يقتصر هذا الكتاب على دراسة المظاهر الغرائبية المتصلة بالمغرب والواردة في مؤلفات الرحالين الفرنسيين الذين زاروا المغرب أو أقاموا فيه لبعض الوقت. وينتمي هؤلاء الرحالة إلى فئات جد متنوعة تتّسع لتشمل السفراء والقناصل ورجال الدين والعبيد والضباط والجنود والمستكشفين والجغرافيين والتجار والموظفين والأدباء والصحفيين والسياح.. كما أن مؤلفاتهم هي كذلك جد متباينة وتتنوع بين الأخبار التوثيقية والمقالات التصويرية والذكريات والمراسلات وكراسات الأسفار والتحقيقات واليوميات إلخ...وتنتسب جميع هذه الكتابات، الجد مختلفة شكلا ومضمونا، والتي تتوزعها الانطباعات السريعة لمسافر عابر، والروايات الموضوعية الناجمة عن إقامة طويلة في البلد، إلى عنوان عام هو «أدب الرحلة». ويشار إلى أن معظم الفصول التي يشتمل عليها هذا الكتاب قد تمّ تحريرها انطلاقا ممّا دوّنه المؤلف عندما كان يعدّ دروسا ميدانية عن الأدب الغرائبي والكولونيالي كان يلقيها أواخر عشرينات القرن الماضي على طلاب معهد الدراسات المغربية العليا بالرباط (كلية الآداب حاليا) . وقد أضاف إليها بعض العناصر الضرورية لاستكمال التدرج التاريخي للوقائع، والربط بين أجزائها المتفرقة، وتقديمها في شكل لوحة متناسقة. لقد أمكننا أن نرى بأنه سيكون من المجازفة دون شك أن نأخذ سرد هذه المغامرات مأخذا جديا. بيد أنه لن يكفي أن ننظر إلى هذا النص من زاوية حقيقة ما يرويه، أي أن نعتبره سردا وثائقيا بحصر المعنى، ذلك أننا سنلاحظ فيما بعد بأنه يتضمن مع ذلك بعض المعلومات الصحيحة، ولكن لنقتصر في الوقت الراهن على التعامل معه بوصفه رواية مغامرات. يوجد في كل الآداب، اتجاهان كبيران من رواية المغامرات: تلك التي تقوم على خلفية تاريخية، مثل تلك التي كتبها ألكسندر دوما في اللغة الفرنسية، أو والتر سكوت في اللغة الإنجليزية، وتلك التي تقوم على خلفية جغرافية، ونموذجها الأصلي رواية روبنسون كروزو. وإلى هذه الفئة الثانية ينتمي هذا الكتاب الذي يشغلنا الآن. فالبطل الذي لم ينصت دائما إلى النصائح الحكيمة التي يسديها العقل، سيتبع طريق جماعة من الجنود الذين يحاربون في الأقطار الأجنبية، ثم سيركب البحر إلى البلاد البعيدة، متعقبا السراب، وفي الطريق يقع في قبضة القراصنة، وسيقوده طالعه السعيد في العمق، إلى مرافقة هؤلاء القراصنة في حملاتهم البحرية، وأثناء ذلك سيتعرض للغرق (سنلاحظ بأن الغرق عنصر ملازم لرواية المغامرة ذات الخلفية الجغرافية)، وبدلا من أن يتم إنقاذه فإنه سيقع مجددا بأيدي قراصنة آخرين سيأخذونه بعيدا إلى بلاد عجيبة، حيث سيقوم بالصيد ويشارك في الحرب وينتهي به الأمر إلى السجن، (55) وأخيرا سوف يتمكن من الفرار في ظروف روائية...ألسنا هنا أمام كل المكونات لحكاية مغامرات جميلة؟ لكن كيف يا تُرى تشكل هذا الكتاب؟ انطلاقا من تتابع بسيط من المغامرات، وتداخل في المواقف، وهذا ما يفسر انشدادنا إلى تطورها ورغبتنا في التعرف على الكيفية التي سيتخلّص بها البطل من مآزقه. ذلك أن روايات المغامرات لا تجتذب إليها القراء بواسطة المتعة الجمالية، السيكولوجية أو الوثائقية، ولكن بواسطة جاذبية السرد نفسه، أي القصة المحكية في ذاتها. بوسع أي أحد أن يأخذ على هذه القصة كونها تفتقر إلى عنصر أساسي في كل روايات هذا النوع، أي إلى العنصر العاطفي. وبالفعل فبالنسبة للكثيرين يكون من الضروري أن تتوفر مثل هذه الروايات على قصة حب تشكل محورا تدور حوله المغامرة. غير أن روبنسون كروزو مثلا لا تتوفر على مثل هذه الحبكة، ليس قطعا لما نعتقده بأنها رواية مخصصة للأطفال. ذلك أن رواية المغامرات يمكنها تقتصر على عرض مغامرات فحسب. ثم ما هو التعريف الذي نضعه لكلمة مغامرة؟ إنها بالمعنى المباشر «كل ما يحدث»، أي ما يحدث للبطل من أشياء غير متوقعة، غريبة، وفي حكم المجهول. يتعين إذن حصول تغيير، وحركة، ودينامية. يتعين كذلك أن يجوب البطل بلدانا جديدة عليه، وليست بالضرورة تلك المألوفة لديه. سيكون عليه كذلك أن يستنشق هواء عرض البحر، وليس بالضرورة عطر النساء. وعليه، إذا ما استطاع إلى ذلك سبيلا، أن يحكي مغامراته الشخصية، ولا شيء يمنعه إذا أراد من أن ينسج حولها ما يشاء من حكايات. وفي هذا السياق، يبدو لامارتينيير قد أوفى بكل هذه الشروط. فلربما كان بهذا الصنيع يقترب من رواية المغامرات الإنجليزية أكثر من اقترابه من تلك العائدة لأدبنا الفرنسي. غير أن هذا ليس بمأخذ عليه. من المفيد أن تكون رواية المغامرات قد كتبت على يد ذلك الشخص بالذات الذي خاض تجربة الرحلة وذاق معاناتها.إن الذي رأى وعاش ما ينقله في كتابه، بإمكانه أن يعرض علينا من الأحداث ما لا يراود الكاتب القابع في منزله. إن الأدب الفرنسي غني ب»الروايات المغربية» التي تشتمل على متعة رائقة لا حد لها، ولكنها لا تتضمن أية حقيقة محلية، ولا أي أصالة في الشخصيات. ونحن نعلم أن لامارتينيير قد ضمّن أجزاء من كتابه مواقف مختلقة غير أنها كانت عبارة عن فصول تخييلية. وعندما كان يعالج موضوعات يعرفها تمام المعرفة، لأنه عاشها شخصيا، فإنه يبث في سرده عناصر من الملاحظة المباشرة تأتي لكي تغني على نحو أفضل الأجزاء الروائية من عمله. وهنا نلامس المظهر الثاني من الكتاب، الذي فضلا عن أنه سرد مغامرات (الذي أطلقنا عليه قبل قليل رواية مغامرات)، فإنه يتضمن كذلك مادة وثائقية. وتوجد هذه الأخيرة مندسة في متن الكتاب، ولكننا عندما نقوم بتجميعها وتحليلها على حدة، فإننا نلاحظ بأنها تقدم طائفة من المعلومات، التي تبدو أحيانا غاية في الأصالة، حول حياة القراصنة المغاربة، وليس فحسب حول مغامراتهم البحرية، بل أيضا عن طريقة تصرفاتهم اليومية، سواء على اليابسة أو في البحر. لنقدّم بعض الأمثلة التي تشخص ما ذهبنا إليه. فعندما كان يُحمل الأسرى إلى سلا على متن بواخر القراصنة، فإن العادة جرت بأن يباعوا أمام العموم. وكان هناك شخص شبيه بالنخاس يتولى المزاد العلني. وقد كان من المحظور سرقة الأسرى. ولكن هذا لم يكن يمنع بعض القراصنة السلاويين من أن يتخذوا من سرقة الأسرى مهنة لهم، وعندما ينجحون في مهمتهم كانوا (57) يسوقون ضحاياهم إلى ظاهر المدينة حيث يودعنهم في بعض المساكن البعيدة عن الأنظار ليتمكنوا فيما بعد من نقلهم، ليلا، إلى فاس أو تطوان، حيث يباع الأسرى بأثمنة جيدة. وقد كان القراصنة يعاقبون مَن يمارس هذه التجارة بالموت. ويحكي لامارتينيير كيف شاهد ذات يوم خوزقة أحد لصوص الأسرى هؤلاء في الساحة العمومية. وفي مكان آخر من الكتاب، يقول بأنه رأى ذات مرة حشدا من الناس يتبعون حمارا أُركب عليه أحد المغاربة من الخلف، أي موليا بظهره شطر رأس الحمار، و اثنان من الجنود يجلدان وجهه بسوط من أحشاء الخنزير. وعندما سأل عن معنى ذلك