كل الأنظار كانت مركزة على الجزائر، بفكرة أن رياح الحرية الآتية من تونس ومصر ستهب على الشارع الجزائري وتجتاح المنازل وتدفع الجزائريين الى الزحف من أجل حرياتهم. لكن المسيرات لقيت نجاحاً محدوداً جداً، وكل المراقبين سارعوا الى استخلاص بأن الثورة لن تقع, مستعملين مبررات واهية. بالموازاة، هناك مفارقة مثيرة بين غياب المشاركة المكثفة في المظاهرات »المبرمجة«، والمواجهات التي تقع في كل أطراف البلاد بين قوات الأمن وشبيبة مهمشة، أي قراءة يمكن أن نقدم لذلك؟ المشاركة الضعيفة في المسيرات تترجم في المقام الأول انهيار رأس المال الاجتماعي وبالأساس الثقة الاجتماعية، كنتيجة للحد من الحريات، وتفكيك مبرمج لبنيات المجتمع المدني. المجتمع الجزائري اليوم هو عرضة لانقسامات داخلية تتقاطع فيها عدة أبعاد، إيديولوجية، جغرافية ولغوية. هذه الوضعية، تضاف إليها عشر سنوات من عشر سنوات يخاف من يتجاوز سنهم 35 سنة عودتها، تعزز الخوف من ثورة دون بديل سياسي واضح وموحِّد بشكل كاف. تناسل ظهور الجمعيات الداعية الى التغيير، وطموح كل واحدة في جمع كل الآخرين، يترجم العجز المزمن للمجتمع في التنسيق والتكتل في مواجهة سلطة نجحت في قيادة سياسة الأرض المحروقة.هناك اليوم طلاق كامل بين الشعب ودولة مهيمنة لا تقبل الاختلاف. الدولة وكل آلياتها، وخاصة أغلبية الأحزاب السياسية، فقدت كل شرعية في نظر ساكنة شابة لا تستطيع القوى السياسية الحالية تمثيلها. وهناك اليوم جزائر مزدوجة. واحدة تبدو ناضجة سياسياً لتعترف بأن ثورة عنيفة لا يمكن أن تقود الى انتقال ديمقراطي حقيقي، مازال يراودها الأمل في انتقال سلمي، والثانية، أكثر شباباً وأكثر استعجالا، لم تتأثر كثيراً بالعشرية السوداء، ومن الصعب التحكم فيها، تنتفض باستمرار وبشكل عنيف. ولذلك لا يجب استخلاص نتائج متسرعة في ما يخص احتمال وقوع »ثورة الزيتون«، والشيء الوحيد الذي يخاف منه اليوم جزء كبير من الشعب، هو الخوف من نفسه ومن غياب الثقة لديه ومن انقساماته الداخلية. على المدى القصير لن يتمكن من طرد شياطينه الداخلية، ويوفر للنظام الجزائري فرصة ثمينة ونافذة وحيدة للتصويب، من أجل خلق ظروف انتقال ديمقراطي سلمي ومتفاوض حوله. على المدى المتوسط، إذا لم ينجز أي شيء في هذا الاتجاه، فإن المعادلة ستصبح أكثر تعقيداً. في المقام الأول الجزء الراديكالي من الشباب، المستعد للمواجهة سيصبح مهماً. وفي المقام الثاني ستحصل لدى الشعب بشكل عام، القناعة بأن طريق الثورة هو الحل الوحيد المتوفر أمامه للتحرر من نظام قاده إلى الباب المسدود. وهناك عدة أسباب تعرقل حصول تحول إرادي للنظام الجزائري، وهو ما تؤكده الأحداث الأخيرة. أمام التطلعات للحرية، ردت الدولة بإعادة توزيع جزء من الثروة وبنشر ترسانة أمنية هائلة لمنع المسيرات في العاصمة، وبالتالي هناك شيء أساسي يبدو أن السلطة القائمة تحاول إخفاءه، والذي أبرزته الثورة التونسية: الدور التأسيسي للحرية. فالحرية ليست ترفاً للدول الغنية، بل هي عنصر مؤسس للتنمية الاقتصادية وغاية في حد ذاتها، والعنصر الأول هو الوجه الآخر لنجاح السلطة في إنكار الحريات العامة، وتفكيك المجتمع المدني. فلا توجد اليوم معارضة سياسية ذات مصداقية يمكن أن تفاوض النظام حول شروط انتقال ديمقراطي. العنصر الثاني هو غطرسة الحاكمين الذين يظهرون إيماناً قوياً بقدرتهم على إبقاء الشعب في حالة امتهان. والعنصر الثالث تفتت السلطة والطبيعة الفئوية للنظام الجزائري. وغياب الثقة الاجتماعية يمتد بطبيعة الحال الى العلاقات بين الفئات في ما بينها . ويؤدي إلى نوع من معضلة السجين الذي يضع جميع المتصارعين في وضعية العجز عن التفاهم حول شروط الانفتاح السياسي. وأخيراً تغذي الاحتياطيات من الثروة النفطية الأطماع وتحشد شهية الفئات الأكثر شراسة. وإذا ما انتصرت هذه العناصر، فإن الجزائر سجينة دولة قاسية قد تصبح على المدى المنظور آخر معقل للظلامية السياسية في المغرب العربي. فتونس والمغرب ومصر بصيغة أخرى ستنجح في انتقالها الديمقراطي، واتساع الحريات سيترجم بتحرر القوى الخلاقة في هذه البلدان وتطور اقتصادي غير مسبوق. ولن يزيد ذلك، الوجه الشاحب للتنظيم الاجتماعي السياسي الجزائري العتيق، إلا مزيداً من التناقض. والحل للخروج من الأزمة وتفادي مصير ثورة تكون عواقبها كارثية، لا يمكن أن يأتي من السلطة وحدها ولا من الشارع فقط. وعلى القوى التقدمية داخل وخارج النظام أن تضغط من أجل إرساء ميثاق وطني تكون ملامحه مكتوبة بوضوح، في أقرب الآجال. هذا الميثاق الذي سيحمله زعيم منتخب ديمقراطياً، سيحدد شروط وجدولة انتقال ديمقراطي متفاوض بشأنه .بين الجيش، والأحزاب السياسية وأهم الشخصيات التي لها وزن أخلاقي في البلد، وجمعيات المجتمع المدني، سيحدد في النهاية انتقال السلطة الى الشعب. وستكون لهذا الزعيم خارطة طريق منبثقة عن الميثاق، وولاية من خمس سنوات غير قابلة للتجديد لاستعادة الثقة وقيادة الإصلاحات السياسية الضرورية، وخلق شروط تطور اقتصادي أفضل عبر إصلاح عميق للاقتصاد والادارة. وأولى الإصلاحات السياسية الكبرى، يجب أن تعيد إرساء دولة القانون وتخليق الحاكمين في اختياراتهم وجعلهم مسؤولين عن أعمالهم أمام الشعب، ويتم تشكيل لجنة للمراقبة مستقلة عن أي قوى سياسية، تستمد سلطاتها من تعديل للدستور، مكونة من أعضاء من المجتمع المدني .وخاصة ممثلين عن الشباب وشخصيات أخلاقية، تكون مهمتها ضمان احترام شروط الميثاق وخارطة الطريق. وستكون لهذه اللجنة امتدادات محلية على مستوى كل ولاية للمتابعة الدقيقة لتنفيذ الإصلاحات السياسية والاقتصادية. * اقتصادي