كانت الألوان تتحفز فوق اللوحة بروح نوتات مقاطع موسيقى الجاز، و كانت الموسيقى تطور إيقاعها بدرجة نمو اللون و جلائه في اللوحة التي تتشكل بحركات ريشة الفنان محمد نجاحي و تحت أنظار جمهور متنوع من المثقفين والفنانين والنقاد من الأجانب والمغاربة، في تلك الليلة الجميلة من ليالي خريف مراكش الحالم . الحدث هيأه فضاء « لوكليش» بالمقهى العربي في قلب مراكش العتيقة مساء السبت 15 أكتوبر 2016 ، حينما عمل الفنان التشكيلي محمد نجاحي و الموسيقي « شون فيفيد» على دعوة جمهورهما لمأدبة خاصة جدا، استوفت معاني البهجة والمتعة والتأمل، واستوقفت تدفق فني الموسيقى والتشكيل في لحظة تقاطعهما الذي استدام وجوده في ما فاض عن هذه اللحظة مستقرا في عمل فني سيسافر بعيدا عن تصدع الآن معلنا تألق الأثر الذي يُلغي محنة الزمن . كان الأمر يتعلق بحوار داخلي بين موسيقى الجاز والتشكيل ، وبالنسبة لمحمد نجاحي فهو أكثر من ذلك ، إنه ترجمة متبادلة لأسرار اللون والنغم ، حيث يمكن أن يعثر كل واحد منهما على لحظة عبوره من سحر حاسة إلى غواية أخرى ، من فتنة العين وشهوتها للألوان والأشكال والمساحات، إلى الأذن وتنفسها لأكسيجين الصوت و النغم .. كان شون فيفيد ينسق الألحان ونجاحي يحفز الألوان على البوح بطاقتها، التشكيلي يعزف باللون، والموسيقي يرسم بالنغم، وبينهما يتشكل عالم متفرد يتأبى على الاختزال في أي واحد من الاثنين. يحدث أن يتوقف محمد نجاحي ، يبتعد عن اللوحة، ينصت عميقا للألحان التي تتدفق حوله، ينظر مليا فيما يخصب اللوحة من أصوات و نوتات .. الصوت حامل الروح، زاد اللون و هو يلتهم أسرار اللوحة. والجمهور يتابع بحرقة المبتلي تدرج اللون والنغم، يشهد ولادة لوحة تقول: هذه أسراري، كلامي ألوان وأحوالي أنغام.. بالنسبة لمحمد نجاحي الأهم في هذه اللحظة، هو أنه لا قطيعة بين الفنون، أن التجاور بينها دعاية كاذبة، وأن الأصل هو الاستمرارية والتفاعل. ذلك هو المفصل الحاسم لالتقاط لحظات التحول المنتج في قلب الثقافة ، لأن الأمر يهم في عمقه الإمساك بروح المرحلة ، والإلحاق بالصيرورة الكونية للأشياء ، وبالتموقع في انثناءات اللاتناهي التي تفضي إلى ظهور مفاجئ ومدهش للمتناهي ، الذي تتهيأ له سياقات انبثاقه من خلال هذه التقاطعات بين مختلف الفنون . يقول نجاحي : هناك شيء ما يحدث بيننا ، وتحت أنظارنا ، ومع ذلك لا نراه ، يكثف مآزق اللحظة التي نحيا ، ويحفز انتظاراتها ويكثف توقعاتها ، وحدها الفنون بمختلف تعبيراتها قادرة على التقاطه ، وعندما نتمكن من فتح الحوار اللازم بينها نحصل على ما يمكن أن نسميه روح المرحلة ، التي تتوقف فقط عند حدود استدعاء المعنى الغامض الذي لا يظهر إلا في شكل إحساس مبهم من المخاوف والرعب ، لكن بتجاوزه إلى مستوى استشراف الآتي . فكما قال ريجيس دوبريه إذا أردت أن تعرف ما الذي سيقع بعد عشر سنين أو أكثر فانظر جيدا إلى ما ينسج حولك من فنون . يأسف الفنان محمد نجاحي لكون فرص هذا الحوار بين الفنون، الحوار الذي يجري بلغتها الخاصة وليس عبر وساطة اللسان ، جد نادرة في سياقنا المغربي . ويعتبر أن العمل بنوافذ مشرعة على مختلف التعبيرات الفنية يدفع الثقافة إلى حدودها القصوى ، ويقوي حس المغامرة فيها ، ويبعث فيها روح التجدد الأصيل . لأن الأثر الذي تستطيع الموسيقى أو التشكيل أو الفلسفة انتزاعه من تمزق الزمن و انمحاء الآن ، يعثر على أفق اكتماله كتجربة تناقض في جوهرها مفهوم الاكتمال، على ضفاف هذه الفنون وحواف هذه التعبيرات ليتحول الجدار الخارجي لهذا الفن هو عين حميمية فن آخر . لوحة محمد نجاحي في تلك الليلة كانت حركة مستمرة من التغير، سيولات تنفتح على أخرى تقوي بعضها أو تستنفذها ، لأن كل تغير معاناة وفرح ، ليذكرنا بحكمة جيل دولوز « كل مدخل جيد ، مادامت المخارج متعددة «. البريطانية سارة كوربيت مسيرة فضاء « لوكليش» محتضن هذا الحدث ، قالت « محمد نجاحي أدهشني عندما زرته لأول مرة في مرسمه بسوق الصباغين ، وجدت أعماله غنية و قوية ، يمكن أن ننصت فيها بوضوح لأصوات مراكش وسحرها وغموضها ، حينها قررت أنني عندما سأنظم معرضا فنيا سيكون أول فنان سأدعوه هو نجاحي .. فكان ذلك .. محمد نجاحي تشكيلي كبير برؤية فكرية وعميقة، فهو يرسم و يفكر فيما يقوم به، له عين نهمة لا تتوقف عن تأمل ألوان الحياة و أشكال العالم ومساحاتها، يعرف جيدا كيف يفتح مختلف حواسه على ما يدور حوله من شغب الناس وتدفق رغباتهم.. إنه طاقة لا تُقهر». يعتبر محمد نجاحي، أن مغامرة هذه الليلة مجرد بداية لمشروع طويل ستدمج فيها تعبيرات موسيقية أخرى، حيث يكون سرها الأكبر أن هناك عملية خلق متوازية تتم في نفس الآن بين نمطين فنيين بمشاركة عين جمهور يتغير ويتطور بتطور العمل الذي يُنجز.