عاد، في المدة الأخيرة، النقاش حول مسألة التعددية الحزبية ليشغل جزءا هاما من الرأي العام الوطني. وقد احتل هذا النقاش حيزا أساسيا في الكتابات الصحفية والتحاليل الإعلامية وكذا في تصريحات بعض القيادات السياسية، بالإضافة إلى دردشات المواقع الاجتماعية. وقد انصب الاهتمام، بمناسبة الانتخابات الأخيرة (استحقاق 7 أكتوبر 2016)، على ما سُمي بالقطبية المصطنعة؛ والمقصود بها بروز(أو إبراز) قوتين سياسيتين تتصارعان على تصدر النتائج الانتخابية، وبالتالي تصدر المشهد السياسي والظفر بثاني منصب في الدولة، أي رئاسة الحكومة. ويتعلق الأمر بحزبي العدالة والتنمية والأصلة والمعاصرة الذين دخلا في صراع محموم كاد أن يغطي (أو أُريد له ذلك) على باقي المكونات السياسية الأخرى. وقد شحذ كل طرف أسلحته )المشروعة وغير المشروعة( لمواجهة خصمه اللدود والأوحد، وكأن المسرح السياسي ليس به من فاعلين آخرين غير هذين. وقد وُصفت هذه القطبية بالمصطنعة لكونها تفتقد إلى أركان القطبية الحقيقية. فالحزبان المتصارعان هما وجهان لعملة واحدة، سواء نظرنا إليهما من حيث النشأة أو من حيث الغاية من هذه النشأة. وقد جاء الخطاب الملكي في افتتاح الدورة العاشرة للبرلمان ليزيد هذا النقاش قوة ومشروعية بعد أن أكد على التعددية الحزبية كخيار تاريخي واستراتيجي للدولة المغربية. وهو ما اعتبره البعض، من جهة، تأكيدا وإقرارا بوجود القطبية المصطنعة التي يُراد تكريسها، ومن جهة أخرى، انتقادا واستهجانا لهذه القطبية ولمروجيها. وتجدر الإشارة إلى أن التعددية الحزبية الموجودة ببلادنا ليست، بالضرورة، مرآة لتعددية سياسية وإيديولوجية وليست انعكاسا لبنيات فكرية وثقافية موجودة على أرض الواقع؛ بل يمكن القول بأنها تعددية أريد لها، لحسابات ضيقة الأفق، أن تنشأ بشكل غير طبيعي وأن تكون صورية وزائفة حتى لا يستتب الأمر، في المشهد السياسي، للتعددية الحقيقية التي تضمن للبناء الديمقراطي القيام على أسس سليمة ومتينة. فبالنظر للواقع السياسي الحالي ببلادنا، يمكن تشبيه المشهد الحزبي بقطعة فسيفساء غير أصيلة وغير «متقونة» حِرَفيا، فأعطت منظرا مُشوَّها بسبب تناثر قطعها وتنافر عناصرها شكلا ومضمونا. ولهذا السبب، يبدو المشهد السياسي مغرقا في العبثية وموغلا في التشرذم والتمزق والوهن التنظيمي؛ الشيء الذي يُنفِّر من السياسة ومن الحزبية. وهو ما يشكل، في نظري المتواضع، عاملا حاسما في ظاهرة العزوف الانتخابي الذي يشتكي منه الجميع، حتى الذين يستفيدون منه انتخابا. يوجد في بلادنا أزيد من ثلاثين حزبا مرخص لها من قبل السلطات المعنية. والعديد من هذه الأحزاب نشأ عن عملية انشقاق، كان العامل الحاسم فيها إما العنصر الذاتي وإما تدخل السلطة أو هما معا. ويتساوى في هذا الأمر الأصيل والهجين سواء من أحزاب اليمين أو من أحزاب اليسار. ومن المعلوم أن الحزب، كتنظيم وكتعبير سياسي عن فئات (أو طبقات) اجتماعية، يسعى إلى الوصول للسلطة من أجل تطبيق مشروعه المجتمعي الذي على أساسه ومن أجله أنشئ. فهل بلادنا في حاجة، بالفعل، إلى كل هذا الكم من المشاريع المجتمعية أم أن تأسيس الأحزاب عندنا يخضع لمنطق آخر غير المنطق السياسي الذي يؤطر المشهد الحزبي في البلدان الديمقراطية؟ يمكن للتاريخ أن يعيننا على تتبع مراحل تَكُوُّن وتكوين التعددية الحزبية ببلادنا وتلمس ملامحها العامة. فخلال فترة الحماية، التي شهدت ميلاد أول تنظيم سياسي تحت اسم كتلة العمل الوطني (سنة 1934)، ظهر خلاف بين زعيمي الحركة الوطنية، علال الفاسي ومحمد بن الحسن الوزاني. وهو ما أدى إلى تأسيس حزب الاستقلال بزعامة الأول وحزب الشورى والاستقلال بزعامة الثاني بديلا عن الحزب الأم ( كتلة العمل الوطني)؛ وذلك قبل مطلع الأربعينيات من القرن الماضي. وفي سنة 1943، تعزز المشهد الحزبي بتأسيس الحزب الشيوعي المغربي. يضاف إلى هذه الأحزاب الرئيسية حزب الوحدة المغربية (أصبح فيما بعد حزب الوحدة والاستقلال) بزعامة الشيخ محمد المكي الناصري وحزب الإصلاح الوطني بشمال المغرب بزعامة عبد الخالق الطريس، الذي سيندمج مستقبلا في حزب الاستقلال. يمكن القول، إذن، بأن التعددية الحزبية وُلدت، في بلادنا، بشكل طبيعي وخطت خطواتها الأولى بشكل طبيعي أيضا. لكنها ستنحرف عن مسارها الطبيعي منذ السنوات الأولى للاستقلال، ليس بفعل توالد الأحزاب وتكاثرها، بل بفعل تدخل الدولة في تكوين البعض منها. فقبل نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، دخلت مسألة التعددية الحزبية منعطفا فارقا بميلاد حزبين سياسيين (الحركة الشعبية والاتحاد الوطني للقوات الشعبية) متباينين من حيث ظروف النشأة ومن حيث التوجه السياسي والإيديولوجي ومن حيث حتى البنية البشرية. ويكفي التعرف على مؤسسي الحزبين (أو على الأقل، البعض منهم) لتبين طبيعة نشأتهما والهدف من هذه النشأة. لقد دشن حزب الحركة الشعبية، الذي أسسه الضابط السابق بالجيش الفرنسي والعامل على عمالة الرباط – سلا، السيد المحجوبي أحرضان، بمعية صديقه، رجل القصر المعروف، الدكتور عبد الكريم الخطيب، ما اصطلح على تسميته في القاموس السياسي المغربي بالأحزاب الإدارية أو أحزاب الدولة، لا فرق. وقد كان الهدف من تأسيس هذا الحزب هو كسر شوكة حزب الاستقلال الذي كان قويا في تلك المرحلة بوجود أغلب مكونات الحركة الوطنية والحركة العمالية والمقاومة وجيش التحرير في صفوفه. وما يروجه قادة الحركة الشعبية وأنصاره من كون حزبهم تأسس دفاعا عن التعددية الحزبية ما هو إلا محاولة لنفي تهمة «حزب الإدارة» عنه، أو ما أسميناه ب»خطيئة النشأة». فالوقائع التاريخية تفند كل ادعاء بشرعية الميلاد أو الميلاد الطبيعي، أي بدون تدخل السلطة؛ ذلك أن حزب الحركة الشعبية لم ينشأ كضرورة مجتمعية، بل نشأ بقرار (أو، على الأقل، بإيعاز) من المخزن؛ أي الدولة. أما حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، فقد انشق عن حزب الاستقلال بعد ظهور خلاف قوي على مستوى قيادته، يشبه في بعض جوانبه الخلاف