ومهما يكن من أمر، قد تحقق المسألة الأمازيغية مكسبا ما، لكن حدوده محصورة في الزمان والمكان، وفي ظل ما أسماه «الممكن المستطاع» فقط، أي بتوحيد اللهجات، وتنميطها في إطار «لغة مكتملة الصفات والوظائف، على توسيع نطاق استعمالها في الفنون الشفوية من مسرح وسينما وأغنية وفكاهة، على اعتمادها وسيلة للتعبير الأدبي، سيما بعد اختيار حرف خاص بها، عن طريق الترجمة والإبداع، بل قد ينتشر استعمالها، بشكل أو بآخر، في الإدارة وتحت قبة البرلمان. قد نسمع يوما مسؤولا يخطب بالعربية مع ترجمة فورية إلى الأمازيغية أو العكس».( الديوان، ص 54.) ذلك قمة ما يمكن أن تبلغه اللغة الأمازيغية في أحسن الأحوال، بصرف النظر عن التكلفة الاقتصادية العالية، والتمايز على مستوى النخب، وما يمكن أن يترتب عن ذلك، وبالتالي فوضعيتها هشة، وأهلها لم يفطموا بعد، أي ما يزالوا في حضن أمهاتهم، يتوخوا إرضاءها. ولذلك فأفقها محدود، ومجال فعاليتها محصور، ولذلك فهي غير قادرة على أداء كل وظائف اللغة الحية المحتملة، واستيعاب متطلبات العصر، وفهم المصلحة العامة، والمنفعة الآنية العينية، وتغليب منطق العقل على قيمة الغريزة المميزة للسياسة. ويبدو أن المشكل الحاصل عند العروي، بالنسبة للغة الأمازيغية وثقافتها، هو مشكل الحرف وتبعاته، في ظل تعدد الأحرف في السوق اللغوي المغربي (العربي واللاتيني، إضافة إلى حرف تيفيناغ). وهو ما أسر به لمحاوره الصحفي الأمازيغي الشاب المعلوم: «قلت لمحاوري: لا بد من الاعتراف أن إتقان أنواع ثلاثة من الحروف مهمة شاقة» ( الديوان، ص48). ولمزيد من البرهنة على هذه المهمة الصعبة، أورد الباحث تجربته الشخصية، وهو طالب في الجامعة، لما اضطر لحفظ الأبجدية اليونانية، لدواع علمية، ولم يفلح في ذلك، وأحرى أن يفلح غيره ممن اختاروا حرف تيفيناغ لرسم الأمازيغية، ودافعوا عنه، بوعي أو من دونه. وهو ما يندرج ضمن الحجاج بالتجربة الذاتية، ما دام صاحبها حجة في ذاته. ف»ليس سهلا إذن أن يتعود المرء على حرفين مختلفين» ص47، كما يقول العروي، وبالأحرى أن يضيف حرفا جديدا، «لا تراث له»، بلغة الأستاذ حميش، هو ثقل إضافي، وعائق زائد من عوائق التحديث في المغرب. ولذلك كان من الأجدى اختيار الحرف اللاتيني لرسم الأمازيغية، بناء على «منطق اليسر». وتجربة كثير من البلدان خير شاهد على نجاح تبني هذا الحرف «الدولي»، الذي «انتشر، في صورة أو في أخرى، في جل العالم «،( ص 47 ) كما هو الشأن عند الفيتناميين والأتراك، والإندونسيين والماليزيين، ممن تخلوا عن حروفهم الأصلية، وتداركوا من التأخر التاريخي ما لم يتداركه المغرب، ولا بلد من بلدان المشرق العربي. فالرهان استراتيجي، وبالتالي منفعي ومصلحي بالأساس. وهو ما لم يتنبه إليه حتى دعاة اللغة العربية ممن نعتهم ب «عبدة اللغة» لما رفضوا اعتماد الحرف اللاتيني في رسم العربية، أو على الأقل تعديل الحرف العربي وتطويره. ف»سنيو اللغة العربية» بالمرصاد لكل تغيير أو تحديث تكون محصلته «التفريط في تراث عظيم»، كتراث اللغة العربية العريق والمديد حقا، وانفصال عن مجموعة بشرية تعد سندا وحمى»، بلغة العروي( الديوان، ص:48). ومع كل ذلك لم تندثر اللغة العربية بالفعل، بل اتسع مجالها قي