كُتبت النصوص التي جمعها الكاتب الكولومبي الكبير كابرييل كارثيا ماركيث قصد إلقائها علنا أو في جمع ما. يتعلق الأمر بخطابات ألقاها الكاتب الحاصل على جائزة نوبل للآداب في عدة مناسبات، و تطرق فيها إلى جوانب مختلفة تخص حياته الأدبية. كما تميط اللثام عن عشقه لمهنة الصحافة، و عن قلقه تجاه الكوارث البيئية، وعن مقترحه لتبسيط النحو في اللغة الإسبانية، و المشاكل التي تتخبط فيها كولومبيا، وذكرى أصدقائه الكتاب من أمثال خوليو كورتثار و ألبارو موتيس، من بين آخرين. يتزامن افتتاح هذا المعرض مع لحظة تاريخية بدأت الإنسانية تبدوا فيها مختلفة. عندما فكرت ميلاغروس مالدونادو في المعرض منذ ثلاث سنوات، كان العالم لا يزال غارقا في شبه ظلمة القرن العشرين، و هو واحد من بين القرون النحسات التي شهدتها هذه الألفية التي تحتضر. كان الفكر أسير عقائد لا يمكن التوفيق بينها وإيديولوجيات نفعية خُطَّت على الورق و ليس في قلوب الناس. فجأة، هبت ريح لا ندري من أين جاءت، فأخذت في اقتلاع هذا العملاق ذي الأرجل الطينية، وجعلتنا ندرك أننا ضللنا الطريق لا نعلم منذ متى. وعلى عكس ما يمكننا أن نتصوره، ليست هذه ببوادر انحراف، على العكس من ذلك، إنه صبح طويل لعالم يتسيده التحرير الكلي للفكر، ولن يكون لأحد على أحد سلطان غير سلطان العقل. ربما عاش أسلافنا تجربة شبيهة بهذه سنة 1942، عندما وطأت أقدام رهط من البحارة الأوروبيين هذه الأرض في طريقهم إلى الهند. لم يعرف أجدادنا الأوائل البارود ولا البوصلة، ولكن عُلّْموا منطق الطير والتنبؤ بالمستقبل بقراءة الجفان. وربما لم يتيقنوا، بمشاهدة النجوم في السماء التي لاحد لها عصرئذ، من كروية الأرض، إذ كانوا على جهل بأسرار العلوم، ولكن كانوا علماء في الخيال. هكذا احتموا من الغزاة الذين جاؤوا بحثا عن الإلدورادو، تلك الامبراطورية الوهمية التي كان ملكها يغطس في بحيرة مقدسة، مغطى البدن بغبار ذهبي. كان الغزاة يسألونهم عن مكانه، فكانوا يشيرون إلى الاتجاه بأصابع أيديهم المبسوطة. كانوا يقولون لهم: «هنا، هناك، هنالك». تعددت الطرق المتفرعة، فالتبس عليهم الأمر، يأخذون طريقا فيجدونه بعيدا، وكذا الطريق الآخر والآخر. صارت مهمتهم مستحيلة، فأصبح المنقبون على الذهب، الجشعين والمجانين يتيهون في الطرقات من غير الاهتداء إلى طريق العودة. لم يعثر أحد على الإلدورادو، لم يره أحد، ما وُجِد البتة. مع هذا، فإنه أغلق الباب على القرون الوسطى وفتحه أمام من بمجرد ذكره نتصور حجم التغيير: عصر النهضة. بعد خمسة قرون شعر العالم برجة أخرى عندما ترك نيل أرمسترونغ أثره على القمر. كنا وأرواحنا بين أيدينا في صيف حار بجزيرة بانتيلاريا الإيطالية ونحن نشاهد على التلفاز تلك الجَزْمة الصوفية التي كانت تبحث خبط عشواء على سطح القمر. كنا زوجين اثنين: زوجان من أوربا و ابنيهما، وزوجان من أمريكا اللاتينية و ذويهما. انتظرنا متوترين ونحن نشاهد الجزمة اللاقمرية تضع باطنها في الغبار الجليدي، فقرأ المعلق تلك الجملة التي كان يحفظها منذ الأزل: «لأول مرة في تاريخ البشرية يضع إنسان قدمه على ظهر القمر». كنا نحس و كأننا نرتفع في الهواء أمام رعب التاريخ. جميعنا، عدا الأطفال الأمريكو لاتينيين الذين تساءلوا بصوت واحد: «هل هي المرة الأولى فعلا؟». ثم غادروا القاعة محبطين: «يا لها من حماقة». بالنسبة إليهم، كل شيء مر بمخيلتهم - كالإلدورادو - إلا و تحقق سالفا. فغزو الفضاء، كما تخيلوه في المهد، تحقق منذ أمد بعيد. و الحال هذه، لن يكتب شيء سلفا في المستقبل المنظور ولن تجد الأوهام مكانا لها هناك. كم من أمر كان بالأمس يعتبر حقيقة، إلا أنه في الغد لن يبقى كذلك. ربما سيقتصر المنطق الصوري على منهاج دراسي حتى يتمكن التلاميذ الصغار أن يفهموا كيف كانت عادة الخطأ قديما، وربما سيبسِّطُ التخاطر تكنولوجيا المواصلات الحالية المعقدة. يتعلق الأمر هنا بنوع من البدائية المصورة يكون الخيال أداتها الأساسية. دخلنا إذن عهد أمريكا اللاتينية، المنتج الأول للخيال الإبداعي، تلك المادة الأساسية الغنية والضرورية للعالم الجديد؛ وما اللوحات المائة لرسامين أصحاب خيالات واسعة إلا نموذج: التنبؤ المسبق بقارة لم تكتشف بعد، حيث السعادة يمكن أن تقهر الموت، وسيعم السلام الأبدي، والصحة الجيدة، و المزيد من الغذاء الساخن، والمزيد من الولائم اللذيذة، والمزيد من كل شيء جميل للجميع. وفي كلمتين: المزيد من الحب. كاراكاس، فينزويلا، 4 مارس 1990