عن منشورات «مرسم» بالرباط، صدرت الطبعة الثانية من الترجمة العربية لكتاب «رسائل إلى شاب مغربي»، وهو الكتاب الجماعي الذي انتقى مواده وقام بتقديمه الكاتب المغربي المقيم في فرنسا عبد الله الطايع، والذي ترجمه الزميل سعيد عاهد. نقرأ في الغلاف الأخير للكتاب: « المغرب يتحرك. المغرب ينتظر. المغرب يتراجع. ما زال شبابه يتعرضون للتجاهل، للتهميش. من يحدثهم مباشرة؟ من يفهمهم؟ من يُلهمهم؟ من يساعدهم على إثبات ذاتهم، على أن يكونوا أنفسهم وأحرارا؟ على أن يكفوا عن الشعور بأنهم متخلى عنهم، معزولون؟ على الإمساك بزمام أمورهم؟ في هذا الكتاب، يرسل 18 كاتبا وفنانا مغربيا، يقيمون في المغرب أو خارجه، رسائل لهؤلاء الشباب، رسائل منبعثة من القلب. رسائل لنسج رباط مبتكر معهم. لتقديرهم، لتشجيعهم، لنقدهم، لإيقاظهم، لتربيتهم. لإعادة النظر في النظام معا ولرفض الكم الهائل من المحافظة الذي يمنع البلاد من الولوج، أخيرا، إلى حداثة فعلية. كتاب حميمي وسياسي، من أجل الانخراط في التاريخ بشكل مغاير.» من بين أجمل نصوص الكتاب اخترنا للقراء الكرام ترجمة نص عبد الحق سرحان الذي يحمل عنوان «القناع». عبد الحق سرحان ترجمة: سعيد عاهد « صباحا، انبثق من أحلامي، أكون أسعد الملائكة (....)، أنام ليلا، أكون دنيئا حقيقيا، ما الذي فعلته إذن بين اللحظتين؟ لقد صاحبت الناس ونقبت في برازهم.» عبد الله سيدران (سراييفو، 1993). قبل سنوات، شرعت، ، في الكتابة، على صفحات مجلة «لوجورنال» الأسبوعية، بانتظام لرسالة موجهة إلى مغربي في العشرين من العمر كي أحيطه علما بشكوكي، قلقي المتعدد، أحزاني، لكن، كذلك، بالأمل الدقيق الذي أتقاسمه مع حفنة من الرجال والنساء الذين لا يزالون واقفين في هذا البلد. أجبرت على التوقف عقب مرور سنة لأسباب شخصية، ولكن أساسا بسبب نكران الجميل المستفحل في أوساط الناس. لم أكن بحاجة لهم. لم يكونوا بحاجة لي. كانت رحى المعركة تدور في مكان آخر. وأكثر من هذا، فإنه لم يبق ثمة ما يقال. الشأن العام بين يدي صبيان متلهفين على السلطة والمال. الثروات تتراكم بعنف من طرف أربعينييي العهد الجديد الذين يجففون البئر ويصيبون ضروع البقرة المجنونة بفقر الدم. تشتغل المحاكم بلا هوادة ضد حرية التعبير، أما خروقات حقوق الإنسان، فإنها تغرق من جديد في ظلمات سنوات الرصاص. قوات الأمن زُودت بعتاد متطور للتعنيف. الدم يستمر في السيلان، والموت تحت التعذيب يتربص، بينما عشيرة ذوي الامتيازات تراكم الملايير في أمان، بعنف، على مرأى ومسمع الجميع. لا شيء يشوش على عزمها قيادة البلد في اتجاه الإخفاق. من ينتفض؟ من يغتاظ؟ أحزاب اليسار أصبحت ممسحة النظام والنقابات خادماته الخسيسات، لدرجة صار معها قادتها يجسدون البلاهة السياسوية و التناقض. لقد خانوا قضية الشعب، لأنهم دجنوا وتبرجزوا، انتفخوا بفضل الامتيازات والكفاية. يتبولون في سرواليهم واقفين مع كل هيجان في الشارع و كل تعديل وزاري. إننا، من الآن فصاعدا، أمام: هم والشعب، هم في مواجهة الشعب. ويجد الشعب نفسه معزولا، وحيدا في مواجهة شتى أصناف بؤسه وخيبات أمله. أما الغرب، فيغض الطرف