لست في مقام، ولو أنه للاعتراف بالأثر، من يستطيع أن يشهد للدكتور أحمد الخمليشي بشيء كثير، يجل في الحقيقة عن التقدير، مما حسُنت به شخصيته الإنسانية الكريمة من فضائل ومكرومات ومواقف فوق أنها طبعت حياته وسلوكه وتصرفاته كانت لغيره ممن تتلمذوا عليه أو عاشروه وزاملوه، محبين ومعجبين، قدوة لا تدانى في الاستقامة والنزاهة والعلم والجدية. ولا أود، على كثرة ما يخامرني من مواقف وأفكار، إلا أن أشير إلى أمرين اثنين أراى فيهما حقيقة شخصه ولب فكره: فهو، على ما يعلمه الناس، منذ أن تقلد منصب التعليم وتفرغ للتدريس، أستاذ أجيال قانونية وحقوقية وفقهية، ومن أبرز المساهمين في تكوينها، لا بحكم السنوات الطوال التي أمضاها في المنصب، فهي كثيرة أيضا، ولكن بفضل الجهد الدؤوب الذي أخلص فيه كلية للبحث والتلقين، مصاحبة وتوجيها وإشرافا، بأحسن الطرق الخلقية والإنسانية تلك المتجلية، قبل منهجيتة الرصينة في الإبلاغ وبعدها، في دماثة الخلق والصبر الأكيد والنصح والإنصات. والحق أنه كوّن بذلك أيضا فئة من الباحثين المجدين الذين صار لهم، في مجال الاختصاص، الدور الأكيد في رفد العلم القانوني والدستوري بكثير من الاجتهادات والآراء، لا تراهم يدينون للأستاذ، في الواقع، وذلك هو الأهم والأبقى، إلا بما تلقوه عنه من علم دستوري وفقهي، وهذه لعمري أهم ميزة تحسب للدكتور الخمليشي، لها، من حيث إخلاصه والاحترام الذي يحظى به، الأثر الحميد في التكوين والتوجيه. الأمر الثاني على صلة وثيقة بالعلم نفسه: فالصورة المؤكدة التي رسخها حضوره الإنساني وأنضجتها مشاركاته الفكرية أنه أحد أهم المجتهدين العصريين في مجال العلم الفقهي وشروحه، ليس له فيه فقط كتب أساسية منشورة حظيت بالاهتمام وراجت بين الناس رواجا يتلقفونها للنهل من معينها، بل ولأنه، كذلك، دشن أسلوبا عصريا في إبداء الرأي والإقناع به بكل نزاهة وإخلاص، صادرا في ذلك عن تكوين فقهي وقانوني بوأه مكانة العالم المجتهد الذي يُقدَّر علمه ويُحسب لاجتهاده أيما تقدير وحساب. وفي هذا لا بد وأن يُذكر له أنه تفرغ لذلك بأداةٍ ودأبَ عليه بنزوع: التقصي أداته التي لم يترك بها مجالا من المجالات التي بحثها إلا وقتلها، غائرا في ثناياها مقلبا إياها، بكثير من التمحيص، على جميع الوجوه حتى صارت آراؤه حججا نافذة. ويتجلى نزوعه، من حيث الدأب، في الاستقلال الفكري والرأي الذي أكسبه الحصافة والمناعة، وفي الانفتاح الذي جنبه مختلف أوجه التزمت تلك التي لازمت بعض الفقهاء وكثيرا من الساعين إلى الاجتهاد والداعين إليه، وفي التحرر الذي قربه من العصر، بل وكان له عصرنا المتطور والمضطرب عونا على الفهم والتخريج. وإني إذ أعرض هذا ليطيب أن أذكر أن شهرته، في المجالات السالفة الذكر، ما كان لها أن تحظى بالقبول وتتمتع بالمصداقية لو لم يكن الدكتور أحمد الخمليشي، المعروف بتواضعه حد الكبرياء، نصيرا ومصلحا: أريد القول إنه بأخلاقه وسلوكه وعلمه، من جهة، استجاب لمتطلبات عصره تلك الاستجابة التي قربته، على الصعيد الفكري تحديدا، من نبضات المجتمع الساعي إلى التطور، مع العلم أنه لم يكسب من ذلك لقبا ولم يجن منه رتبة، حتى أن الكثيرين يعتبرونه نصيرا وهو إلى الفاعل الناصح أقرب. وأرى فيه، من جهة أخرى، المصلح الذي سخر فكره، رغم القيود المضروبة، في كثير من الأحيان، على الحقول التي ارتادها على الصعيد الفكري، لخدمة الرأي الداعي إلى التغيير، تغيير السلوك والاعتقاد البالي والذهنية المتحجرة، هذا مع العلم بأن الدعوة إلى التغيير في المجالات التي نبه إلى تغييرها أثارت عليه ومن حوله ما يثار، عادة، في وجه الدعاة من اتهامات وأباطيل، فضلا عن المقاومة السلبية الرامية إلى قمع الفكر الحر وإسكات الرأي الجريئ. وسيذكر الناس للدكتور أحمد الخمليشي، فضلا عن هذا وذاك، أن دعواته الإصلاحية ومواقفه الاجتهادية القائمة، من الناحية المنهجية، على أنها نتاج تفكير بشري فيه الصواب وفيه الخطأ، وأن موضوعها، خلافا للاعتقادات التقليدية المؤسسة لسلطة المطلق، دَاخلٌ في باب الأحكام الاجتهادية الخاصة بشؤون الحياة العامة ومصالح الناس المشتركة، شرّعت في الحقيقة للوعي الواجب إدراكه بأن لا وجود لتعارض في الدين بين المواءمة بين متطلبات حياتنا العامة من حيث الضرورات والحاجيات، أخذا بمبدأ التطور الذي يضبط إيقاع الوجود، وبين منطوق ومعنى النصوص والأحكام المتضمنة فيها أخذا بما يكفل الاستنباط الصحيح والتقدير الرشيد. أما الاسترشاد الذي بني عليه الموقف الأصلاحي الاجتهادي، وهو أمر لا يقل خطورة عما سبق، وفيه حقيقة دنيوية أساسية لا يمكن أن يرفضها العقل، فلا يخرج عن المبدإ المتضمن في الاجتهاد نفسه وفي التطور بسببه ومعه، أعني به مبدإ: جلب المصالح ودرء المفاسد، لأن في هذا المبدإ نسبية تقرر الصالح من الناحية العقلية وتتجنب، بناء عليه، ما دونه، أي الفاسد، من الناحية الشرعية.