صدر عن دار النشر الجامعية الأوروبية كتاب للدكتور محمد نوري الباحث المغربي في مجال السلم وإدارة النزاعات وسمه ب»النزاعات، السلطة والوساطة: تصورات، مسارات ورهانات» في 132 صفحة، ويتألف من ثلاثة مباحث رئيسة ترتبط بمفاهيم أساس: النزاع، والسلطة، والوساطة: أولها، يتصل ب»النزاعات، السلم والسلطة في عصر الرقميات: عدم الاكتمال الإنساني في مواجهة الحلية التكنولوجية، وثانيها، يتعلق ب»الوساطة في الثقافتين المسيحية والإسلامية: مسارات ورهانات»، وثالثها يرتبط ب»ثقافة السلم والإدارة السلمية للنزاعات في المغرب: سياقات و فاعلون». يروم الكتاب الحفر في راهن المفاهيم الثلاث المذكورة في زمن العولمة والرقميات بوصفه زمنا لم تعد فيه المعلومات قمينة بخلق التواصل، بل ثمة اتصال بطعم الوحدة وعزلة محروسة لا تهدف إلا استهلاكا مدروسا لملئ فراغ عاطفي رهيب؛ حيث يشير إلى أننا بإزاء أكبر قطيعة يعرفها القرن الواحد والعشرون؛ لأنه إذا كان العالم قد أضحى قرية صغيرة على المستوى التقني، فإنه ليس كذلك على المستويات الاجتماعية والسياسية والثقافية. فعلى الرغم من التطور الكبير في وسائل الاتصال والتواصل، توجد مفارقة تثير الخوف من الآخر، والتقوقع حول الذات، وتناسل الأصوليات..؛ أي أن كل شيء يتحقق ما عدا التواصل. لماذا؟ لأن الآخر كان بالأمس واقعا عرقيا بعيدا عنا، لكنه اليوم أضحى واقعا اجتماعيا وجب التعامل معه بحكم أن المسافات لم تعد مادية بل ثقافية؛ وهذا الحضور الصارخ للآخر في عالم متصل بشكل رهيب يزيد منطقيا من احتمال حدوث النزاعات. لذلك، أصبح لزاما على الفلسفة السياسية للتواصل أن تضع في اعتبارها أن المعلومات والاتصالات أصبحت عوامل توتر، عكس ما بشرت به تلك الفكرة القائلة ببروز مجتمع معولم للمعلومات والتي غذت الأوتوبيا التكنولوجية المتبجحة بقدرتها على ردع النزاع و طرده، سواء أكان ذلك النزاع داخليا، بين الأنا والأنا، أم مع الآخر في العمل أم في المجتمع أم مع الثقافات الأخرى. أما بالنسبة للمدافعين عن الربط المستمر، فإن السوق سلمية بطبيعتها، إذ يسهم التواصل في جعل سحب العنف تنقشع، واقتسام السلع والمعارف والعواطف نفسها بوصفها أنجع طريقة للوقاية من النزاع. لماذا يا ترى هذا التمثل السلبي للنزاع؟ لأننا نفتقر إلى إحداثيات معرفية «خاصة بالسلم»؛ ذلك أن أن كل ما نعرفه عن السلم نهلناه من «نظرية النزاعات» التي تتمثل النزاع بوصفه فعلا سلبيا، ووضعية تنتهي دائما إلى العنف. وبالتالي يقوم اللاوعي برد فعل مستديم لنفي وهجران السبب والنتيجة كليهما، ليصبح النزاع ذلك العدو الذي وجبت تصفيته. يصبح النزاع لا مكان له في مجتمعات مقولبة إلى التخمة بفعل معلومات مصفاة ومختارة ثم مدورة ومعادة إلى حد الهذيان، لدرء كل اختلاف وشك؛ ذلك أن كل أقلية وجبت أن تذعن للأغلبية، وكل معترض أو معارض نعجة ضالة، لا مكان لها في عالم يراد على المقاس الجديد، سيناريو يذكرنا بما كتبة الراحل محمود درويش في خطاب الدكتاتور. إن