الذي دب في صفوف كتلة العمل الوطني أيام الحماية. وقد كان طبيعيا أن يظهر هذا الخلاف، بعد الاستقلال، نظرا لتباين الطموحات واختلاف التكوين الفكري والسياسي والميداني للمكونات التي أشرنا إليها أعلاه؛ إذ برز داخل الحزب توجهان معارضان لبعضهما البعض بشكل استحال معه التعايش في تنظيم واحد، خاصة بعد أن احتد الخلاف حول طبيعة الدولة وأسلوب بنائها. لذا، يمكن القول بأن تأسيس حزب القوات الشعبية أتى كاستجابة لحاجة مجتمعية عبرت عن نفسها سياسيا وفكريا وواقعيا. فميلاد التنظيم الجديد كان تعبيرا عن قوات اجتماعية (القوات الشعبية) لم تعد تجد نفسها في التنظيم الأم، خاصة بعد أن اشتد الصراع بين الجناح المحافظ بزعامة علال الفاسي والجناح التقدمي بزعامة المهدي بنبركة. وقد كان الخلاف عميقا لكون الجناح المحافظ كان يرى أن الشعب المغربي غير مهيأ بعد لممارسة الديمقراطية؛ في حين أن الجناح التقدمي كان يرى أن الديمقراطية هي الوسيلة الوحيدة لبناء الدولة المغربية العصرية القوية، ولا مجال للانتظار. والاتحاد الوطني لم يؤسسه شخص أو شخصان، بل عدد هائل من قادة الحركة الوطنية والحركة النقابية والمقاومة وجيش التحرير، نذكر من بينهم، على سبيل المثال لا الحصر، المهدي بنبركة، عبد الرحيم بوعبيد، عبد الرحمان اليوسفي، الفقيه البصري، الحبيب الفرقاني، محمد منصور، سعيد بونعيلات، عبد الله إبراهيم، المحجوب بن الصديق، وغيرهم كثير. لذلك، يمكن القول بأن ميلاد هذا الحزب كان تعبيرا عن الحاجة إلى التعددية الحزبية الحقيقية وتكريسا لها. فقد عرف الحقل السياسي بدخول هذا الفاعل الجديد زخما سياسيا حقيقيا بفعل حضوره القوي في الساحة، نضاليا وتنظيميا. وسوف يبرز، بعد أشهر قليلة من تأسيسه، كقوة سياسية ومجتمعية حقيقية في أول انتخابات تنظم بعد الاستقلال (سنة 1960)، بحيث فاز بالغرف المهنية واحتل المرتبة الثانية بعد حزب الاستقلال في الانتخابات البلدية والقروية. وفي سنة 1963، سيشهد المغرب أول انتخابات برلمانية في ظل أول دستور طرح للاستفتاء سنة 1962. وقد عارض الاتحاد الوطني للقوات الشعبية مشروع هذا الدستور بشراسة وقاطع التصويت عليه (في حين صوت حزب الاستقلال لصالحه) لكونه يشرعن للحكم المطلق وليس للبناء الديمقراطي. وقد سماه بالدستور الممنوح. وبما أن الاستبداد لا يقبل إلا بالتعددية الشكلية، فقد تعرض الاتحاد الوطني/الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، عبر تاريخه، لشتى أنواع القمع والتنكيل بقيادييه وأطره بسبب مواقفه المناهضة للاستبداد ونضاله من أجل نظام ديمقراطي تسود فيه الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. وقد وصلت شراسة القمع إلى حد التصفية الجسدية، الفردية والجماعية (وتقارير هيئة الإنصاف والمصالحة خير شاهد على ذلك). ولإيمانه بأن الديمقراطية، كوسيلة وغاية، لا يمكن تحقيقها إلا بالمواطنين ومع المواطنين من خلال التمرن عليها وممارستها رغما عن ضيق الهامش المسموح به، فقد