منذ زمن طويل أعلن تواطؤه مع المتلقي، رفض أن تبقى رسوماته حبيسة الأدراج، فالأفكار لا بدّ أن تصل إلى الناس، رغم أنف الرقيب؛ فكثَّف ورمَّز ولغَّم، متحايلاً على العيون الفضولية، متغامزاً والشارع، معلناً بدء اللعبة من المنابر الرسمية خرجت رسوماته إلى النور، فتربّع كاريكاتير علي فرزت «في الحضن ونتف الذقن» .... كان لنا لقاء مع علي فرزت هنا نصه: منذ الخامس عشر من مارس تمّ توصيف ما يجري في سورية بتوصيفات كثيرةة كيف يوصَف علي فرزات ما يحدث في سورية الآن؟ ما يحدث في سورية، لا يخضع لتوصيفات أو عبارات أو مصطلحات، إنه شارع ينتفض ويثور، سورية تردّ اعتبارها، حضارة سورية تبدو ملامحها في الأفق، قوانين الطبيعة والإنسانية، نسيج واحد، وكما تثأر الطبيعة لنفسها، الإنسانية تثأر كذلك، من كلّ منتهكيها، ما يحدث في سورية لا يرتبط بشخص أو حزب أو منظمة، إنه حالة إنسانية، هناك شجر منتفض.. سماء منتفضة.. عصافير ثائرة.. حالة غير منعزلة عن الحالة الكونية، إنها مرحلة جديدة في تاريخ العالم، صدق البعض أم لم يصدق. يوجد دورات تاريخية وجغرافية وإنسانية، هناك قارّات تمحى وقارّات تولد، حضارات تزول وأخرى تحل محلها، هذه حالة كونية لا يمكن لأحد أن يعمي عينيه عنها. أحدث البشر ثقباً في الأوزون، أشبه بقرحة في السماء، لوّثوا الطبيعة، فانتقمت عبر أشكال مختلفة، من الزلازل إلى البراكين إلى تسونامية الإنسانية كذلك الأمر،عندما تُنتهك قوانينها يوماً ما ستعيد اعتبارها وترمّم نفسها من جديد، الإرادتان الأقوى هما إرادة الله وإرادة الشعب، ويجب الخضوع لهما، إنّهما القدر، أو هما تجلّي هذا القدر. لموقع علي فرزات الالكتروني خصوصية، فهو أشبه «بمتنفس حرية» ضاقت به الساحة الإعلامية السورية سابقاً، فهل يشكل هذا الموقع بديلاً لمجلة الدومري التي أغلقتها لك السلطات فيما مضى؟ حدثنا عن هذه التجربة. * كان بذهني مشروعان لا ثالث لهما، المشروع الأوّل هو جريدة «الدومري»، وكنت حريصاً على أن تشبه الناس في ظلّ غياب صحافة مستقلة، كان هاجسي الوحيد أن أخلق جريدة تشبه الناس، وتكون أشبه بمتنفس ومساحة من الحرية، بدون غاية تجارية أو ربحية، الجريدة كانت تكملة لمسيرتي الفنية الصحفية، التي بدأت بجرائد رسمية مثل تشرين والثورة. الكاريكاتير الذي رسمته منذ السبعينات هو نموذج مصغر عن الجريدة، أحببت أن أطورها، وآخر ما فكرت به الربح. لفتت جريدة الدومري النظر بكل المقاييس، ولكي نكون قريبين من الشارع ونعكس همومه، كان لزاماً علينا أن نكون نقطة مضيئة في مساحة مظلمة، لنكون قدوة لغيرنا في غياب الصحافة الصادقة، ومن هنا أسميناها الدومري، نسبة إلى الشخص الذي يضيء الأزقة المظلمة بالمصابيح، وخلال فترة صدورها، تعرضت للكثير من المضايقات والضغوط. كيف أغلقت الدومري إذن؟ بالترغيب والترهيب، مثلاً عرضت عليّ إحدى الجهات بيع الجريدة مقابل 35 مليون ليرة سورية فرفضت، ثم أجبروني على توزيع الجريدة، عبر مؤسسة توزيع المطبوعات الحكومية، وأخضعوا الجريدة للرقابة الشديدة؛ لاحقاً أصبحت المعركة فوق الطاولة، أدركت أثناءها أن الجريدة ستغلق، فلم أشأ أن يحدث ذلك بصمت، ويعتقد الناس أنني فشلت. ازداد الضغط علي،هم يحاولون إجباري على إغلاق الجريدة، وأنا أحاول أن أستمرّ، إلى أن وصلنا للعدد الأخير الذي أسميناه «العدد الانتحاري»، كتب فيه أسماء مهمة منها «ميشيل كيلو، أنور البني، حكم البابا، مي الرحبي، ممدوح عدوان، ابراهيم ياخورة»، فوجئنا عند الطباعة بأنّ هناك تعميما على كل المطابع بعدم طباعة العدد، إلا إذا ذهبنا لوزارة الإعلام وأخبرناهم أين سنطبع وفي أيّ وقت، كنت أريد تجاوز هذه المسألة، لكي لا يمرّ العدد على الرقابة، وجدنا مطبعة في منطقة نائية وطبعنا هناك، الساعة التاسعة وزّع العدد في السوق، وفي الساعة العاشرة سحبته الدوريات الأمنية من الأسواق، وصدر بعد ذلك أمر بإغلاق جريدة الدومري وسحب الرخصة، وبحسب قانون الطوارئ، أغلقت صحيفة الدومري لمخالفتها القوانين والأنظمة المرعية فقط لا غير، نعم أُغلقت الدومري لكنها ما زالت تعيش في أذهان الناس، إغلاقها زاد من تقديرها من قبل الشارع. تحدثت عن مشروعين ما هو مشروعك الثاني؟ المشروع الثاني هو الصالة، والآن أحاول طبع أعمالي على ستائر، وفناجين، وأشياء للزينة، رغبة مني أن تصل الفكرة إلى البيوت بكل الأشكال، أريد أن أحول البيوت إلى معارض هذا هو مشروعي الجديد، إنعاش الأفكار في كل لحظة، لتخلق تداعيات، فالأفكار ربما تأخذ الموجودين إلى حوار، فأساهم بذلك بخلق مادة وثقافة جديدة، مبنية على فكرة مطروحة عبر غرض يوضع في المنزل، أما بالنسبة إلى الموقع الالكتروني، فأنا سعيد بأنه بدأ يحقق ترتيبا لا بأس به على مستوى العالم، لدينا أكثر من سبع عشرة ألف مشترك، وزوار من كل أنحاء العالم، اليوم لا يمكن أن نضحك على عقول الناس، فالناس تعرف الغثّ من الثمين، والسخيف من الجيد، تعرف إن كان هذا الموقع يتحدث باسمها أولا، وهي تحكم؛ الناس هي من تصنف الفنانين والمواقع، هذا ليس تصنيفي، كلمة الحسم للشارع، عندما يرسل لي أحدهم رسالة يشكرني فيها على أي شيء، لا أشعر أنه ثمة داعٍ لشكري، لكنني أشعر بأنني داخل امتحان، وأسأل نفسي ماذا سأرسم غداً؟. ليست الرقابة على الإعلام السوري بالشيء الجديد، بل هي حاضرة في كل تفاصيل حياتنا اليومية، هل استطاع الكاريكاتير، بما يحمله من تجريد وقدرة دلالية، أن ينجو من الرقيب، ويلعب دوراً إعلامياً منافساً؟ الرقيب يحاسب الفنان على أي كلمة، وخوفاً على رسوماتي من أن تمنع من النشر، وأن تبقى حبيسة الأدراج، وكون الكلمة تشكل حاجزاً بالنسبة لي، ويجب أن تمر على سلسلة من الرقباء، اختصرت الكلام وعبرت عنه بالرسم، رسمت شرائح اجتماعية كل شريحة ترمز إلى فئة اجتماعية محددة، الموظف له شكل، المخابرات له شكل، العسكري أيضاً والمواطن المسحوق، لكلَ شكله الخاص، بدأت بهذا الأسلوب ومع الوقت تعمق وأصبحت مفرداته سهلة بالنسبة لي وللمتلقي على السواء، يكفيني للتعبير عن الفكرة رسم مجموعة من الشخصيات وتحديد العلاقات بينها دون كلام، لتصل الفكرة للناس، إنها شيفرة بيني وبين المتلقي، ليست طلاسم ولا أحجية، كل كاريكاتير له مفتاح، الناس مع الوقت تعودت عليه، وبدأت تستمتع به. في كثير من الأحيان استطاع الرسم الكاريكاتيري أن يختزل قضية، ويصبح رمزاً لها يحضر في ذهني الآن ناجي العلي ورمزه حنظلة على سبيل المثال هل للفن أن يلعب هذا الدور في التعبير عن محتوى قضية ما؟ وهل ألهمتك الأحداث في سورية مثل هذا الرمز؟ لا شك بأنّ ناجي العلي حالة خاصة بين رسّامي الكاريكاتير، إنه حالة من الشعر والزجل والأدب والفن والفعل السياسي والوطن، تعمّق في القضية الفلسطينية وقاوم بالريشة ودفع ضريبة غالية جداً، وعندما رثيته قلت: «آسف على وطن يلتهم دماغه»، ناجي العلي حالة خاصة ولا يمكن أن تتكرر، إلا أنني أقدم شكلاً فنياً مختلفاً عمّا قدّمه ناجي العلي، بينما هو يعتمد على الكلمة أنا ألغي الكلمة، إنني أؤمن بأن الغاية من الكاريكاتير ليست فقط الإضحاك أو التسلية، نتمنّى أن نصل يوماً ما إلى هذه المرحلة، لكن هل يمكننا تجميل مجزرة؟!، في أسلوبي كوميديا سوداء أو سخرية مرة، فلا تكاد تفرغ من الابتسامة حتى تشعر بالوجع، هذا نابع من واقع نعيشه. ما تأثير ما يحدث الآن في سورية على أعمال علي فرزات؟ لا شك بأن الأحداث الأخيرة أثّرت على عملي، وأدّت إلى إدخال أشياء جديدة إلى رسوماتي، أولاً أسلوبي في الرسم ينطبق على كل زمان ومكان، وهذا طبعاً في الظروف العادية. وعادة ما أعتمد في ذلك على التحليل الذهني التأملي، في الحالة العادية يمكن للمتلقي أن يشرب فنجان قهوته الصباحي، ويتأمل الكاريكاتير ويدخن سيجارة، ثم يكتشف المعنى مبتسماً، هذه الحالة من الاسترخاء لم تعد متوفرة الآن، اليوم الكاريكاتير يجب أن يلبس لباسه الميداني، لذا فأنا اليوم ألبس كاريكاتيري «ثياب البهدلة» مع درع واقٍ من الرصاص، وأنزله إلى الشارع، فالمتظاهر الذي يهتف اليوم في الشارع غير مستعد للجلوس في القهوة ليقرأ جريدة، إنها مساحة مقتطعة من الزمن على الكاريكاتير أن يتناسب معها، فالكاريكاتير في المحصلة هو لغة، وهذه اللغة إذا أتت في غير مكانها يصبح من الصعب فهمها. الآن هناك كاريكاتير سريع، فلاش، أستطيع أن أسمي ما أرسمه الآن كاريكاتيراً ميدانياً، كاريكاتير تحوّل بفعل هذا الوضع الاستثنائي من رسم إلى لغة، أي مواقف مرسومة بالكلام. في عام 2007 وبالتحديد لجريدة «نيوزويك»، صرحت «النظام السوري يحتاج إلى إصلاحات، وإذا لم يتحرك وبسرعة فالطوفان قادم» هل من تنبؤ لما هو قادم؟ التحرك الذي يجري اليوم أشبه بسيارة فيها ثلاث غيارات، أول.. ثاني.. ثالث، لكن لا يوجد أنرييه، لا طريق للعودة أو الرجوع إلى الخلف، إنه حالة من رد الاعتبار للقيم الإنسانية، وأما من اختار أن يدفن رأسه في الرمل فهذه تبقى مشكلته هو، وفي المحصلة «لكي تخرج من الحفرة عليك أن تتوقف عن الحفر»، الطبيعة الإنسانية ستنتقم لنفسها، لا أعرف بأي طريقة، ولا بأي شروط! لكني متأكد من ذلك. عن «الأوان»