ظل الصراع الأزلي بين الأنا والآخر يشكل العجلات المحركة لتاريخ البشرية جمعاء، لما يضمنه من فرص اللقاء والتجدد بشتى الوسائل، مؤديا إلى امتزاج الثقافات وانصهار الحضارات واندماج الأعراق، بالرغم من محاولات الشعوب، جريا ضد التيار، الحفاظ على نقاء العرق وصفاء الثقافة وحماية الخصوصية الهُوّياتية، إلا أن حتمية التغيير الناجمة عن معرفة الآخر والاحتكاك به والتثاقف معه، ظلت تزعزع جيولوجيا المجتمعات، وتبدل مصائرها وتزخرف وجوهها بمساحيق مستعارة، وأحيانا تلغي وجودها الثقافي وتفنيه، إذا ما وصل التغيير إلى جوهرها الداخلي، لذا اهتمتالكثير من الدراسات بهذه الظاهرة التي لا تقل أهمية عن حوادث الكون الكبرى لدراسة أحوال الامتزاج بين الشعوب، وما يطرحه من تفاعل ثقافي واجتماعي عرف حديثا باسم المثاقفة أو التثاقف أو حوار الثقافات. وفي سياق هذا الحوارظلت علاقة المغرب بإفريقيا جنوب الصحراء، كعلاقة الجسد بأعضائه، فهي السماد الذي غذى جذور هذه الثقافة التي نجني ثمارها اليوم ونتمتع بمظاهرها الجذابة وتحكم سلوكاتنا ومعتقداتنا دون أن ننتبه لتلك الجذور الممتدة في الثقافة الإفريقية العريقة، التي ظلت الينبوع الذي يسقينا حينما تذبل حقولنا الحضارية ونرويه بالمياه الثقافية حينما تمسك سماء الصحراء الإفريقية عن الإمطار الثقافي والحضاري. فعن طريق هذه العلاقة وأيضا تلك العلاقات الأخرى التي شهدتها الحضارة المغربية مع حضارات البحر الأبيض المتوسط الشمالي قديما وحديثا، انبثقت الهوية المغربية بأشكالها الثقافية المختلفة وبغناها التراثي وبممارساتها الشعبية المتعددة وبفرادتها الإسلامية العجيبة. وإن المتأمل في الدستور المغربي ليَفجَؤه ذلك التنوع في المرجعيات الثقافية والإثنية للهوية المغربية، فقد جاء في ديباجةالدستور المغربي الجديد، وحتى في الدساتير التي سبقته:«المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة وتلاحم مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية– الإسلامية، والأمازيغية،والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية». لكن العودة لتاريخ الشمال الإفريقي القديم عامة، وتاريخ المغرب الأقصى خاصة، كفيلة بأن تقدم لنا الإجابات الشافية عن روافد ومبررات هذا التعدد الهوياتي بالمغرب، الذي يعدّ الوجه الإفريقي الزنجي أحد مكوناته الرئيسة، بالنظر إلى متانة العلاقات الاجتماعية وانصهار المغاربة في فترات كثيرة من التاريخ مع أهل السودان، وهذا ما تؤكده رسالة الملك الحسن الثاني إلى رؤساء منظمة الوحدة الإفريقية في أديس أبابا سنة 1985 من أن المغرب بلد أفريقي، وإنه سيبقى بلدا إفريقيا في كل الأحوال والظروف . وهي حقيقة بادية للعيان في مختلف المناحي التراثية المغربية من آداب وعادات ومأكل ومشرب وموسيقى وعمارة، لتصبح هذهالميزة من القرائن الدالة على أن المغرب، بموقعه الجغرافي، وثقله التاريخي، شكل عبر العصور ملتقى للحضارات وأرضا للتسامح الديني والتعايش العرقي. فعلى مر التاريخ لم تنقطع وشائج التواصل بين المغرب وسكان إفريقيا السوداء، إن على المستوى التجاري أو السياسي أو الثقافي أو الاجتماعي أو التراثي، وإن كانت تلوح في الأفق بين الفينة والأخرى غيوم عابرة من التوتر، فإنها ما تلبث أن تنقشع بعجالة أمام الحاجة الماسة للطرف الآخر من أجل التكامل التجاري، لتفسح بذلك المجال للتواصل الحضاري الشعبي المتعدد الأوجه والمختلف الأشكال من حقبة إلى أخرى؛ تواصل تبادل فيه الطرفان الخبرات والمعارف الشعبية، كما تبادلا فيه المعتقدات والسلوكات الدينية، بل وصل الأمر إلى الاندماج الاجتماعي التام الناتج عن استقرار الكثير من المغاربة بالسودان الغربي وتزاوجهم مع الزنجيات منذ عهد قديم، أضف إلى ذلك الزاد الثقافي الذي جلبه التجار أو العبيد السودانيون الذين عاشوا