قيل له بأن ضرب من العقاب الذي ينزل بمن ثبتت عليه من العرب علاقة زنا بإحدى الأسيرات المسيحيات. ومع أن الناس كانوا يخشون من هذا القصاص العمومي فإن زمرة من المسلمين لم يكونوا يتورعون من الفجور العنيف بالأسيرات. وهذا النوع من الوقائع الصغيرة لا نجد له حضورا في كتابات أعضاء البعثات التي كانت تستغرق أساسا في تصوير ظروف عيش المسيحيين من الأسرى. وإلى جانب ذلك فليس من غير المفيد أن نكوّن فكرة عن القوانين التي يخضع لها المسلمون في معاملاتهم تجاه الأسرى. وبفضل لامارتينيير أمكننا أن نطّلع على الوجه الآخر من اللوحة. ذلك أن ما يزيد في أهمية ما يرويه لنا هو أنه كان يقف إلى جانب الأسرى بقدر وقوفه إلى جانب القراصنة الذين كان يشاركهم عملياتهم. وهذا الموقف الجديد تماما في السرد كان يسمح له بتقديم بعض الأشياء التي كانت محجوبة عنا. من البديهي أن الفصل المخصص للعمليات البحرية من الكتاب هو الذي يتضمن قدرا وافرا من المعلومات. ومن هذه الناحية فإن معين مؤلفنا لا ينضب. فمعه كنا (58) نشهد على التوالي تشكيل الأساطيل، والاستعدادات للمعركة، والاحتياطات المتخذة، والطرائق التي يستعملها القراصنة في مهاجمة البواخر وقطرها إلى مينائهم. وعبره كنا نعلم كذلك بأن غزواتهم كانت أحيانا تكلّفهم ثمنا باهظا. وليس هناك أكثر من مؤلَّف أو مؤلفين، في مجموع ما كتب القراصنة السلاويين، مَن يقدم مثل هذه التفاصيل عن عمليات جوّابي البحر هؤلاء، وإذا تركنا جانبا كتاب الأب دان، فإن مؤلفي هذه الرحلات كانوا يتشكلون أساسا من الإنجليز الذين تمكنوا من النجاة من قبضة المغاربة. وبصدد المعتقدات الرائجة لدى البحارة القراصنة، يخبرنا لامارتينيير عن ممارسات غريبة. ونحن نتذكر بأن هؤلاء لكي يلطّفوا من أهوال العاصفة كانوا يضحّون بخروف يرمون بأعضائه في عرض البحر وسط الأمواج الهائجة. وعندما يهمّون باجتياز مضيق جبل طارق، المشهور بسمعته السيئة، كانوا يلجؤون إلى الصلاة جماعة على ظهر السفينة، ويشعلون شموعا يضعونها على المدافع، ثم يلقون إلى البحر بقربان هو عبارة عن جرّة من زيت الزيتون. وحتى يطردوا سوء الطالع ويضمنوا غنائم وافرة، كان من عادتهم أن يمارسوا طقسا غريبا يقضي بإحماء مسمار في النار يرسمون بواسطته في باطن أقدامهم علامة الصليب، ثم يغمرون كامل أجسادهم بدلاء كبيرة من الماء لكي يتطهروا من الذنوب. وعلينا أن نعترف بأن هذه المعلومات تعتبر جديدة في آداب الرحلة، وكل هذا الذي ليس من اختلاق المؤلف، يأتي ليندرج بطريقة بالغة السلاسة ضمن سرد المغامرات، بحيث يتجاور مع التخييل المجنح. إن لامارتينيير يملك فن المزج بطريقة خلاقة بين الأحداث الحقيقية والوقائع المتخيلة. وهذا بالذات هو الأسلوب المستعمل في روايات المغامرات. (59) وكتّاب السير يمكن أن يربكهم هذا الكتاب، فهل يكون رحلة حقيقية؟ أم سرد روائي؟ إنه الاثنان معا ترجيحا. ثم إنه لا يجب الركون إلى تلك التحديدات الجامدة، فللكاتب الحق في أن يؤلف كتابه بالطريقة التي تروقه. ومن بين كل تلك المجلدات العديدة التي كتبت حول الأسر بالمغرب، يحتل هذا الكتيب الصغير الذي ألّفه لامارتينيير مكانة خاصة. وربما كان يقترب أكثر من بعض مؤلفات الإنجليز في الموضوع كما أشرنا إلى ذلك أعلاه. ولكن لا يغيظنا أن تندرج مساهمة فرنسية في هذا النوع الأنجلوساكسوني ضمن المكتبة المغربية.