آسيا الوسطى والشرقية وفي إفريقيا الساحلية»، «غير أنها انفصلت عن الخطاب اليومي» ( السنة والإصلاح، ص:191)، من ناحية، ومن ناحية أخرى «انحصر نطاق استعمالها واستعمال الحرف العربي»(نفسه، ص50)، وحال الأمازيغية ومآلها لن يختلف عن حال ومآل العربية، لأنها بدورها لم توفق في اختيار حرفها، للانتقال من ثقافة وسيطية إلى ثقافة حديثة»، (ص 55 ). ويسترسل العروي، مضيفا:» لو كان منطق اليسر، منطق الاقتصاد هو المتحكم لدينا لفعلنا ما فعل غيرنا، ولكتبنا لغتنا، مهما تكن، بالحرف اللاتيني الذي انتشر في صورة أو في أخرى في جل العالم.»(ص:47). ويبقى الأستاذ العروي منسجما مع أطروحته التاريخانية الماركسية، المنبثقة عن تموجات الواقع الاجتماعي، والقائمة على اعتبار المنفعة والمصلحة باعتبارهما محركا التاريخ، ومن ثمة فحق اللغة الأمازيغية في الوجود والتواجد مسألة غير ذات معنى، ولا تبرر الاعتراف لمجرد الاعتراف. فالذي يحرك المجتمع ويصنع التاريخ، «ليس الحق بقدر ما هو المنفعة»(السنة والإصلاح، ص:6)، ولا منفعة ترجى من اللغة الأمازيغية مرسومة بحرف تيفيناغ. غير أن مراعاة البعد البيداغوجي، ومنطق اليسر، وحتى منطق الدستور، بالنسبة للعروي، لا يحل مشكل اللغة الأمازيغية وآفاقها المستقبلية. فالمسألة أيضا تخضع لمنطق الاقتصاد، وما يرتبط به من كلفة وربح وخسارة وثمن وتبادل وسوق وبضاعة، و»الموازنة المستمرة بين المصروفات والعوائد» (العروي: ثقافتنا في ضوء التاريخ،255)، وما إلى ذلك من مفاهيم تنتمي إلى مجال الاقتصاد الذي نشأ في نطاق التاريخ ( مفهوم التاريخ، ص:138) فالعلاقة من هذه الجهة، لزومية بين اللغة والاقتصاد، وهو ما يؤكد عليه الأستاذ عبد الفاسي الفهري في قوله:»إن تطبيق التفكير الاقتصادي على المسائل اللغوية يدخل في اقتصاد اللغة. ويضم هذا الأخير متغيرات اقتصادية تقليدية مثل الأجور وكمية المنتجات المتبادلة في الأسواق، والناتج الداخلي الخام، والكلفة، والربح وكذلك العلاقة بين تحديد الدخل والمؤهلات اللغوية، وفوارق التأجير بين الأفراد في المجموعات اللغوية المتمايزة»( عبد القادر الفاسي الفهري:»اللغة والبيئة»، ص ص:70-71.) فالكلفة الاقتصادية حاضرة بقوة في تصور العروي في مقاربة الوضع اللغوي، وفي هذا المقام يقول: «حق وصواب حضانة وتطوير الأمازيغية؟ ما الثمن؟»، (ص61، ) غير أن منطق المنفعة والمصلحة، ومقتضيات التعقل والترشيد، وفي ظل «عولمة الاقتصاد»، يقتضي تقدير الكلفة الاقتصادية، التقدير الواجب والسليم، واستحضارها في أي معالجة للمسألة الأمازيغية، وتبعاتها. فنحن، كما يضيف الأستاذ عبد القادر الفاسي الفهري، «لا «نأكل» بالعربية، ولا نملأ بها شيكنا البنكي، ولا نتسلم بها الوصل البريدي ولا نعبئ بها بطاقة الأمن، إلخ، والتجارة والتعليم والبحث العلمي والتقني والمصالح الاقتصادية والإدارية لا نتكلم عادة بالعربية»( نفسه، 72). وربما لبعض هذه الأسباب، ظلت اللغة العربية عند أغلبية الاقتصاديين المغاربة على هامش المعاملات الاقتصادية والتسيير الإداري، رغم أنها لغة وطنية ورسمية، وبمقتضى الدستور، وبالتالي على هامش الاقتصاد، شأنها في ذلك شأن عملة الدرهم. هذا عن حال اللغة العربية، فماذا عن حال اللغة