وتعايشوا مع المغاربة في مختلف الحقب الزمنية، فتغيرت عاداتهم ومعتقداتهم الوثنية واستأنسوا بثقافة الشمال التي انصهروا فيها عبر مراحل متعاقبة من التاريخ، كما لا ننسى أن انضواءالسودان الغربي في العهد المرابطي والموحدي والسعدي تحت الراية المغربية، كانت له آثار في التحول الاجتماعي والديني في عقلية الزنوج، فبدأت منذ ذلك الإبان تصطبغ المنطقة بالهوية والثقافة المغربية في مختلف جوانب الحياة اليومية من مأكل وملبس وعمران، وكذا في العقيدة والسلوك. ولم تكن العوامل الطبيعية القاسية للصحراء، ولا وعورة المسالك الرملية ولا طول الطريق بين المغرب وبلاد السودان الغربي، كافية لكبح روابط التواصل المختلفة بين سكان المنطقة خلال العصر الإسلامي، هذا ما أسهم في خلق لحمة اجتماعية انصهر فيها العرب والأمازيغ والزنوج، خاصة في المناطق الصحراوية وفي معابر القوافل التجارية، لتكون هذه المناطق القاطرة الرئيسية التي ستضطلع بالوساطة الدينية والتثاقف الشعبي واللغوي والثقافي والحضاري بشكل عام. كما نشير إلى متانة الروابط السياسية والاقتصادية التي جمعت بين سلاطين المغرب بمختلف انتماءاتهم السياسية (أدارسة ومرابطون وموحدون...) وبين ملوك وزعماء الممالك والإمارات الناشئة بالغرب الإفريقي خلال العهد الإسلامي. وإن كانت تلك العلاقات تعرف فتورا وصراعا في بعض الفترات، فإن أي جانب منهما لم يستطع الاستغناء عن الآخر في جميع الأحوال. كما ظل سلاطين المغرب يفرضون وصايتهم الدينية وأحيانا السياسية على المنطقة، علما أن جزءا هاما من تلك البلاد كان تابعا للحكم المغربي المباشر خاصة في عهد المرابطين والموحدين والسعديين. ولا ريب أن التقارب الجغرافي بين المغرب وبلاد السودان عزز أوجه التواصل الشعبي بين القطرين، ونتيجة لاحتكاك السودانيين بالمغاربة المسلمين، أفرادا وقبائل وتجارا، بعدما هاجروا واستقروا في هذه البلاد، ارتدى أغلب السودانيين بمختلف انتماءاتهم جبة الإسلام، وتأثروا بثقافته وقيمه والتزموا بعاداته، ولزموا طقوسه ومعتقداته، وتخلصوا جزئيا من أعرافهم وتقاليدهم الوثنية. وقد كان للمغاربة تأثير بالغ في الحياة اليومية للسودانيين تمثلت في إحداث تغيير جذري مس العمق الثقافي والعقدي للزنوج، فتبدلت القيم بما يوافق الدين الجديد، وتبنوا الثقافة واللغة العربية التي صارت عندهم لغة دين ودنيا، وتشبثوا بالمعاملات الإسلامية وخلدوا الأعياد الدينية بطقوس إسلامية، وتأثروا في احتفالاتهم الشعبية بالسماع الديني والنغمة العربية، ولبسوا لباس المغاربة، كما شيدوا الدور والحصون والمدن على النمط المغربي أو العربي، فظهرتحواضر سودانية تتنفس إيقاع الثقافة العربية الإسلامية في السودان الغربي مثل: تنبكتو، وجني، وجاوه، وأغاديس، ولاته، وشنغاي وهلم جرا. ومن هنا فلن يكون من الغريب في شيء أن نجد التفسير الصحيح والتأويل الحق لبعض من مظاهر حياتنا وسلوكنا وتقاليدنا ومعتقداتنا وملابسنا وأعرافنا في البلاد الإفريقية، كما لن يكون من الغريب أيضا أن تكون لبعض ممارساتنا الموسيقية في مظهرها النغمي والإيقاعي والآلاتي أصول إفريقية زنجية بحتَة، وبالمقابل لن نتفاجأ إن كشفنا عن مدى التأثير الحضاري المغربي في الثقافة الشعبية والدينية لهؤلاء الأفارقة سواء من حيث اللغة أو العقيدة أو العمارة أو الموسيقى أو الفن أو اللباس. ولا شك أن دراسة هذا التمازج والتثاقف الحضاري بين المغرب وبلدان إفريقيا الغربية اليوم من شأنها التعرف على مدى الارتباط والانصهار الثقافي والتاريخي الذي يجمع هذه البلدان الشقيقة، وكذا من شأنها أن تعزز الثقة بين الجانبين للبحث عن وسائل تزيد من فاعلية التعاون الإفريقي، ومن الوعي بالتاريخ المشترك بين هذه الشعوب، لصد كل المخططات الاستعمارية التى ترمي إلى تقسيم القارة على ضوء اللون أو اللغة أو الدين.