إن مساءلة الذات بشكل عقلاني و نقدي، يعبر عن ارادة للتطور، عبر اعادة ترتيب واعية للعناصر المشكلة للذات. استجابة للاكراهات و التحديات ، و استخلاصا للعبر و الدروس من التجارب السابقة. مما يحقق التجدد كشرط اساسي للاستمرار، ذلك ان التسليم بثبات الهوية يسقطنا في فخ الجمود و السكون المؤديين للتلاشي و الاندثار. إذا اعتبرنا حركة 20 فبراير ظاهرة سياسية، فإن تحديد هويتها يطرح تعقيدات منهجية لا يمكن اغفالها. فبين ضرورة انتظار النتائج، تماشيا مع مبدأ الاخذ بالخواتم، و الحكم عليها، يمكن ايضا اعتماد مقاربة بنيوية تفكيكية لمكونات الظاهرة، الامر الذي يفرض توفر مسافة فكرية كافية، لإعمال الفكر و تحديد تلك المكونات بدقة و دون التباس او تداخل. بالرغم من كل هذه التعقيدات التي تطرحها محاولتنا تحديد ماهية حركة 20 فبراير كظاهرة سياسية و تناولها برؤية نقدية، فإننا سنجازف بذلك صيانة الأمل الجميل الذي زرعته فينا، نحن هذا الجيل المفتقد للطوبى الباعثة لحماس الشباب. لقد شكلت ثورتا تونس و مصر، فرصة سانحة لانبثاق وعي جديد لدى المواطن المغربي، و إعادة الامل من اجل تغيير طال انتظاره، من اجل الانتقال نحو الديمقراطية الحقيقية، و الحياة الكريمة. لكن الدور الخارجي ينحصر دوره كمحفز عند اصحاب الكيمياء، يسهل تفاعلا تكون مكوناته قابلة للتفاعل في ما بينها. اذ يتخبط المغرب في مشاكل جمة، من فساد سياسي و مالي، ادى الى احباط جماعي، من تمظهراته سلسلة الانتحارات الجماعية عبر قوارب الموت، بحثا عن جنة منشودة، هربا من احلام موؤودة، و كذلك الانحباس السياسي، المتجلي في العزوف الانتخابي. كما سهلت تكنولوجيات التواصل تشكل وعي جديد تتجذر فيه القيم الكونية، عبر الاطلاع على تجارب اخرى. ان تلاقح هذه العوامل، و تلاحق سقوط نظامي بن علي و مبارك، سهلا خروج الحركة من العوالم الافتراضية الى الشارع. يلاحظ المتأمل لهذه الحركة انها لا يمكن ان تشكل ثورة، لافتقارها لخلفية فكرية و نظرية، ترسم اهدافها، و تسطر آليات اشتغالها، الا انها اكثر من فورة، يسهل اخمادها، لتبقى الحالة على سابق عهدها. يمكن ان نشبه حركة 20 فبراير بموجة تحمل امال التغيير، من الممكن أن تتكرر كلما ساد الاستبداد و عم الفراغ و التواطؤ. يمكن حصر الحركة في خمسة مكونات اساسية. الشباب الذي يمارس السياسة، خارج الاحزاب و التنظيمات القائمة، مستغلا المساحات التي اصبحت تتيحها وسائل التواصل الحديثة، سواء عبر المواقع الاجتماعية، او بابداع صور فنية، او ظهور الحركات البديلة... تنحدر غالبية هؤلاء من الفئات الوسطى، اذ لا نجد بينهم ابناء فئات شعبية ( ابناء عمال، فلاحين، فقراء من الاحياء الهامشية...)