الأمازيغية، وبالنظر إلى ما عرفته، عبر قرون طويلة، من إقصاء وتهميش، وعلى مختلف المستويات؟. فاللغة كالعملة، كما يدعي العروي، «بعضها محدود وبعضها واسع الرواج من يتكلم الأمازيغية فقط كمن يملك نقود سوس. من يتكلم العربية المغربية كمن يملك دراهم حسنية. من يتكلم الفرنسية أو الإسبانية كمن يملك الفرنك والبسيطة (قبل وجود اليورو). ومن يتكلم الإنجليزية كمن يملك الدولار»، (ص:58.). والحديث عن العملة حديث قديم عند العروي، إذ تطرق إليه في كتابه «الأصول الاجتماعية والثقافية للحركة الوطنية»( العروي: الأصول الاجتماعية، ص45)، تطرق المؤرخ، ونقل قيمة تداولها وحدودها إلى اللغات. واللغة الأمازيغية هي أكثر هذه «اللغات» محدودية في الحدود والرواج والانتشار، وفي الأفق أيضا. وعلى هذا الأساس فهي شبيهة بنقود سوس لا تتجاوز هذه الدائرة الضيقة والمحدودة، ولا تتعداها، وفي زمن انقضى، وبالتالي فقد صارت ذكرى للتاريخ. بهذا المعنى فاللغة الأمازيغية، وبناء على هذا المنطق، عملة لا تختلف في شيء عن عملة أهل الكهف، لما استفاقوا، بعد نوم طويل، استفاقوا، مندهشين، على عملة/ لغة لم تعد تتداول البتة، أو في أحسن الأحوال في حدود ضيقة جدا. وعليه، تنتمي إلى «زمن راكد»، و»وجود عاطل» وبالتالي فأية محاولة لإعادة الحياة لهذه اللغة، بالمطالبة بتدريسها في التعليم الابتدائي، كما سبق، وبحرف تيفناغ، أو القول بدسترتها، قد يكون مضيعة للوقت والجهد والكلفة. وهذا الوضع اللغوي في المغرب الراهن، كما يرى العروي، ليس استثناء، حتى نساير دعاة الأمازيغية في مطالبهم «المتسرعة»، بل هو القاعدة في السياق التاريخي، ولذلك سارع إلى حشد الأمثلة والشواهد، كمجموعة حجج، إذ «لا تكاد تجد دولة كبيرة معاصرة إلا وفيها لغة رسمية متساكنة مع لغات أو لهجات أصلية، محكية في البيت، مقصية من المدرسة ومن البرلمان. أقرب الحالات إلينا جغرافيا هو حال الباسك والقطلان في اسبانبا (قبل الإصلاحات الأخيرة) البروطونية والبروفنصال في فرنسا، الغالية والاسكودلنية في إنجلترا، إلخ». وذلك حال اللغة الأمازيغية بالتأكيد، فاللغة العربية لغة رسمية للبلد، وهي متساكنة ومتفاعلة مع اللغة أمازيغية، بلهجاتها، محكية في البيت والشارع، ولكن مقصية في باقي الفضاءات الرسمية الأخرى. وهو واقع ينبغي الاعتراف به، والتسليم به، لكن ليس للإبقاء عليه، والإقرار به وتكريسه، كما يريد العروي، ويبرر له؛ ولكن لإعادة ترتيب العلاقة بين لغتين متجذرتين في راهن المغرب وماضيه، ليس بالضرورة على الطريقة الفرنسية أو الإسبانية أو الإنجليزية، ولكن على الطريقة المغربية وتاريخه وخصوصياته، وآفاقه المفتوحة، وليس بالضرورة على قاعدة «المنطق الاقتصاداوي»، أو المصلحوي، الذي يخفي «الاحتقان الصامت»، الذي قد يهدد الأمن اللغوي، ومن ثمة السلم السياسي في البلاد. غير أن هذا المنطق لا يتوافق ومنطق التاريخاني الماركسي المتشبع بقيم المنفعة والمصلحة والإنتاجية. فالحق في ذاته غير كاف لتبرير الوجود، والتساوي فيه، إذ إن التعدد اللغوي في المغرب لا يبرر الاعتراف المتساوي بين اللغات بالنظر إلى الأفق أساسا، ناهيك عن الكلفة واليسر وغيرها. فعادة ما نتمسك، كما يقول العروي، ب»مقولة تساوي