وينظر في اتجاه آخر، مشيدا، وسط صمت الجبناء، جدران العار بين الشمال والجنوب، بغية وضع حد للهجرة السرية. يواصل شبابنا الموت وسط أمواج البحر الأبيض المتوسط، محاولين عبور المضيق على متن «قوارب الموت» المهترئة، قصد الوصول إلى شواطئ العار. نحن المأساة، ومعها الجحيم. فعلا، ظل المغرب باستمرار مِلكا للذين يتقنون استغلاله لصالحهم. النزهاء من بين ناسه يذهبون للبحث على سماوات أرحم لاجترار يأسهم. لكثرة ما وُصفت بالمحرض والمثير للمشاكل، قررت التوقف نهائيا عن الكتابة حول أجمل بلد في العالم. ما جدوى ذلك إذا كان الإنسان قد صار أصم إزاء الكلمات الصائبة، أبكم حيال قول الحقيقة وأعمى عن التقلبات الاجتماعية؟ لماذا الكتابة؟ لقول ماذا ولمن؟ مع هذا الكتاب الجماعي، أسترجع الرغبة في الحديث معك ثانية. لصيانة الاتصال ولمواصلة الاعتقاد في وجود معنى للكلمات. لكن ليست لدي توصيات أقدمها لك، ليست لدي معتقدات أمنحك إياها، ولا أمل أهديه لك. أرغب، ببساطة، عبر هذا النص، اقتسام عشق الكلمات معك مرة أخرى. المهم هو أن أكتب لك. الكتابة لك مجددا ودائما، وسط صخب وجودي. أن أحكي لك هذا الألم في البطن الذي يرافق كل كتابة. القلق الذي يخلف آثارا في أعماق الروح. وبعدها أحكي لك الانتظار. ثم التردد. ثم البداية الأزلية من جديد أو التراجع. وذلك الكابوس الذي سكنني طوال شهور، قبل اتخاذي قرار الرحيل أنا أيضا، بعيدا عن مكان صار الأمل فيه يبدو هزيلا مثل هلال قمر لحظة ولادته. كنت أسعى إلى التخلص من حصاة تسللت إلى حذائي الأيسر، عندما، وبدون حتى التفضل برن جرس باب نومي، اقتحم ثلاثة أشخاص ذوو رؤوس صلعاء حلمي، مكسرين الباب. كانوا جد ملفوفين ويضعون، جمعيهم، بدلات داكنة اللون وأقنعة غريبة. أخبروني بأن وجوههم الحقيقية توجد في الجيب الداخلي لستراتهم. صعقني أكبرهم سنا وأكثرهم أناقة بنظرة من قبيل تلك التي تتضمنها أفلام رعاة البقر الرديئة ، قائلا بادئ ذي بدء: «- أصحاب القرار عقدوا العزم على تعيينك وزيرا !» نططت كقطة تعرض ذيلها للبتر. يا له من تهور! صحت، مذهولا: «- لماذا أنا؟ لماذا اليوم؟ وزير ماذا؟ ومن يكون أصحاب القرار؟ - لا تطرح أبدا عدة أسئلة في نفس الوقت! أصحاب القرار، حفظهم الله، كلفونا بالمهمة الشريفة المتمثلة في توزيع بعض الأقنعة على شخصيات منتقاة بدقة. علينا الانتهاء من توزيعها كلها قبل نهاية السنة. لقد دفعتهم شهامتهم وكرم قلوبهم إلى التفكير فيك. - إنه لطف من قبلهم، لكن تصفيتكم لبضائعكم بأثمنة مخفضة أمر لا يهمني ! تلاحظون أنني منشغل! من الأولى أن تساعدوني على التخلص من هذه الحصاة اللعينة التي تسللت إلى حذائي وتؤلم أخمص قدمي الأيسر! - لا يهمنا أخمص قدمك الأيسر! نحدثك عن استوزارك وتحدثنا عن حصاتك؟ أنصت! عليك أن تعلم ألا خيار لك، يا صديقي. أصحاب القرار اتخذوا قرارهم بشأن مصيرك. كل رفض من طرفك « بمثابة تمرد، والتمرد عقوبته الإعدام» ! ستصبح وزيرا لأي شيء أو ستموت. أصحاب القرار يتركون لك حرية اختيار المنصب. هم، سيحتفظون بحق انتقاء القناع. إننا نعيش في كنف الديمقراطية ! - وبالمقابل، ما الذي علي التنازل عليه لفائدة أصحاب القرار؟ - لا شيء! لا شيء إطلاقا ! ستضع قناعا حديديا مثلنا جميعا، وتتوقف عن إرسال تلك الرسائل اللعينة إلى ذلك المغربي البالغ من العمر عشرين سنة، والذي لا تعرفه حتى. أتريد إشعال فتيل ثورة أم ماذا؟ لا تتخيل أنها ستندلع، فنحن نتحكم في البلد جيدا! - لو أتيح لي الاختيار، لفضلت قناعا من مادة اللاتكس أو من المقوى العجيني! - هذا الطراز من الأقنعة مخصص للنقابيين و الزعماء السياسيين لليسار لأنهم يغيرون وجوههم عدة مرات خلال الحياة. ساسة اليمين ليسوا بحاجة للأقنعة لأنهم يأتون إلى العالم بدون وجوه. قناع السلطة من الفولاذ، من النحاس أو الحديد المسقي، ومن يضعه، يحتفظ به طوال الحياة! - لا طلاق إذن؟ لا تطليق؟ لا فراق عن طريق التفاهم؟ - تطرح كثيرا من الأسئلة، يمكن لهذا أن يضيعك! أنت على بينة من وجود الكثيرين من المستعدين لدفع أموال طائلة مقابل امتياز وضع أحد هذه الأقنعة! وهناك آخرون على استعداد تام لإهداء مؤخرة أمهم ومهبل زوجتهم للانتماء إلى قبيلة حملة الأقنعة! - ولماذا لا تبيعونها لهم؟ سيضخ ذلك الأموال في صناديق الدولة! - الأشخاص الذين يستحقون وضع هذا الوسام من الندرة بمكان! - ولماذا يشبه وسامي؟ - فكر أصحاب القرار في أن يحتفظ قناعك ببعض علامات الفقر، وخاصة عدم الاغتناء الفاحش، صونا لنزاهتك الفكرية أمام زملائك في المهنة، وذلك في البداية على الأقل. لقد تخيلوه، بحكمتهم العارمة، رمادي اللون متربا، يحمل بعض بقع الصدأ حول العينين، حزينا بعض الشيء، نحيفا، لكن قابلا للزيادة في الوزن بفضل كل ما ستأكله معنا، شاحبا مؤقتا لأنه سيتلون بفعل الزمن والمال الذي سيتهاطل عليك مثل مطر منعش للقوى... - وماذا لو قلت لا؟ - نحن أناس متحضرون. لا نريد جرك إلى المحكمة بتهمة القذف أو المس بأمن الدولة الداخلي، قبل إرسالك كي تتعفن في أحد السجون وسط الجناة. مع جميع الشتائم التي نشرتها حول العديدين، فأكثر القضاة بؤسا سيعثر على دزينة من الحيثيات للحكم عليك بالسجن المؤبد. لكنك لا تمتلك سمو الأبطال ولا عظمة الشهداء. حادثة سير بين سيارة وشاحنة صهريجية أمر سبق له وقوعه. دفع ثمن ليترين من الخمر الحمراء لصالح عاطل، وإلصاق تهمة الجريمة بالأصوليين، أو إصدار الأوامر لرجالنا المكلفين بالأعمال الوضيعة قصد تصفيتك... لا ! طرق عملنا تفوق لياقة طرق الدول المتقدمة. أسلوبنا نحن هو الحوار والإقناع. - تعلمون جيدا أنه من المفروض علي، كي أحصل على منصب وزاري، النصب على 30.000 مرشح للهجرة على الأقل. أين سأعثرعلى 30.000 ضحية دفعة واحدة! ليس لدي أي تأثير سياسي في الساحة الوطنية، والذين أكتب من أجلهم لا يعرفون حتى القراءة... - أصحاب القرار سيتكلفون بحشدهم لك. ستحصل على 30.000 ضحية، بل وأكثر إن شئت. هذه ليست مشكلة. عشرون مليون مغربي، على أقل تقدير، لا يحلمون سوى بالهجرة إلى الخارج. جميع المواطنين مهاجرون بقوة الواقع. سيكلف الملف الطبي للهجرة إلى الولاياتالمتحدة ثلاثة أضعاف ملف الإمارات. وإذا لم يكف ذلك، فسنكلف وزير التربية الوطنية بتقرير تدريس كتبك ضمن برنامج المدارس الابتدائية، الإعداديات، الثانويات والجامعات. - لقد أغفلتم روض الأطفال؟ - هذا صحيح. ستدمج مؤلفاتك في برنامج روض الأطفال كذلك. فعلا، أنت نشرت حكاية للأطفال ! ولذا، فليس ثمة أدنى مشكلة! - والكتاتيب القرآنية؟ - كفى! لا تبالغ! - عرضكم ليس كافيا! أنتم موافقون على أن قناعكم وزر جسيم! ثم إنني سأضعه مدى الحياة. - من أجل إرضائك، ستطلب الدولة ملايين النسخ من كتبك لتوزيعها على الوزارات. أما الكمية المتبقية منها، فسنكدسها في أقبية وزارة الشؤون الثقافية، حيث ستتعفن بعيدا عن الأنظار. سنفرض على ناشريك رفع مستحقاتك من حقوق التأليف، وإلا دفعناهم إلى الإفلاس. أصحاب القرار يجيدون مكافأة رجالهم حسب قيمتهم الفعلية... تلاحظ ما ستجنيه في حالة انضمامك إلى صفنا! - أخبروني! لقد أكدتم بأن الجميع يريد مغادرة البلاد. أتعلمون لماذا؟ - تطرح كثيرا من الأسئلة وهذا خطير: إنه أشنع العيوب. سنحيطك علما بالجواب لأننا نعتقدك منحازا، منذ الآن، لأهدافنا. هي قصة تعود إلى زمن بعيد. بعد الاستقلال، أخطأ الفلاحون العاملون في مجال حرث الأراضي في اختيار البذور. لقد زرعوا اليأس بدل القمح! - وأنتم؟ من يمنعكم من بذر الأمل والحلم؟ - لا تطرح سؤالين اثنين في نفس الوقت! إننا نواصل منجزات أسلافنا الأمجاد وفاء للماضي. بسبب بعض الكسل. نظرا لقلة التجربة وخوفا من التغيير كذلك. نظرا للجهل، للاستسهال أيضا ولفقر المخيلة. نحن نشبه حقول كتامة التي ،، لم تعد قادرة على إنتاج مزروعات أخرى غير الكيف بفعل تعودها على زراعته! وبما أن الأمور تسير جيدا هكذا، فلماذا نعكر صفو مزاجنا ونشرع في إعمال تحولات، الله وحده يعلم في أي اتجاه ستسير... - وماذا لو رفضت؟ ماذا سيحصل في حالة عدم تضمن هيكلتكم للمنصب الذي سأرضى به؟ - لا تطرح أبدا سؤالين اثنين دفعة واحدة! كل المناصب موجودة. عرضنا يفسح أمامك مجالا واسعا للاختيار. الصحة! الدبلوماسية إذا رغبت فيها، بل وحتى المالية! ولماذا لا التعليم العالي أو الثقافة؟ إنهما اختصاصك في نهاية المطاف. لقد تتبعت كيف خلقنا وزارة لحقوق الإنسان، بينما تقع حقوق الإنسان في ذيل قائمة انشغالاتنا. وحديثا، خلقنا وزارة خديعة مكلفة بتحديث المقاولات، لمجرد عدم تنكيد أحد أصدقائنا. - بما أنه ليس لدي خيار آخر غير الموافقة، فامنحوني الوزارة الأولى ! هي أو لا شيء. أعرف أن طموحا أكبر من هذا يعتبر هرطقة! أتوفر على ثلاث شهادات دكتوراه وحوالي عشرين كتابا منشورا. ألا أستحقها إذن؟ - هذا ليس ممكنا. إنه من اختصاص سِيدنا! - وتعتقدون أنه لن يقبل؟ - ما يمكنه أن يفكر فيه ليس شأنك! لا نتوفر على سلطة إثارة هذه النقطة معك! جد اقتراحا مختلفا، وبسرعة! أنت تضيع وقتنا النفيس! - وزير أول. ألا تعتقدون أنني استحق مكان ذلك الأبله الذي يشغل هذا المنصب؟ - لنقل وزيرا أول بالنيابة. ستجلس خلف مبتكر النجاة مباشرة، أو على يساره! - أنتم تحتقرون ذكائي! - عجبا! سنطلب إنجاز كنبة تتسع لشخصين لفائدتكما! ستجلس على يمينه، وهو على يسارك! - لم يبق هناك يمين، ولا يسار. لم تبق هناك سوى كلاب وجرذان! - إنك تبالغ كعادتك! هناك الله أيضا! - ليس لله دخل في شأننا! أتحسبونني مغفلا؟ لا أستطيع، على كل حال، الظهور عموميا برفقة النصابين والمخادعين، الذين لا دين ولا شرف لهم. بما أنكم تصرون، فلماذا عدم خلق وزارة لأحياء الصفيح، البطالة، الجهل والفقر، لفائدتي. هكذا، سأمكث قرب أهلي ولن يجد الصحفيون عيبا في هذا التعيين. - نحن موافقون على وزير للسكنى، التعليم والشؤون الاجتماعية! حينما ستنخرط معنا، فكل صحفي سيجرؤ على المس بمصداقيتك، سيحكم عليه من طرف قضاتنا في الساعة الموالية، بتهمة القذف ومبالغ مالية مفرطة كتعويضات عن الضرر. سنغلق كل الأبواب في وجهه وسيلازمه الروع. سينتهي به المطاف إما بالانتحار أو بالجنون. أنت كاتب، ولقد رأيت نجاحنا الخارق بخصوص صون كرامة مصور الشمال البسيط ! - أريد إذن بناية تقع بين وزارة السياحة وقطاع حقوق الإنسان، مع لوحة مكتوب عليها بحروف بارزة من الوحل الأحمر اللون والزنك: « وزارة أحياء الصفيح، البطالة، الجهل والخصاص الاجتماعي». أريد أن يبرز اسمي واسم والدتي على اللوحة بحروف مذهبة! سأنشرح لو أدمجت صورتها وصورتي داخل شعار منير من النيون، مثبت فوق البوابة الرئيسية. لقد وعدتها بإشراكها في نجاحي... أطالب أيضا بنقل رفاتها إلى مقبرة الشهداء وإعلان يوم عطلة للترحم على روحها. دون إغفال إقامة حفل ديني في مجموع مساجد المملكة. الموضوع يتعلق بذاكرة والدتي! فبفضلها تقترحون علي اليوم وضع أحد أقنعتكم! - كلا ! سترعب السواح! أصحاب القرار لن يقبلوا بؤسوية وشعبوية مطلبك. كما أنك تطالب بتراكم مفرط للمهام. سيقوم الآخرون برد الفعل للحصول على نفس الوضع. هذا ليس ممكنا! سننظر لاحقا فيما يمكننا فعله بالنسبة لذاكرة والدتك. اتخذ قرارك بسرعة! - لا يمكنني التواضع أكثر مما فعلت! وبغية عدم إرباككم، أطلب منكم تعييني وزيرا للتلفزيون. هكذا، سيتمكن أقاربي من مشاهدتي مساء كل يوم على الشاشة، منشدا قصائدي الوطنية إحياء لذاكرة أمي... - تعني رئيسا- مديرا عاما للتلفزيون؟ - لا ! وزيرا للتلفزيون. أظن أنني أتكلم لغتكم! - أفصح عن طموحك لنيل منصب الرجل الآخر على رأس وزارة الاتصال. - أبدا! ليس ذلك الشيوعي الذي يراكم المناصب ويحصل على راتب مرتفع منذ عشرات السنين كمدير لمعهد افتراضي، بينما الجماهير تتضور من الجوع! - أفصح لنا عن رغبتك واترك الآخرين وشأنهم! الإرادة الملكية غير قابلة للنقاش! - أريد تلفزيوني فحسب، لأظهر على شاشته كل مساء، أمام ثلاثين مليون مزعج، وإشباع كبريائي المتضخمة. منذ الطفولة وأنا أحلم بهذا. وبما أنه علي الموافقة، فإنني أريد الاستفادة من عدة مناصب متراكمة في ذات الآن، على غرار ما يفعله الآخرون. عينوني وزيرا أول- رئيسا- مديرا عاما مدى الحياة للتلفزة المغربية. لا أطلب هذا من أجلي، بل من أجل ذاتي بمعناها الفلسفي! تقرون بأنفسكم أن قيمتي أكبر من قيمة أولئك الماكرين الذين تعودوا أن يتم نقلهم على متن سيارات مرسيدس السوداء التابعة للدولة من طرف سائقين فقراء ومبهورين . أريد أجرة مقابل كل منصب، ونياشين مقابل رتبتي كجنرال. من المفيد دائما حمل النياشين في هذا البلد! قولوا لأصحاب القرار ألا ينسوا التحفيزات المالية والعينية. ضيعة صغيرة هنا، مقلع رمال هناك، رخصة صيد أو رخصة حافلة نقل من طنجة إلى العيون لكل فرد من أفراد عائلتي. أجل، فأنا سأضع قناعكم، وهي مسألة ليست بالبسيطة... هل اتفقنا، أيها السادة؟ - إننا متفقون!» كدت أفتح فمي لقول كلام بليد من قبيل:»لدي كرامتي!» أو «لا أستطيع الإقدام على هذا!» أو «لدي قيم أحافظ عليها ومبادئ أدافع عنها!» ... لم أكن بعد قد اخترت أفضل جملة لصعقهم، حين وضع أحد الأشخاص الثلاثة ذوو الرأس الأصلع قناعا على وجهي. ألبسني الثاني جلبابا أبيض وبلغة صفراء، قبل أن يدفعني الثالث، دون مراعاة، داخل قاعة تعج بالناس، حيث ستنظم مراسيم تسليم المهام التي سألقي إثرها خطاب انطلاق ولايتي كوزير أول-رئيس- مدير عام مدى الحياة للتلفزة المغربية. ومضات كاميرات التلفزيون وآلات التصوير تصيبني بالعمى. أتقدم، مثل مصاب بالسرنمة، تحت أضواء كشافات النور، متعثرا عند كل خطوة أخطوها. هناك صفان من الكراسي في هذه القاعة الفسيحة. النساء في جهة والرجال في الجهة الأخرى، يفصلهم عن بعضهم البعض حاجز من الأسلاك الشائكة وزجاج القنينات المكسورة. جميعهم يضعون أقنعة. أقنعة الخيبة للنساء و أقنعة الارتياب للرجال. سحبت ورقة اللعب الأخيرة من الجيب الداخلي، يسار سترتي، آس من مجموعة السباتي، ولوحت بها أمام الكاميرات قبل الشروع في إلقاء خطابي. «- سيداتي، سادتي الصحفيين المرؤوسين من طرفي! أنا وزيركم الأول- رئيسكم- مديركم العام الجديد المكلف، من قبل أصحاب القرار، بإصلاح التلفزة المغربية. ها هو مخططي وبرنامجي.» لحظتها، عرضت على أنظارهم ورقة الآس من مجموعة السباتي. أضفت موظفا نبرة صوتي الأكثر مهابة. «- أولى وريقات السباتي تلخص مقاربتي المهنية. أجل، لست من أبناء المهنة، ولست في حاجة إلى أن أكونه...» لم يكن علي النطق بهذه الجملة. لقد أنفلتت مني. إنه خطأ ذاتي بالمعنى الفلسفي للكلمة، للأسف. لست خطيبا محنكا ولا أجيد لغة الخشب. «مديرية مراقبة التراب الوطني» تعرف كل هذا وقد سجلته في البطاقة الخاصة بي. أضف إلى ذلك أن أصحاب القرار لم يتركوا لي الوقت الكافي لإعداد خطابي. إنهم متعودون على الارتجال. واصلت الكلام. «- عهد جديد يشرع أبوابه أمامكم، وبالنسبة للتلفزة المغربية. من الآن فصاعدا، ستفسح لغة الخشب المجال للحقيقة، للشجاعة السياسية للأفكار، للخيال المبدع، للابتكار، مع احترام «الخطوط الحمراء» المحددة من قبل المسؤولين السابقين. يجب أن تتحول هذه القناة إلى أفضل قناة في المغرب العربي، في شمال إفريقيا وفي العالم العربي. ولولا تخوفي من التعرض للاتهام بالسرقة الأدبية، لكنت جعلت الجملة التالية شعارا لي: «أفضل تلفزيونات العالم العربي في أجمل بلد بالعالم!». وبفضل مؤهلاتي ومهنيتكم، لن يظل المشاهد المغربي مجبرا على تغيير القنوات طوال الليل بحثا على برامج جيدة. ستعرفون ، بفضل الله، كيفية تربيته، شد اهتمامه، إخباره والترفيه عنه. هذا التلفزيون ملك لكم والفضل سيعود إليكم في تحويله إلى فضاء للمصالحة مع الجماهير الشعبية، وليس آلة جوفاء للدعاية وبث ما هو متقادم في محيط سمعي-بصري