كان الاتحاد يشارك في الانتخابات بالرغم من معارضته ومقاطعته لكل دساتير ما قبل دستور 1996. ومشاركة الاتحاد في الانتخابات كانت تضفي على الساحة السياسية دينامية خاصة؛ مما دفع بالدولة الاستبدادية (دولة المخزن) إلى خلق أحزابها لمواجهة الأحزاب الحقيقية (الأحزاب الوطنية والديمقراطية)، ومنها أو في طليعتها الاتحاد الوطني/الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. ولتحجيم قوة هذه الأحزاب(وأساسا الاستقلال والاتحاد) والتحكم في الخارطة السياسية، بل وصناعتها، خاصة بعد أن برزت، في الانتخابات الجماعية لسنة 1960، كقوة حقيقية متجذرة في المجتمع، سوف تلجأ الدولة إلى خلق حزب إداري تمنح له، عن طريق التزوير المفضوح والمكشوف، الصدارة وقيادة المرحلة. وسوف تسير الدولة على هذا النهج بمناسبة كل محطة انتخابية، تقريبا. وهكذا أسس أحمد رضا كديرة، وزير الداخلية والفلاحة، حزب جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية، المعروف اختصارا بالفديك، ليتصدر نتائج أول انتخابات برلمانية يعرفها المغرب المستقل. وسوف لن يكمل البرلمان المنتخب ولايته؛ إذ سوف يعلن الملك الحسن الثاني حالة الاستثناء سنة 1965 عقب الأحداث الأليمة التي عرفتها الدارالبيضاء. سوف نقفز عن الأحداث السياسية التي عرفتها العشرية الممتدة من سنة 1965 إلى سنة1975، لننتقل مباشرة إلى ما سمي بالمسلسل الديمقراطي الذي انطلق مع الانتخابات الجماعية لسنة 1976 والتشريعية لسنة 1977، التي «فاز» بها المرشحون المستقلون. وبهؤلاء سوف يؤسس أحمد عصمان، رئيس الوزراء وصهر الملك الحسن الثاني، حزب التجمع الوطني للأحرار ليكون الحزب الأول في البلاد. وفي سنة 1983، أسس الوزير الأول، المعطي بوعبيد، حزب الاتحاد الدستوري الذي تصدر الانتخابات التشريعية لسنة 1984، على الطريقة التي «فاز» بها حزب كديرة وحزب عصمان. وفي سنة 1996، ولج المسرح السياسي فاعل جديد قادم إلى السياسة من الحقل الحركي والدعوي. وقد دخل هذا المجال تحت عباءة حزب من الأحزاب الإدارية المنتهية الصلاحية؛ ألا وهو حزب الحركة الشعبية الدستورية (المنشق عن حزب الحركة الشعبية) برئاسة الدكتور عبد الكريم الخطيب، رجل المخزن المعروف. وفي سنة 1998، أصبح الحزب يحمل اسم العدالة والتنمية. وقد تولى الدكتور الخطيب الأمانة العامة لهذا الحزب إلى عام 2004، ثم أسندت إليه رئاسته ورئاسة لجنة التحكيم فيه إلى غاية وفاته عام 2008. وفي نفس السنة (أي 2008)، أسس السيد فؤاد عالي الهمة، الوزير المنتدب في الداخلية سابقا والمستشار الملكي حاليا، حزب الأصالة والمعاصرة، بعد أن مهد له بأكبر عملية للترحال السياسي يعرفها المغرب. فقد استطاع أن يشكل أكبر فريق برلماني قبل تأسيس الحزب؛ وذلك بضم نواب خمسة أحزاب (التي ستشكل القاعدة الأساسية لحزبه في مؤتمره التأسيسي) إلى نواب لائحته التي «فازت»، في الانتخابات التشريعية لسنة 2007، بالمقاعد الثلاثة للدائرة الانتخابية التي ترشح بها (دائرة الرحامنة). لذاك، شبه البعض «البام» ب»الفديك» (أي حزب رضا كديرة، مستشار الحسن الثاني)، ناهيك عن تسميته بالوافد الجديد وحزب الدولة، الخ. وإذ أتمنى أن يكون آخر العنقود (أو آخر جيل) في سلالة الأحزاب الإدارية التي بواسطتها، شوهت الدولة الحقل الحزبي وميعت العمل السياسي، أشير إلى أن هذا الحزب أصبح، بالنسبة لي، مثله مثل باقي الأحزاب الإدارية الأخرى، بعد أن انسحب منه مؤسسه السيد عالي الهمة إثر مهاجمته من قبل حركة 20 فبراير سنة 2011. وقد سبق لي أن كتبت مقالا بهذا المعنى بعنوان «البام بدون الهمة: عودة إلى وضع ‘طبيعي'» (انظر جريدة «الاتحاد الاشتراكي» بتاريخ 8 يونيو 2011 ). بعد هذه اللمحة التاريخية الموجزة عن نشأة التعددية الحزبية ببلادنا، ما هو واقعنا الحالي؟ يتضح من نتائج آخر الانتخابات التي عرفها المغرب، أن أغلبية مقاعد البرلمان ال 395، فاز بها ثمانية أحزاب من بين أكثر من عشرين حزبا شاركت في الانتخابات. فقد حصلت الأحزاب الثمانية على 298 مقعد وبقي للأحزاب الأخرى سبعة مقاعد فقط، تقاسمتها أربعة أحزاب (3،2،1،1)، والأصح ستة. أما الباقي فقد خرج منها خاوي الوفاض. وبالاطلاع على لائحة الأحزاب الفائزة بأغلبية المقاعد، يتضح أن ثلاثة فقط هي التي لا تعاني من «خطيئة» النشأة(الاستقلال، الاتحاد، التقدم)؛ أي أن لها شرعية الولادة وشرعية الواقع أو الوجود. ونقصد بشرعية الولادة (أو الشرعية التاريخية) أي أنها لم تنشأ في أحضان السلطة (أي الدولة) ولم يكن ميلادها بقرار فوقي أو من شخص معين. أما الأحزاب الخمسة الأخرى (الحركة، التجمع، الدستوري، البيجيدي والبام)، فرغم أنها تتمتع «بشرعية» الواقع (أي أن لها حضورا انتخابيا وتشكل قوة تمثيلية)، فإنها تجر وراءها تهمة «خطيئة» النشأة (رغم ما يمكن أن يكون من فروق في طبيعة وحجم هذه الخطيئة بالنسبة لكل حزب)؛ أي أنها لم تنشأ بشكل طبيعي ولم تعتمد على ذاتها لبناء نفسها بعيدا عن تدخل جهة ما في الدولة. نحن لا نورد هذه المعطيات لننازع هذه الأحزاب حقها في الوجود أو لننتقص من الشرعية التي اكتسبتها من خلال وجودها الفعلي والانتخابي في الساحة السياسية أو الانتخابي فقط بالنسبة للبعض. لكننا لا نملك الحق، ونحن نتحدث عن الأحزاب ونشأتها وواقعها الحالي، في أن نقفز على الماضي ونكتفي فقط بالحاضر. فهذا سيكون تزويرا للتاريخ وطمسا للحقائق. نحن نفهم (ولا نتفهم) أسباب بعض المحاولات لتزييف الوقائع التاريخية ونفهم أسباب الحرب على الذاكرة السياسية التي يشنها البعض يحثا عن الشرعية على حساب التاريخ وعلى حساب قانون «الطبيعة السياسية»(انظر مقالنا بعنوان «من سمات الوضع السياسي الحالي ببلادنا: إعلان الحرب على الذاكرة السياسية بحثا عن الشرعية»، «الاتحاد الاشتراكي»، 15 نونبر 2011). لكن ما ذكرناه من معطيات ليس إلا جزءا بسيطا من التاريخ الذي تفاصيل بعض وقائعه تقشعر منها الأبدان. ولن تستطيع أية قوة أن تمحو هذا التاريخ، حتى وإن ضَمر في الذاكرة الحية