَنْتَ مَن تَتَهَدّم فيه سُيول الإله، مُنْدَفِعَة في كل شرَيان و نَبَض.
*** فَأَنا هذا المُنْساب، أَشْعُر بِمَدى قَسْوة نَظَرِك، و أَنْحَني نَحو دَمِك، لِغايَة الانْغِمار في حاجِبَيْك، و في أَقْواسِهِما كُلِّيَّة.
و هذه الرغبة العميقة في التوحد، و دوامة القلق الزمني هذه، التي ينتظر فيها الشاعر مجيء الملاك لخلاصه، نلمسها في الأبيات التالية: آه ! فَلْيَسْقُط بِمُلامَسَة مَلاك، شُعاعُُ في هذا البَحر، على ضَوْءِ القَمَر، و قَلبي يُقاوِم في جَوفي، كَمُرجان يُقاوِم في هَدوء، يَسْكُن كُل أَغصانِه الصّبِيّة.
*** و هذا القَلَق المُسْتَغيث، الذي يَزيدُنا المَخْلوق العامِل، دونَما أن يَفْصِح عن نَفْسِه، يَفْضَلُ مَجهولا لَدَيّ، و يَتَرَدَّدُ التّيّار حائِرا، و يَمضي إلى ما وَراء، و يَتَصَرّف في الأَعماق، و يَتَصَرّف في الحَواجِز
*** ومِن لا حِسِّيّة الحِجارَة العَتيقة، تولد فَجْأَة مَخلوقات مُصْطفاة، و على السّكينَة الأَبَدِيّة، لِكُلِّ المَخْلوقات، تَقَعُ ضَجَّةُ القَدَر. فصورة الملاك في هذه المقطوعة، ترد مُحَمّلة بصور مألوفة لدينا، في لغة الأدبيات الصوفية الإسلامية: صور الظمأ و الحنين و الملامسة و الأجواء الداخلية للمتصوف. أنظر بهذا الخصوص، كل من جلال الدين العطار و الحلاج و ابن عربي، بل و حتى رباعيات عمر الخيام. و لننتقل للمقطوعة الثالثة و دائما في حوار الملاك: إلى ملاك لا تَنْتَظر اخْتِياري، بَل أُأمُر يا مَلاكي، بِمَقْدوركَ ذلك، لأنّكَ في غِنًى عن كلّ شَيْء، آه مِنْكَ حين تَرْتَمي، في الهَمَسات الصَّاعِدة، لِلِقاءِ خُطواتي. فشِدّةُ ضَيْقي كانَت ما تَزال، تُحاوِلُ الفِرار مِن تَدَفُّقِكَ، الذي كان يَخْتَفي خَلْفَ الحَواجِز.
*** أَيّةُ صِفَة أَعْطَيتَ لهذا الوَجْه، حتى يَتّصِل إِحْساسه، بالفَضاءات المَنيعَة، و الغَريبَة عَلَيه؟ و شَجَرة السّّنْدَر الّضعيفة، بِأَوْراقِها المُنْثَنِية الناعِمَة، أَلَيْسَ بِإِمكانِها، أن تَسْتَعْطِفَ المُدُن، مِن مَشارِف الرّاِبَية.
*** و لَيْسَ إلاّ الآن، في هذه الساعَة اللّيْلِية، أَشْعُر بِأَنّي في أَمان، لذا أَظَلُّ ماكِثا هُنا، بِعُيون مَرفوعَة مُبْهَمَة، لأَنّهُ مِن أَجلِ حَدَثِكَ اللاّ مُتناهي، تَأْمُر وَجْهي غَير الكافي. هو ذا الشَّبَهُ الذي يَتَوَلَّدُ عَنْه. و بالتأمل في هذه المقاطع الثلاثة، ندرك مدى هذا التحول الشاعري، و مدى هذا النضج الصوفي الذي توج به رلكه تجربته الشعرية. فقد يكون الملاك رمزا للإنسان الكامل الذي أشار إليه التصوف الإسلامي، عند كل من الشيخ عبد الكريم الجلي و جلال الدين العطار. و قد يكون الملاك، ملاك الإلهام الشعري، الذي تغنى به الشعراء. و لا أحسب رلكه إلا قاصدا ملاك الخلاص، الذي كان يتنزل عليه بصعوبة و مشقة، ليحمله إلى عالم الأنوار الحقيقي، عالم منزه عن التفسخ و الانحلال و الموت. و نشعر في هذا السياق بأن للشاعر حنين المتصوفة، و رغبتهم في التوحد، و إرادتهم في الفناء المطلق، في ذاك الكون اللاّ متناهي، عبر ظلال و صور الأشياء و المخلوقات