اختتمت مساء الخميس الماضي الندوة النقدية «بنيات النص ودلالات الخطاب» التي احتضنتها كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة ابن زهر- أكَادير، لثلاثة أيام 06-08 ديسمبر/ كانون الأول 2016، في موضوع التداوليات من حيث مفاهيمها ونظرياتها وتطبيقاتها، وشارك فيها ثلّةٌ من أساتذة الجامعة من المغرب وتونس، والطلبة ممن يبحثون في تكوين دكتوراه النص والخطاب الذي يشرف عليه الأستاذ الباحث محمد خطابي داخل مختبر اللغة والجتمع والخطاب بالكلية نفسها. وقد تمّ بمناسبة الندوة الاحتفاء بالباحث الأكاديمي التونسي شكري المبخوت الذي يُعدّ أحد مؤسسي التداولية العربية الحديثة وممن وظّف مفاهيمها في قراءة التراث اللغوي والبلاغي العربي القديم. وقدم المبخوت في افتتاح الندوة محاضرة قيمة بحثت العلاقة بين البلاغة العربية والتداولية، إذ بسط للنقاش جملة من التساؤلات عن التداولية من خلال قراءته وفهمه لها أو في علاقتها بالبلاغة العربية، وبدأ ببعض التوضيحات المنهجية والمبدئية. التداولية ليست علماً وعلى غرار ما هو غير متوقّع، نفى المبخوت عن التداولية طابع العلمية، ملمحاً إلى أنّ «التداولية في جميع موضوعاتها ليست علماً»، ولكن بالمعنى الذي يفيده في التصورات الإبستيمولوجية الحديثة التي تستند أساسا على النموذج الفيزيائي. وقد يكون هذا شأن كثير من الاختصاصات القريبة من التداوليات كاللسانيات مثلا. ولذلك، رأى أن أن هذه المباحث المختلفة التي تندرج في باب التداولية، تحتاج لأن يُنظر إليها نظرتنا إلى أي اختصاص أو مجال يفتقر إلى تحديد أسسه المعرفية وأدواته المنهجية والإجرائية. غير أن يسوقه هذا الكلام ليس من باب التقليل من قيمة التداولية أو مباحثها، ولكنه يرفض التعامل مع الآراء التي تندرج ضمنها على أنها حقائق علمية نتبنّاها دون تساؤل. وفي مقابل ذلك، رأى أن «البلاغة العربية هي علم، ولكنه علم بالمعنى الأرسطي القديم ووفق التحديدات الكلاسيكية للعلم». وضر مثالاً على ذلك بكتاب «كشاف مصطلحات الفنون» للتهانوي، فهو يختصر هذه الأسس ضمن التصور الأرسطي. غير أن تطوُّر المعرفة الإنسانية بالقول وفنونه جعل البلاغة العربية كما البلاغات الأخرى «مندرجة في باب تاريخ علوم اللسان، ولم تعد كافية لوصف الخطابات». وعودة إلى المحاضرة التي عنونها ب»بين نعي البلاغة والتبشير بالتداولية: حيز للتساؤل من خلال نظرية الأعمال اللغوية»، فإنّ المبخوت كان يعني بنعي البلاغة فصلها عن شروط العلم الحديث، وهذا الفصل– في نظره- حصل من خلال القطيعة الإبستيمولوجية التي شملت كل العلوم، ومن إدراج القديم منها في باب تاريخ العلم. إلى جانب ذلك، لا يمكن الانسياق إلى اعتبار «التداولية بديلاً من البلاغة»، رغم انتمائها إلى التصنيفات الحديثة لعلوم اللسان والخطاب. كما أن حداثتها لمن ينظر في العلوم من جهة أسسها ومدى توفر شروط العلم الحديث فيها، لا تعني آليّاً أن نصبغ عليها صفة العلم. ونبّه المحاضر إلى أن ربطه بين البلاغة العربية، القديمة تحديداً، وبين التداولية يعود إلى سبب رئيسي، وهو اشتراكهما معا في موضوع العلم الذي هو خصائص الأقوال في علاقتها بالسياق؛ أي أنهما تشتركان في الاضطلاع بمهمة فهم اللغة حين يضطلع المتكلم بها لينشئ خطابا. ولكن الأهم في هذا الاشتراك في نظره، هو أن جميع الظواهر التي تُدرس اليوم في التداولية من قبل الأعمال اللغوية والاستعارة وقواعد المحادثة والمؤشرات المقامية، إنما هي ظواهر بلاغية على معنيين: الأول أنها تتصل باستعمال المتكلم للغة، والثاني على أن للبلاغة العربية القديمة إجابات صريحة (مثل تحليل الاستعارة)، وغير صريحة (مثلما في الاستعمال الحجاجي للغة قصد التأثير والإقناع). قراءة التراث.. كيف؟ من هنا، خلص إلى نتيجة أساسية تسوغ له تحليل مثل هذه الظواهر؛ وهي أن تحول مدونة علمية ما إنستيمولوجيّاً من واقع العلم إلى تاريخ العلم لا يعني موتها، فإن كانت التداولية اليوم تقدم نفسها على أنها علم في القول في مختلف تجلياته السياقية، فإن العودة إلى ما أصبح من تاريخ العلم بالأقاويل تظلّ مفيدة للغاية، وإلا لما عاد الغربيون مثلاً إلى أرسطو ولم يجدوا حرجاً في ذلك. لكن، في المقابل، ما الداعي إلى أن نرى في العودة إلى الخليل بن أحمد أو سيبويه أو السكاكي الذين أصبحوا من تاريخ النحو واللسانيات والبلاغة، «خلطاً زمنيا ومعرفيا»؟ ورأى صاحب «الاستدلال البلاغي» و»إنشاء النفي وشروطه النحوية الدلالية»، أن المشكلة في مثل هذه العودة، هي كيف نعود إلى هذه المدونة التي دخلت تاريخ العلم؟ ولماذا؟ فقد وجد أن هناك قراءات تراثية كثيرة للتراث العلمي اللغوي وغير اللغوي، إلا أنه نعتها بكونها «بئيسة»، لأنها «تجترّ القديم وتحاكيه اجترارا ومحاكاة دونه قيمة وفائدة». ولهذا، فإنّ هذا النوع من القراءات لا يحمل من العلم شيئا، كما أنه مُضرٌّ بالتراث نفسه وبالمعرفة الحديثة في آن واحد. وبحسب موقفه، فهو يؤكد على مسألتين: أن تكون العودة إلى القديم أو إلى تاريخ العلم من منظور ما توصلت إليه المعرفة اليوم، فهي قد تكون مفيدة حتى في العلوم الصلبة لحل مشكلات حديثة راهنة، ويزداد الأمر في اللغة والخطاب إلحاحا. ثم يرى أن فعل قراءة التراث البلاغي هو فعل تأويلي عماده ترجمة القديم إلى الحديث حتى يمكن للباحث أن يقارن المقارنة الصحيحة بين نظريتين تتكلمان لغة مفهومية واحدة. وفي هذا الصدد، ضرب مثالا بما قاله الجرجاني وسورل عن الفروق بين الجمل واشتراكها في أصل المعنى، ودعا إلى إيجاد مشترك لغوي ومفهومي بينهما. وعقب قائلاً: «إن هذا الأسلوب في النظر يجنبنا الانبهار بالتراث والاكتفاء بترديده، بقدر ما يجنبنا الإعلاء من شأن الحديث دون برهنة أو استدلال. وبالقدر نفسه يسمح لنا هذا الأسلوب في نظرنا بإعادة بناء أجزاء من التراث بناءً يكشف عن قوته وضعفه أيضا. ويمكننا كذلك من استخدامه بوجه من الوجوه في المعالجة النظرية والاختبارية وفق مقاييس المعرفة والعلم اليوم». وتابع: «عندها لا نحتاج إلى نعي البلاغة ولا إلى التبشير بالتداولية، بل سنكون - من حيث ندري ونعي- سنشارك في التفكير العلمي الراهن. وهو الذي يعنينا ولسنا نُعنى بإجلال التراث أو تقديسه، أو برفضه هكذا بظهر اليد دون تفكير وتثبت وتمحيص». وبعد أن قدم بعض الأمثلة عما يمكن أن ينتجه الأسلوب الذي يدعو إليه في النظر إلى القضايا الحديثة والنصوص التراثية، ولاسيما فيما يتعلق بدائرة الأعمال اللغوية، جدد القول بأنه عند العودة إلى المدونة البلاغة بأسئلتنا الحديثة، يمكن أن نرى فيها ما يتصل بشواغلنا العلمية المعاصرة، فتفقد هذه المدونة بالضرورة جزءاً من تماسكها، أننا ندخلها في حوار مع مفاهيمنا اليوم بشكل ييسر لنا التفكير فيها بطريقة أخرى. ومع هذا الحوار المنتج نكون في غير حاجة للتبشير- بالمعنى الديني- بالتداولية، أو لنعي البلاغة. ولم يجد شكري المبخوت من كلمة أفضل للتعبير عن هذه الحوارية بين القديم والحديث من عبارة (النقد المزدوج) التي أطلقها الكاتب المغربي عبد الكبير الخطيبي منذ نحو أربعة عقود ولم تفقد راهنيّتها إلى اليوم. ويتحدث الخطيبي عن النقد المزدوج بالطريقة التالية: «كلمة نقد، قبل أن نذهب بعيدا، تتضمن، كما نعرف، فكرة غالبا ما تكون منسية، وهي المتعلقة بوجود أزمة. النقد كأزمة بالنسبة لنفسه، وفي الوقت ذاته بالنسبة للموضوع الذي يهتم به. وبهذا المعنى يظل النقد مزدوجا، سواء كان مرجعا مرتبطا بمفهومه الكانطي أو الهيغلي أو الماركسي. إن عليه أن يبني ويؤسس ركائزه فيما هو يشغلها».