يتراجع يوما بعد يوم. لقد ولى زمن وضع مهاراتكم في خدمة دول الخليج . هذا التلفزيون مِلك لكم. بواسطته، ستقومون بتحسيس الشعب بحب تلفزته وبلاده. لقد تلقيتم التكوين الملائم في هذا الصدد وأنتم الأفضل! سنجعل من هذه التلفزة «أجمل تلفزة في العالم»! وأؤكد لكم أننا نتوفر، منذ الآن، على مسلسل شهر رمضان المقبل:»بابا عباس والثلاثون ألف ضحية للنجاة». وسيبدو الأربعون لصا لعلي بابا، مقارنة مع لصوصنا، مثل صبيان جوقات الأطفال في الكنائس. ثقوا بي، سنحقق نجاحا باهرا!» تدفقت الكلمات من بين شفتي كرصاصات مفرغة من بارودها. من سيثق بصحة هذه الوعود الجسورة البعيدة عن الواقع السائد؟ إنني أعاني نقصا في التمرين على التواصل. كان الآخرون متفوقين علي في مجال الكذب والمراوغة. توقفت عن الكلام للتأمل، لفسح المجال لتصفيقات الحاضرين على تصريحاتي المدوية. لا رد فعل ينبعث من القاعة. إنتظرت طويلا شروع الحاضرين في التصفيق. ربما كانوا مرتابين مني لأنني لم أعبر بعد عن آيات الولاء لأصحاب القرار، تقديرا لما يبذلونه من مجهودات جليلة ليصبح المغرب أجمل بلد في العالم، وشعبه أسعد شعب على وجه البسيطة. تفترض العادة أن ينطلق خطاب كل الشخصيات المهمة من هذه النقطة، وأن يقاطعه الحضور بالهتاف الحماسي وبمظاهر الفرح والرضا. وأنا شخصية مهمة منذ قرر أصحاب القرار تعييني وزيرا أول – رئيسا- مديرا عاما للتلفزة المغربية، وإلصاق قناع رجال السلطة على وجهي. مرت خمسة عشر دقيقة، ولاشيء حصل. الصحفيون أناس مرتابون بدون شك، لكنهم متحضرون. لذا، فهم ينتظرون، ربما، نهاية الخطاب قبل الهتاف بدون انقطاع تحية لي، بشكل يناسب قيمتي الحقيقية. واصلت خطابي وسط صمت مثير للشفقة. «- وريقة السباتي الثانية، قلت، تمثل الالتزام الرسمي للوزير الأول- الرئيس- المدير العام، الذي هو أنا، برد الاعتبار لكرامتكم المهنية داخل القناة، وتحسين أوضاعكم المادية. لكنني سأكون صارما إزاء منعدمي الكفاءة، كراكيز الأخبار، الوشاة والكسالى. لا تهميش للكفاءات بعد اليوم. وحدهما الاستحقاق والمردودية سيؤخذان بعين الاعتبار. ، لن نستعمل، إنطلاقا من الآن، الدولاب لغير ترتيب الأرشيف وإيداع الأشرطة القديمة. ستتحول التلفزة إلى أسرة كبيرة، يقدم كل واحد في رحابها أجود ما لديه. تتوفرون جميعا على كرسيين اثنين على الأقل في مكاتبكم: الأول من أجل استعمالكم الشخصي، فاحجزوا لي الثاني!» توقفت قليلا عن الكلام لاستعادة أنفاسي وابتلاع لعابي. القاعة لا تصدر أي رد فعل. كنت أعتقد أنني أدهشت هؤلاء الشباب بأقوالي. كلا، لم يتفاعلوا لا مع وعودي حول رد الاعتبار للكرامة، ولا مع قسمي بتحسين أوضاعهم المادية. أتفهم موقفهم. لا أحد، من بين الرؤساء الذين سبقوني في هذا المنصب، وفي بتاتا بالتزاماته. لكنني لست مثل الآخرين. أنا كاتب، مثقف، ولست تاجر زرابي! كيف أقنعهم بحسن نيتي؟ يقول المثل: «القط المسلوق يخشى الماء البارد!» أما أهلنا، فيقولون: «اللي عضو الحنش، يخاف من الحبل!» تابعت خطابي بحماس أدنى. «- وريقة السباتي الثالثة موجودة داخل حقيبة وثائقي.» فتحت الحقيبة وسحبت منها منها رسالة. «- ...