القيم الحضارية دون التفات إلى مجالات لا ينفع غيها نفي التفاوت كالاقتصاد وعلوم المادة والتقنيات»، (ص:60)، وهو ما ليس في مقدور اللغة الأمازيغية، بحجة الواقع والأفق. فهي مجرد إحياء لماض انتهت شروط إنتاجه وجدواه، وبالتالي فهي غير قادرة على التنافس في إطار عولمة الاقتصاد، والرهان عليها رهان «الدول الفاشلة» (ص:149). غير أن ما لا يدخل في دائرة تفكير العروي ونظريته التاريخانية، كون المسألة الأمازيغية، في الأصل، مسألة سياسية ووجدانية ووجودية، بكل تأكيد، ومن ثمة فمن آلياتها، «الاعتقاد»، ومداره العاطفة والوجدان، كما تكلم عنه الأستاذ شغموم، ولذلك هناك تلازم وترابط بين ما هو سياسي وبين ما هو عاطفي ووجداني، واللغة جزء لا يتجزأ منهما. فالمجال مجال صراع الرموز والوجود، وغالبا لا يحتاج الأمازيغي تبرير بواعث تعلقه بلغته وثقافتها، ودفاعه عنهما، مهما كانت التكلفة اقتصادية أو غير اقتصادية. وهذا ما تنبه إليه أحد خبراء اللغات، الأستاذ مبارك حنون، وهو ينتقد مثل تلك النزعة الاقتصاداوية التي تحكم أطروحة العروي، وتوجه تحليلات، قائلا:»وأعتقد أنه من الخطأ تبني النزعة الاقتصادية في أمور الثقافة واللغات، فلا تحق الدعوة إلى التقليل من النفقات أو ربح للوقت، فكم من تقشف كان استهتارا بالمصالح الحيوية، وكم من ربح للوقت كان مضيعة لما هو أهم من الوقت، وأقصد الكيان والهوية». (مبارك حنون، نفسه) وفي نفس الاتجاه، وتعميقا للمسار نفسه، يقول الأستاذ محمد الولي: «الأمازيغية عنصر هوياتي مغربي شأنه شأن عنصر العربية، والأمازيغية توفر مثل العربية، نافذة مفتوحة على العالم، وتعطي للحياة وللعالم طعماً ولوناً خاصاً لا يمكن تحققه بغيرها. انقراض الأمازيغية هو خسارة إنسانية لا يخص الأمازيغ إلا باعتبارهم جزءاً من هذه الإنسانية. وكذلك ضعف العربية هو أمر لا يخص العرب وحدهم، بل هو خسارة إنسانية والدفاع عن اللغة الأمازيغية، هو تأمين الحماية للتعددية اللغوية والثقافية والفكرية» (محمد الولي:» الأمازيغية وأسئلة الهوية والدسترة».). (6) والأخطر مما سبق فالأستاذ العروي، وفي سياق حديثه عن التكلفة الاقتصادية للغة الأمازيغية، يذهب إلى ما هو أعمق من التكلفة المالية إلى التكلفة الاجتماعية. فالحركة الأمازيغية، بنخبها وقياداتها واختياراتها، في تصور الباحث، من معرقلات، ما أسماه، ب»الانسجام الاجتماعي»، ومن مسببات التفرقة، وتجزئة جديدة للمجتمع ( الديوان ص59). فالدعوة إلى الأمازيغية، من هذه الناحية، دعوة «تفريقية، إذ تمد بعلم ورمز كل من يختار المخالفة والمغايرة»، ومن ناحية ثانية، إعطاء فرصة ذهبية للغة عصرية أجنبية لكي تكتسح المجال الثقافي المغربي»(الديوان، 54/55)، بالنظر إلى ما توفره اليوم للطفل المغربي من «ثقافة فولكلورية» في أحسن الأحوال، مما يفسح الباب مشرعا أمام تقاسم المجال الثقافي بين ثلاث لغات: أمازيغية وعربية وأجنبية. وذلك من تحصيل الحاصل، متى علمنا أن أطروحة الأستاذ العروي لا تركز على ما يعرف بالهوية الوطنية، أو الانصهار التاريخي، ولا يهتم ب»الميثاق الوجداني»، والوجدان الوطني، ولا المشاركة الوجدانية،» بعبارات الأستاذ شغموم. فدعوته التاريخانية لا تؤمن سوى بالمنفعة والمصلحة، ومنطق