هذا الانحراف الخطير الذي تعرفه «مجتمعات ما بعد الحداثة»، وهذه الفوبيا من النزاعات التي تولد بشكل طبيعي بفعل التعدد والتي يصنع الاعتراف بها المجتمعات، وهذا الوهم القاضي بالعيش في «سلم مكتمل وعالمي»، يعرض الحياة للخطر؛ لأن من شأن رفض النزاع وكبته ونفيه من مدن ما فتئت تفقد ألوانها أن يخلق عنفا معمما، ومن ثمة الاعتراف به، والتعايش معه، واجتراح آليات سلمية ومبدعة لإدارة مختلف تمظهراته وأشكاله. إن هذا التصور المجحف في حق النزاعات هو ما تسوغه اليوم الشركات العابرة للقارات المختصة في المعلومات الرقمية والتواصل، والتي تربعت على رأس قائمة أغنى الشركات العالمية، حين ترى أن الأهم هو أن لا يكون هناك أي نزاع، أي أن يكون المرء ودودا صحوبا، عكس التصور الإغريقي الذي يرى في النزاع مناسبة للإعلان عن الذات؛ أي قياس حدودها ودرجة مقاومتها؛ ذلك أن الإنسان لا يمكن أن يبني نفسه إلا في مقارعة الآخرين ومساءلة نفسه، والأساس بالنسبة إليه ليس بل هو الصورة. لهذا تبدو الحكامة عبر الألغوريتمات أكثر نعومة من التحكم المعروف عبر الأسلحة التقليدية، لكن الهدف يبقى هو الهيمنة، فمهما تغيرت أسماء الفاعلين، والأساليب ونوعية الأسلحة المستعملة، فإن الرهانات الاقتصادية والسياسية والإيديولوجية تظل الدافع الرئيس وراء ذلك. واليوم، تم وضع المعلومات في قلب معركة تتوخى التحكم أو الفوضى، التحكم في كل ما نعرفه، نفكر فيه أو نتبادله، والفوضى لمعاقبة المنافسين أو المعارضين. لعل الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة بمثابة الدليل الملموس على هذا التوجه نحو ثقافة المواقع الاجتماعية؛ حيث كل الأفكار أضحت أحكاما مسبقة، والأهم ليس هو نقاش الأفكار بل الاستعراض الإعلامي، حيث أضحت أقل من 140 كلمة على التويتر مطعمة بآلاف الصور، وتسجيل حضور مستمر في الحلقة الإعلامية، كافية لربح اللعبة. إنها بداية نبوءة الحكامة الألغوريتمية القائلة بانتهاء صلاحية الديمقراطية، وبأن الدولة هي العدو الذي وجب القضاء عليه. كيف يفسر الباحث كل هذا التحامل على الدولة؟ يرى الباحث أن هناك تمثلا تقليديا للسلطة بوصفها مرادفا للقمع والإقصاء؛ مما يعيق استكشاف جوانبها المضيئة وقدرتها الفردية والجماعية على تغيير الواقع والدفع به إلى وضعيات أكثر سلما. وعلى هذا الأساس، أقام المذهب الجديد المسمى ب»الحلية التكنولوجية» صرحه، والذي يعد الدولة عقبة وجب تجاوزها؛ لأنها صناعة غير مجدية؛ فالديمقراطية لم تعد تساير إيقاع العصر، وإيقاع الشركات الرقمية العالمية التي تريد فرض شروطها الجديدة، وسلب الدول اختصاصاتها وعلى رأسها التحصيل الضريبي. لهذا، يلمح محمد نوري إلى أننا نعيش اليوم على وقع نزال شرس بين التكنولوجيا والسياسة، ولاسيما في عصر أصبحت فيه الدولة العناية، تلك المؤسسة المنظمة، المعيدة لتوزيع الثروة، والوسيطة في النزاعات، مستهدفة من طرف مناصري الحرية الاقتصادية المطلقة. يحاول الباحث في هذا الكتاب إذن، أن