، هؤلاء الشباب يعبرون عن افكار ديمقراطية عميقة بلغة بسيطة، دون ان تكون لهم وصفة بديلة لتحقيق مايصبون اليه سوى الاقتناع بضرورة الضغط و الاحتجاج. اليسار الذي اصبح معزولا عن قواعده الاجتماعية، خاصة في العقد الاخير، و صار نخبويا (مثقفين، بعض عناصر الطبقة الوسطى...) و جزء من الطبقة العاملة عن طريق النقابات، و بعض الامتدادات عبر الجمعيات (الحقوقية، تنسيقيات الاسعار، شبكات الاحياء...) و قد كان التفاعل بين اليسار و الشباب تلقائيا، باعتبار هؤلاء الشباب يساريين في طروحاتهم و ميولاتهم. و يبدو لي أن احتضان اليسار لهؤلاء يمثل جوهر وأساس مستقبل التغيير. جماعة العدل و الاحسان، التي اعتبرت هذا الحراك فرصة مواتية لقياس مدى تجاوب الشارع و نخبه معها. ما يمكن ان نطلق عليه «الليبرالية المواطنة» خاصة أرباب الشركات الصغرى و المتوسطة، و التي تعاني من ضغط الشركات الكبرى المستفيدة من تداخل السياسي و الاقتصادي جزء من الطبقة الوسطى [المهندسين، الاطباء، المحامين...]، يمكن تقسيمها الى جزئين، الاول يمارس السياسة وفق مرجعية دينية، و هو الأغلب بدليل سيطرته على النقابات المهنية، و قسم آخر متنور و حداثي، عازف عن السياسة بشكلها الحالي، لكنه يميل الى ان تتغير الاوضاع بشكل سلس، و هذه الفئة يمكن ان تشكل حليفا اساسيا لليسار. نلاحظ أن اليسار يفتقر الى الامتداد الجماهيري، اما جماعة العدل و الاحسان فيبدو ان الشارع المغربي غير مستعد لتقبلها، و انه اميل للوسطية و الاعتدال، و تواق في الآن نفسه للتغيير. نعتقد ان حركة 20 فبراير لم تنتج ذكاء جماعيا يمكنها من النفاذ الى عمق المجتمع، و للتدليل على ما نقول، نذكر ان عدد المتظاهرين يوم 20 فبراير قدر ب 200 الف، و بلغ مداه يوم 24 ابريل و قدر ب 800 الف، و هذا العدد يظل قليلا في بلد تعداد سكانه 31 مليون نسمة، منهم 63.4% اعمارهم بين 15 و 59 سنة. بالمقابل في مصر مثلا اشترك في اليوم الاول للمظاهرات 2 مليون مصري، في القاهرة و السويس و الاسكندرية، لينتقل بعد 24 ساعة الى 15 مليونا في كافة بقاع مصر. اذا آخذنا على 20 فبراير قصورها عن تحقيق ذلك الزخم الجماهيري، لا يعفينا من الاعتراف بما حققت من تراكمات في ايام معدودات، لولا الحراك كان يجب انتظار سنوات لبلوغها. يبدو لي ان نقطة ضعف حركة 20 فبراير الاساسية، تكمن في عدم قدرتها على رصد المشاكل الحقيقة للمجتمع بدقة، نظرا لتباين مكوناتها و بالتالي الاستنزاف في صراعات هامشية من جهة، من جهة اخرى عدم أخذ الوقت الكافي من اجل انضاج شروط وجودها. نعتقد اليوم أن الوقت مناسب أكثر من ذي قبل، للتفكير الجماعي، من اجل اعطاء نفس جديد للحركة، و نطرح بعض الاسئلة التي تبدو الاجابة عنها ضرورية لتحديد مستقبل الحركة. هل يكمن المشكل في نظام الحكم؟ ام آليات الحكامة؟ هل يعاني المجتمع من الفقر، ام من الهشاشة (غياب عدالة اجتماعية) ؟ لماذا لم نحول النمو الاقتصادي الى تنمية بشرية؟ هل يعاني الشباب من البطالة ام من الشغل غير اللائق؟ كيف نتعامل مع المسألة الدينية، في مجتمع يتجاذبه المد الحداثي و الجزر الظلامي؟ اننا لا نملك اجوبة جاهزة لهذه الاسئلة، و لكننا نرى طرحها ضروريا، للانتقال بالوعي الجماعي الذي شكلته حركة 20 فبراير، الى درجة السجال و الاقتراح و عدم الاكتفاء بالاحتجاج. بالموازاة يمكن ترسيخ حركة 20 فبراير ، كظاهرة سياسية افرزت لنا سلطة جديدة، نسميها «السلطة الخامسة» او «صوت الشعب» الذي يصدح كلما تخاذلت النخب.