تشعب البشر البدائيون (النياندرتال) والإنسان المعاصر من سلف مشترك منذ حوالي نصف مليون سنة. وقبل نحو 50 ألف سنة تعايش النوعان لينتشر الإنسان المعاصر فيما بعد انطلاقا من أفريقيا. تطور البشر البدائيون بجماجم كبيرة وصدور عارمة وأيد قوية، خاصة أولئك الذين عاشوا في المناخات الباردة في أوراسيا. أما في أفريقيا، فاكتسب الإنسان المعاصر وجوها قصيرة وذقونا بارزة وأطرافا نحيلة. وكان إرث التزاوج بين النوعين موضوع البحث العلمي في السنوات القليلة الماضية، إذ تصل نسبة الجينات (غير الإفريقية) اليوم إلى 4% من الإنسان البدائي أي الإنسان الأول. وهذا الأمر أثر في مجموعة متنوعة من الصفات، بما في ذلك إنتاج الكيراتين ومخاطر المرض والميل إلى العطس بعد تناول الشوكولا الداكنة. بحثت الدراسات في طبيعة هذا التحول وإلى أين انتقلت الأحماض النووية الأخرى التي كانت موجودة لدى الإنسان البدائي؟ وقد توصلت دراستان حديثتان إلى تفسير يشير إلى أن السبب كامن في الأحجام السكانية المختلفة بين البشر البدائيين والبشر المعاصرين، وهذا هو مبدأ علم الوراثة السكانية: في المجموعات الصغيرة، الاصطفاء الطبيعي هو أقل فعالية. قال غراهام كوب، أستاذ علم الوراثة في جامعة كاليفورنيا «ديفيس» وصاحب واحدة من الدراسات التي نشرت في PLOS Genetics: «امتلك البشر البدائيون عددا صغيرا من السكان على مدى مئات الآلاف من السنين، ويفترض أن يكون الأمر راجعا إلى أنهم كانوا يعيشون في ظروف صعبة للغاية». ونتيجة لذلك، كان البشر البدائيون أكثر طبيعية من البشر المعاصرين، وتراكم العديد والمزيد من الطفرات ذات الأثر السلبي بعض الشيء، مثل ازدياد خطر الإصابة بالأمراض، ولكن لم يمنع هذا الأمر من التكاثر وبالتالي انتقلت هذه الطفرات عبر الأجيال. وقال إيفان يوريتش، عالم الوراثة في 23andme الذي شارك في تأليف الدراسة: «بعد أن بدأ البشر البدائيون بالتزاوج مع البشر المعاصرين، بدأ الاصطفاء الطبيعي في مجموعات السكان الأكبر بتطهير هذه الطفرات». وفي عام 2014، وجدت مجموعة بقيادة ديفيد ريخ، أستاذ علم الوراثة في جامعة هارفارد، أن الحمض النووي لدى الإنسان البدائي يميل لأن يكون موجودا بعيدا جدا عن الجينات المهمة في الجينوم البشري. وهذا كان واحدا من الأدلة على أن الاصطفاء الطبيعي كان يعمل ضد الحمض النووي عند الإنسان البدائي. في ذلك الوقت، عزت مجموعة البحث بعض الحقائق لاحتمال وجود عقم عند الإنسان البدائي الهجين. لقد وجد الأستاذ إيفان والأستاذ كوب في دراستهما أن الاختلاف في حجم السكان يمكن أن يفسر هذا الأمر، حيث قاما بتحليل طول سلالة الجينوم البشري عند الإنسان البدائي، وكذلك تركيب نموذج رياضي للاصطفاء الطبيعي عليه، فوجدا أن وجود ضعف في الاصطفاء الطبيعي بسبب الاختلافات في حجم السكان بين الإنسان البدائي والمعاصر يمكن أن يشكل هذا التباعد بين الجينوم عند الإنسان البدائي والجينات الموجودة في الجينوم البشري المعاصر. أما الأستاذ ريخ فأوضح أن هذه الدراسات تروي قصة مقنعة، إذ إن تباعد الجينات لدى الإنسان البدائي عن الجينات الحالية يعتبر ظاهرة غريبة ورائعة، وقد وفرت هذه الدراسات تفسيرا مقبولا ومثيرا للاهتمام.