الربح والخسارة في بعدهما التجاري والاقتصادي المختزل. مع أن السياسية، في إحدى معانيها الشائعة والمتداولة، هي تدبير للممكن، بما فيه الممكن اللغوي. وحال المغرب، حال المتعدد اللغوي الذي لا يصح تدبيره من زاوية البعد الاقتصادي أو التقني البيداغوجي وحده، من منطلق أن «اللغة- أي لغة- هي بمثابة بيت الكائن البشري، فيما ينظم أمور معاشه ويخزن رموزه وثرواته. إنها تأويه وتحفظ أسراره ومنها يرى العالم ويدركه»( مبارك حنون، نفسه)، مهما كانت درجة تخلفها عن الركب الثقافي والحضاري، وقيمتها التداولية في سوق اللغات والحضارات، أو مهما بلغ قطر أفقها ومداه... لنتأمل في هذا السياق، قولة الأستاذ عبد الفتاح كيليطو، نوردها على طولها، من كتابه الشيق: «لن تتكلم لغتي»، لما يقول: «إننا ضيوف اللغة. نقيم عندها وننعم بالخيرات الجمة التي تغذقها علينا بسخاء. وطبعا نتحلى خلال مقامنا في رحابها، أي طيلة حياتنا، بالآداب التي يتعين على الضيف احترامها عندما يكون في فضاء المضيف لكن يخيل إلي أحيانا أن المتكلم هو المضيف وأن اللغة هي المضيفة، ضيفة مشاكسة عنيدة تنزل عنده بدون استئذان، فتتملكه، وتسكنه على رغمه. إننا مسكونون باللغة، بالمعنى السحري للكلمة، ويتأكد لذي هذا الارتسام عندما أشاهد أشخاصا يتحدثون بلغة أجنبية لا أفهمها، أصاب حينئذ بالدهشة والذهول، وأكاد أعتقد أنهم ضائعون في لغتهم، وغير قادرين على الإفلات منها، ولا أحد بإمكانه تخليصهم من قبضتها، ولا شفاء يرجى لهم.»( عبد الفتاح كيليطو:» لن تتكلم لغتي»، ص: 100.) قد لا يكون الأستاذ العروي، وهو يحاور الشاب الصحفي الأمازيغي، يدرك البعد الوجودي والوجداني للغة الأمازيغية، وهو لا يتكلمها، وبالتالي فهي غائبة عن سجله اللغوي والثقافي والمعرفي والوجودي، ولا يسكنها ولا تسكنه، ولا هو ضيفها أو هي مضيفته، ولا تأويه ولا يأويها، ولا ينعم بخيراتها، وهو لا يراها، على كل حال. فهي بالنسبة إليه مجرد مشكل إضافي، يعالجه بحياد تام، وبمسافة الغريب والسائح العابر. موجودة على أي حال، ولكن لا أفقها لها، وبالتالي لا مستقبل. إن الإنسان المغربي الناطق بالأمازيغية، تفاديا لأي تعميم مخل، مسكون باللغة الأمازيغية، وضيف عليها، ولا أحد قادر على يفلت منها، لحسابات، على وجاهة بعضها، تظل عابرة ومقدور عليها. وموقع العروي منها لا يسمح له بالقدر الكافي ليدرك حقا أن وطن الناطق بالأمازيغية، بصرف النظر عن النسبة المائوية، هو اللغة الأمازيغية أولا، واللغة العربية ثانيا، ومن هذا المنظور، يظهر أنه يتعذر تصور بلد المغرب دون اللغة الأمازيغية واللغة العربية، والتنصيص الدستوري عليها أمر لم يعد يحتمل التأجيل، بصرف النظر عن طرق تصريف ذلك، وحدوده، ومن ثمة شرعية الحديث، بلغة الأستاذ مبارك حنون، عن»المواطنة اللغوية»، قبل «المواطنة السياسية»، وعليه فالتركيز على التكلفة الاقتصادية، والحكامة في التدبير المالي، وترشيد الوقت مطلوبة في كل الحالات، وليس فقط في حال المسألة الأمازيغية، بما هي «ضحية لعوامل تاريخية وسياسية وحضارية كانت محصلة وضعها البئيس، بلغة العروي ذاته، وذلك هو الضمان الحقيقي للسلم اللغوي بالمغرب، وما يجب أن يترتب عنه من ضمانات أخرى./. (انتهى)