بين الشاعر والقاص حكاية حب غامضة وخصومات لا تنتهي، الأول يخلق الحلم، والثاني يفضحه، ميثاق غباء غريب لا يعترف بسطوة الواقع، مراثي أمكنة مهجورة وأدخنة حرائق تراقص شياطين اللعنة، وخارج الكلام، يعيشان الحياة بالكثير من الحب والقليل من الادعاء بعيدا عن حماقات الافتراض المدنس. وليس سرا أن القاص في صحوه الحكيم لا يعترف بشيطانة الإلهام، كل ما في الأمر، أقنعة المناسبات المصطنعة عاهرة و تلك الكلمات الحمقى متطاوسة تمجد ما تبقى من جسد باع روحه للمخبرين واستيهامات شيخ أفلته الموت وعاش يحترف الخيانة دون تأنيب ضمير . بعد العشي الحزين، لم تتوقف العناكب عن نسج شباكها المخادعة، العبور الآمن نحو دفء الليل المنشود في حكم المغامرة، والسقوط المميت في الهاوية شبه مؤكد، ومع قليل من التحوير الدال.. يتعملق الصمت و يصير الرحيل أصدق أنباء من الكتب . في أول الليل، تصير الشهقة غصة، خصام حول معنى البياض بسوق العدم، يكتم الصمت القاسي حروف البوح، يخنق شرارات الحنين، وسؤال النسيان في حكم اليقين.. أبدا .. لن تعود لليل شاعريته المفترضة حتى ولو انتهى بالعناق واشتهاء المستحيل . وعش العنكبوت لا يليق بشاعر أحصى نجوم الليلة و استراح ، وأضرحة الرخام المسروق مختبرات داعشية مستحدثة لدفن قصائد الأدعياء ومواليد العهر والغباء وما بالمخطوط غير آهات مغشوشة لموتى جدد ولائحة انتظار طويلة . يتجسس القاص على الواقع من سطح العمارة المهجورة، و في اليد رصاصات معدودات لإصابة الهدف بدقة و بلاغة، و الشاعر الأحمق يعيش متاهات الوجود في دوامة لا تهادن . و المجهول بالضرورة ، نصيب الشاعر من الليالي المضطربة بروفة مكرورة في ركْحٍ مزدحم بالخيبات وريح الفجر همسات شهقة تصاحب الفارس المزعوم لحلبة الادعاء.. وبأعجوبة، ينجو من طاحونة الارتزاق والانصياع والانحناء. يستغرب القاص من غياب المكان في حكاية الحياة ، الدروب متشابهة ، الإسفلت المغشوش موغل في السواد ، لهاث وحنين وألم ، و حتمية المرور لجزيرة الضياع أمر مشاع . يحلم الشاعر المنذور للشهادة بمحبوبته الظاهرة الخفية ، و القاص الجاهز للإدانة ينهض متثاقلا من فراش الحكاية، وهما معا غائبان دون اختيار ، أحدهما ينشر الفوضى في أوصال الجسد المشاع و الثاني يلعن النسيان ويعشق الغواية . يرحب الشاعر بالحضور البهي، يحضن عطر الأنوثة المفترض، يستعيد الشغف بالحياة، ترقص فراشات الربيع في حديقة الذاكرة المسكونة بنبض العناد و حتمية الاشتهاء، يرتاح البال ولا يسأل الأرجوحة المعطلة في حديقة العشاق حتى لا يعود القلب لتاريخ الخواء و صدى الحنين وصمت الأحلام. يتحاشى القاص الاقتراب من لحظة الوداع، يدرك بحسه اللعين أن الهدف قد أصابه في مقتل ، ينصاع لخدر الحكاية وغبائها المعهود ، يترفع عن وضع نقطة النهاية لمفاجآت اليومي الغامضة وسيل التأويلات، وهو ليس هنا، حضوره إحساس، غيابه فكرة، والحياة التي شُبِّهَتْ لهما شهقة ورعشة. يقول الشاعر لصاحبه : « انتبه .. الأفاعي في كل الاتجاهات ، و للدغة الأفعى مسار عشق غريب ، يبدأ بخدر لذيذ و نشوة نعومة خادعة وينتهي بارتخاءة أخيرة وقذف منوي لا علاقة له برعشة العشق و نبض الحياة ! «. يصرخ القاص عابسا في وجه الشاعر، يقول : « حياد جليدك مكروه و حروفك الباردة بأكفانها البيضاء تطفئ حرائق الروح والجسد و تمنع الفارس الأخير من اشتهاء الجرح الخالد «. و الحق يقال ، الشاعر و القاص وجهان لعملة واحدة ، يتعايشان في نفس الحيز ولا يلتقيان ، الأول يطاوع جنون الفكرة ، يصارع متاهات الكلام ، يسبح في بحر البوح المتلاطم الأمواج والفضح الغاضب ، والثاني يطارد جُرْح الفكرة ، يرصد أضغاث الأحلام ، يعاني من لغو التعابير الجاهزة الركيكة و يبقى عنيدا شقيا محاربا لحقارات الاستخبار المقيت والتوحش الشائع . ولا غرابة في الأمر، يسرق القاص من يوميته « العصرية ّ نعيقا بشعا و سربا من غربان السواد الموروث، يطوف بين القبائل، يتباهى بما يكتبه المريدون و المريدات، ودون حياء، بنبح و يُنَظِّر لمخاض الكتابة و الأساليب «الناجحة» المؤثرة في الحضور المصدوم. يعتزل الشاعر المجروح أقرانه و قريناته ، يصير مثل صبي أرعن يتبول على من يَحضنون شعره برشات متوالية من آلة تصوير غير ذكية ، يتدخل القاص الشبيه بمستشفى متنقل ، يستدعى الشعراء المتخاصمين ، يطرح موضوع الأحقاد التاريخية وعداوات الناس المقهورة ،يستضيف الجميع في حكاية صالحة للنشر ، يقول شهادته الواجبة و يستريح .