بكل أنواعها و مراتبها الوجودية. و باختصار رغبة دفينة جاءت مضطربة قلقة و متحيرة في ثياب الكلمات التي انتقاها لها الشاعر. و قد يكون هذا الملاك أخيرا رمزا للتحرر من القيود الدنيوية المادية، من أجل بداية سفر روحاني لا تستطيع التجربة الشعرية أن تحتويه، أو أن تقيده بألفاظها، أو أن تفصح عنه بكلام صريح و ملموس. و هذا ما جعل تجربة رلكه الشعرية، هذه التي انتقيناها من مجموعته "قصائد لِلّيل"، تبدو للقارئ غير المطلع على الأدبيات الصوفية، تجربة مغلقة و مغرقة في التجريد و الإبهام. قد يكون رلكه، قد تأثر فعلا في تجربته الإسبانية بالأدبيات الصوفية، إلا انه يبقى مع ذلك بعيدا كل البعد، من تلك السكينة الداخلية، التي كان يتمتع بها متصوفة الإسلام. لأن هؤلاء المتصوفة، في تجاربهم الصوفية التي خاضوها ودخلوا غمارها، كانوا يتمتعون باستسلام مطلق، و بحب ما بعده من حب، رغبة منهم في الفناء في الذات الإلهية. و باختصار كانت تجارب هؤلاء، صفاء و علاء و تجلي ثم فناء. و في مقابل هذه التجربة و في ظلالها، تقع تجربة الشاعر رلكه. فهو لم يعدم حبه للأشياء و المخلوقات بكل أجناسها، إلا أنه كان مقيدا بكآبة كانت تطفأ لديه، ما كان يوقد من شموع الهداية. و قد لا يفاجئنا هذا، إذا كنا نعلم، بأن ثقافة الشاعر الجرمانية و المبنية على الموروث اللاّتيني بمسحته المسيحية، و الموروث الإغريقي بمسحته التراجيدية، ستكسب الشاعر محصلة درامية، كنتيجة قلق وجودي لإنسان الأزمنة الحديثة. و مع كل هذا، يظل الشاعر رلكه، شاعرا كبيرا له مكانته لا شك، من بين مشاهير شعراء القرن العشرين. و تبقى له تجربته الصوفية، بالرغم من كل ما علق بها من شوائب سوداوية. و تبقى بالمناسبة كل الإمكانيات، لإعادة قراءته و اكتشاف بعض و جوهه التي قد تكون قد غابت عنا. و لنترك الكلمة الأخيرة للكاتبة الشهيرة مارغريت يورسنار Marguerite Yourcenar التي قالت عنه بحق:" ذات يوم جميل، انفتحت يداه الذهبية من تلقاء نفسها، من جراء شعاع لا ندري من أي سماء قدم، و مثل فاكهة ذات قشرة هشة وفانية، تكونت في أعماق كفيه، و لن ندرك قط، أئذا كان نضجها من الضياء الذي لامسته، أم من الظلمة التي انبثقت عنها." و نختم أخيرا هذه الدراسة بقصيدة للشاعر تحت عنوان"موت الشاعر".
مَوْتُ الشّاعِر كانَ يَسْتَريحُ و وَجْهُهُ مُسْتَقيمًا، شاحبًا و مُغْلَقًا وَجْهُهُ، على وسائِدَ هامِدَة، من لَمّا اقْتُلِعَ الكَوْنُ، و جُرِّدَ مِن أَحاسيسِهِ، و سَقَطَ مِن جَديد، في السَّنَةِ البارِدَة.
*** فالذينَ كانوا يَرَوْنَهُ يَعيش، لم يكونوا لِيَدروا كَمْ كان، مُتَوَحِّدًا مَعَ كُلّ هذا. لأَنّ كُلّ هذه الأَعْماق، و هذه الفُسْحَة، و هذا الماء، و هذه الرُّبا، كُلُّ هذا كان وَجْهُه. قال رلكه ينعي نفسه : في حينِ كان فِعْلُهُ يَتسامى، هُنا في هذا العالَمِ السُّفْليّ، كان هو مُنْذُ زَمَن هُنالِك ، حَيْثُ لا مَجالَ لِلْمُلاحَقَة.
وَرْدَةُُ، آه مِن تَناقُض خالِص، شَهْوَةُُ بِأَنْ لا تَكونَ، نَوْمًا لِأَيّ أَحَد، تَحْتَ أَجْفان، لا تُحْصى.