للأجيال المتعاقبة؛ كما لن تستطيع كلمة «العريقة» المكتسبة من قبل بعض الأحزاب بحكم الأقدمية أن تمحو ظروف النشأة و»الخطيئة» اللصيقة بها. وإذا كانت الأحزاب الإدارية قد أُنشئت من أجل محاربة الأحزاب الوطنية الديمقراطية وزرع بذور تعددية حزبية صورية أو على المقاس، فإن تغير الظروف والأوضاع جعلت الأدوار تتغير أيضا. يتذكر جيل سبعينيات القرن الماضي كيف شجع المخزن الجماعات الإسلامية، خاصة على مستوى الجامعة، بهدف مواجهة المد اليساري المعتدل والراديكالي، على حد سواء. فقد كان أحمد العلوي، وزير الدولة، يجتمع بهم، خاصة في مدينة الدارالبيضاء، إلى وقت متأخر من الليل لترتيب طرق المواجهة. وقد تحولت تلك الجماعات إلى حركات دعوية قبل أن تتوحد (جزئيا، على الأقل) في حركة واحدة، هي حركة التوحيد والإصلاح التي فكرت في خوض غمار السياسة؛ وذلك بخلق ذراع سياسي تتحكم فيه من حيث التوجيه والتخطيط. ولتحقيق هذا المشروع، لم يجدوا أفضل من عباءة حزب رجل القصر، الدكتور الخطيب، كما بينا ذلك أعلاه. ونظرا لظروف النشأة وللمكونات البشرية للحزب، يمكن القول بأن حزب العدالة والتنمية قد سوي على مهل، بحيث لم يتم التفكير في تكوين الحزب إلا بعد أن تغلغلت الحركة الدعوية في المجتمع مستغلة في ذلك المؤسسات الدينية والعمل الإحساني ومستفيدة من غض الطرف على ذلك من قبل الدولة . لذلك، فالبيجيدي يختلف عن باقي الأحزاب الإدارية، رغم كونه ولد في أحضان رجال المخزن. وحين برز حزب العدالة والتنمية كقوة سياسية حقيقية تغلغلت في مؤسسات المجتمع باستغلالها للمرجعية الدينية وأصبحت تتطلع إلى الهيمنة على مؤسسات الدولة، اعتمادا على الشرعية الانتخابية، خرج للوجود حزب الأصالة والمعاصرة لمؤسسه فؤاد عالي الهمة، الوزير المنتدب السابق في الداخلية، الذي لم يخف الهدف من تأسيس هذا الحزب، ألا وهو محاربة حزب العدالة والتنمية. فالقاسم المشترك، إذن، بين أحزاب الدولة هو الوقوف في وجه كل قوة سياسية نجحت في التجدر في المجتمع، حتى وإن كانت هذه القوة السياسية من صنع الدولة نفسها. وهذا ما يفسر، في نظري المتواضع، الصراع المحتدم، حاليا، بين وجهي العملة الواحدة، حزبي العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة. وتصدر هذين الحزبين، وبفارق كبير، لنتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة يكرس القطبية المصطنعة ويطرح أكثر من سؤال حول التعددية الحزبية ومستقبل البناء الديمقراطي ببلادنا، خاصة وأن نزعة الهيمنة والتحكم هي التي تحرك التنظيمين معا. وعلى العموم، فالوضع الحالي، خلافا لما يبدو، ليس في صالح التعددية الحقيقية القائمة على الفرز المنهجي والوضوح الفكري والإيديولوجي؛ بل يكرس التعددية العددية ليس إلا. وهي تعددية زائفة تعيق التطور الديمقراطي بسبب مساهمتها في اغتيال القيم الديمقراطية الحقيقية وتعميم ثقافة اليأس والتيئيس، من جهة، وثقافة الريع السياسي (ثقافة «الهمزة») والانتهازية الفجة، من جهة أخرى.