هذه استقالتي، أعلنت. كررت كلمة اس- ت - قا - لة، فاصلا بشكل جيد بين المقاطع اللفظية. في حالة التعرض للضغط من طرف أي أحد، فسأغادر على التو. إستقالتي جاهزة، رقتنها ووقعتها. لن أحتاج سوى لإضافة التاريخ في الوقت المناسب. لست نهما. أريد فقط أن أبرهن لهم على أنكم محترفون في مجال التلفزيون، قادرون على مواجهة تحديات مهنتكم نوعيا. ذاك، سيداتي، سادتي، هو برنامجي « آس من مجموعة السباتي»، قلت للختم. أشكركم على حسن انتباهكم وتحميسكم لي. إذا كانت لديكم أسئلة، فأنا مستعد للرد عليها بسرور...» كنت راضيا على إنجازي. لم يكن سيئا، خاصة أنه أول خطاب أرتجله في حضرة صحفيين نبهاء يعملون في الحقل السمعي- البصري. لا أحد منهم توقع، بكل تأكيد، برنامجي « آس من مجموعة السباتي». لو كانت أمي حية ترزق، لشعرت بالفخر جراء نبوغي ولبللت عدة مناديل. إبان طفولتي، تنبأت لها عرافة ورق بمستقبل زاخر لي.» أرى ابنك، آ لالة، أسرت لأمي، جالسا على طاولة للمخزن. منصب سام تبارك الله!» لم تخطئ النبوءة، ووالدتي كانت ستذكرني، بدون شك، بهذا الفصل من الماضي، موضحة لي، بلا مواربة، أنني مدين لتبريكها وحده بالنجاح. بمناسبة إنجاز لا يرقى إلى مستوى إنجازي، كانت القاعة ستنفجر، بالمعنى الحرفي للكلمة، بفعل الهتاف بحياة الخطيب. لكن العاملين تحت إمرتي لم يصدروا أي رد فعل. بل، لا أحد من بينهم قام حتى بمجرد التظاهر بتشجيعي . لا مظاهر رضا. لا نظرة تعاطف. ابتلعت ريقي للتغاضي عن هزيمتي وانتظرت عشرة دقائق. خمس عشرة دقيقة. ثلاثون. لا شيء. الزمن الذي يمر أضفى إحراجا أكبر على الصمت المطبق. الذباب يتطاير فوق كؤوس الشاي البارد، صدى أجنحته على الجوانب الداخلية للكؤوس يزعجني. إختفى الأشخاص الثلاثة ذوو الرأس الأصلع فجأة. أنا الآن مستسلم لنفسي. وحيد في مواجهة حزني وعزلتي. لم ينزع أحد قناعي. لم يصفق أحد. ربما تناسيت واقع البلاد وواقع العباد. انطفأت الأضواء وغرقت القاعة بغثة في الظلام. وضعت استقالتي فوق الطاولة وغادرت المكان، وسط عدم اكتراث مذل. في الشارع، صفعت ريح جليدية عيني. لم أحس شيئا على مستوى الوجنتين. وضعت يدي على وجهي، فإذا بأصابعي تصطدم بالمعدن البارد الذي صنع منه قناعي. حاولت انتزاعه، لكن محاولتي باءت بالفشل. كان ملتحما بجلدي، ووجهي لم يعد ملكية لي. أصبحت طبقة من الزنك تغطيه، فقد الإحساس، صار عاجزا عن التعبير. لقد فات أوان التراجع. شعرت بأنني ذليل، تافه، ساقط، جبان، محطم على مستوى العمود الفقري. أنا الآن مكون من مكونات عالم أصحاب القرار، محكوم علي بوضع وجه لم يكن هو وجهي في السابق، وجه مسقي بالفولاذ، ممعدن، «مقزدر» إلى الأبد. تقلبت وتقلبت في السرير، سقطت من فوقه واستيقظت وأنا أنضح عرقا، دماغي يطن بالأفكار الضبابية والكلام المر. الحرارة تكوي جسدي، وأعضائي تخترقها رعشة قلقة. أوقدت مصباح السرير وألقيت نظرة على الساعة. الثالثة صباحا. شربت كأس ماء مع حبتي أسبيرين قبل العودة للنوم. شكرا يا إلهي، إنه مجرد كابوس! وأنا أنتعل حذائي الجديد صباح الغد، احتك أخمص قدمي الأيسر بشذرة حصاة تسللت إلى حذائي.