يدافع عن مكانة الإنسان في هذا المشروع العالمي الجديد، انطلاقا من وعي يرى أن العودة إلى عصر ما قبل عصر الرقميات أمر مستحيل، وبأننا إزاء حضارة جديدة وإنسان جديد بقدرات عقلية وفكرية هائلة جراء استعانته بوسائل الذكاء الاصطناعي. لذلك، يروم فيه التحسيس بتنظيم هذه الطفرة، وضبط قواعدها حتى لا تجعل سوق العمل أكثر هشاشة، حتى لا يضرب الطب الجديد المنبثق من ترائبها آخر مسمار في نعش المساواة؛ مساواة الناس أمام الموت، كي يتم تقليص تغول النموذج الجديد للأمن القائم على الشك بدل القرينة، وعلى المراقبة الرقمية بذريعة توفيرها لراحة أكبر، وحتى تصبح المدرسة وسيلة للعودة إلى الإنسان بوصفها معينا للإبداع، والنزال الفكري، وتدبير الشكوك بدل شحن الأطفال بمعارف لا تنتج إلا مستهلكين للاقتصاد الرقمي القائم والقادم أكثر. كما يتغيا الكتاب الإسهام في إعادة التفكير في النزاع بعدِّه محركا للتاريخ، وتمثلا للسلطة بوصفها إسهاما في التغيير الإيجابي، والدفاع عن الديمقراطية التي على الرغم من عيوبها تظل أقل الأنظمة المجربة سوء، والاعتراف بعدم اكتمال السلم كعدم اكتمال الإنسان الذي يصنعه، والدفاع عن عدم توقعية هذا الإنسان، وعن شكه، وعن اجتماعيته، والاحتفاء بما يسميه البعض صدفة والبعض الآخر حاجة، والتي ظلت دائما حليفا وفيا للإنسان في مسيرته التطورية الجميلة، فالباحث يعتقد أن هذا واجب أخلاقي، حتى لا يسهم هذا المشروع في تقليص هامش الحرية المتاح ويمنح للأجيال اللاحقة سعادة أوفر؛ لأننا أمام عنف متواتر، وتطرف متصاعد بسبب عجز الدول أمام هذا المارد الاقتصادي العالمي الجديد المتعطش للتوسع والاتصال العازل؛ ذلك أن هذا التعقيد الشديد يجعل من النزاعات تتناسل وفق متوالية هندسية، تفرض البحث عن أشكال تنظيم مجتمعي أكثر مرونة وإبداعا وتأقلما لن نجدها إلا في الفضاءات الوسيطة التي تعيش ديناميات متحركة باستمرار. من هنا تأتي الحاجة الملحة اليوم للوساطات؛ فبتدخلها في جميع مناحي الحياة واعتمادها على الإنصات والتفهم والرغبة في مد الجسور يجعل منها فسحة أمل، وإبداعا اجتماعيا وسياسيا حقيقيا يهدف إلى البحث عن أشكال محينة للحكامة وبناء السلم والتماسك الاجتماعي. كما يعمد الباحث في هذا الكتاب إلى التأكيد على الحاجة الملحة لاستعمال الوساطات، وبخاصة في العالم العربي الإسلامي، نظرا للجوء المتزايد للعنف من طرف الفرقاء السياسيين والاجتماعيين لتسوية نزاعاتهم. ولهذا، خصص الباحث مباحث لاستطلاع الوساطة، ومساراتها ورهاناتها في الثقافتين المسيحية والإسلامية، مشرحا في الوقت نفسه التجربة المغربية في هذا المجال خلال العقدين الأخيرين، مبينا فيها كيف ساهمت مختلف مؤسسات الوساطة التي تم خلقها في العقدين الأخيرين في تجنيب المغرب الانزلاق نحو سيناريوهات العنف والعنف المضاد الجالبين لخراب الدول والحضارات، مع تقديم بعض الاقتراحات لتطوير ومأسسة هذه الوساطات لبناء السلم وتقعيده في الدولة والمجتمع. (*) باحث مغربي