تندرج فصول كتاب «مأوى الغريب»( ) لمؤلفه الأستاذ حسن بحراوي في موضوع رئيس يتعلق بشعرية الترجمة، بوصفها دراسة للوقائع العبرنصّية، أي لما يجعل النصوص المترجمة تدخل في علاقات متنوّعة مع نصوص أخرى أو مع مقولات عامّة تحدّد ظروف وصيغ الإبداع الأدبي. وتسعى هذه الشعرية إلى الإلمام بالمظهر الدينامي للترجمة الذي تمتحه من تاريخ ممارستها عمليًا وتنظيريًا، على منوال شعرية النصّ الأدبي التي تستمدّ مقوّماتها من التحليل الداخلي للخطاب الأدبي. لتحقيق هذه الغاية سعى الباحث حسن بحراوي إلى مواجهة أنواع من الخطابات حول الترجمة «مستمدّة من التجربة المباشرة مع النصوص إبّان ترجمتها أو في أعقاب ذلك، وأخرى مستجلبة من خارج الممارسة وتقوم على افتراضات لغوية وفلسفية ودينية ينتجها المشتغلون بتلك المجالات مثل مؤرخي ومنظري الترجمة وعلماء اللغة والفلاسفة ورجال الدين.. إلخ»( )، وذلك محاولة منه لإعداد نظرية داخلية للترجمة يتمّ خلالها تحديد مظهرها الدينامي بما هي ممارسة خطابية من طراز خاصّ. وهنا يعالج الكتاب إشكالات متراكبة صاغ بعضها الباحث في أسئلة تطرحها شعرية الترجمة على نفسها وهي: ما هي الترجمة؟ ثم ما هي الأدوات المقترحة لوصف ظاهرة الترجمة وتمييز مستوياتها والاقتراب من كيانها وتعيين العلاقات التي تتغذى عليها باعتبارها مجالا منتجاً للعديد من التقاطعات والتوليفات والتحوّلات؟ وذلك سعيًا منه إلى استهداف مكان لتطوير التأمل النظري في خطاب الترجمة بوصفه «ممارسة نوعية تستقطب مجموعة من المقولات أو الأفكار الأولية التي ميزتها الأساسية أنها تستحضر المادة الترجمية في تنوّعها وتستوعبها في وحدتها، وتقوم بإدماج الجزئي الخاصّ في الكلّي العامّ، وتركّز اهتمامها على الواقعي المتحقق للوصول إلى المحتمل والممكن الوجود»( )، ممّا يعني أن المؤلف اهتمّ في هذا الكتاب بالتحقّقات النصّية للترجمة ، أي بإنجازاتها الملموسة ومظاهرها الإجرائية، على أنه لم يكتف بمراكمة الملاحظات، بل عمل قدر المستطاع على تشكيل نسق أو أنساق من العناصر الداخلية والخارجية، الثابتة والمتحوّلة، التي تجعل من الترجمة عملية ممكنة وقابلة للإنجاز. وبما أنه من طبيعة الممارسة الترجمية أن تعمل على صهر المستوى النظري والمستوى التحليلي في بوثقة واحدة بحيث يتوارى ضمنها المجرّد خلف المشخّص أو العكس، فإن استلهام الشعرية سيدفع الباحث ليس إلى دراسة الترجمة في ذاتها، بل إلى الاقتراب من كلّ ما يجعل الترجمة ترجمة، الأمر الذي سيطرح مجموعة من الأسئلة «تبدأ من تناول مظاهر الترجمة اللغوية والأسلوبية إلى ملامسة أفق انتظار قارئها، مروراً بكلّ تلك التصوّرات الأدواتية المتعلّقة بالكفاءة والإنجاز، وصولا إلى مساءلة الكيانات الدلالية والجمالية المتخلّلة لها والأنساق المحيطة بها»( ). وعليه فإن الكتاب يتناول نوعاً من المقاربة الدينامية للترجمة التي تأخذ نفسها بما هي «تأريخ للنظريات» ينطلق من المنجز المتحقّق، أي من النصوص والتنظيرات ومسارها التطوّري، ويحكمها طموح تجسير العلاقة بين ما هو نظري وما هو تطبيقي من منطلق وحدة الموضوع: الترجمة. أمّا على الصعيد الإجرائي فيهدف صاحب الكتاب إلى إقامة نوع من الحوار أو الحوارية بين مختلف الفاعلين في حقل الترجمة عن طريق وصف أعمالهم وتشخيص منجزاتهم، وبين المنظرين للترجمة بحصر المعنى، عبر تأمّل مرجعياتهم الثقافية والتاريخية والسوسيولوجية، وبيان القيمة المضافة التي ترفد بها التحليل وتدعم مصداقيته. وبناءً على كون شعرية الترجمة تقوم على تأمّل المنجز الترجمي، نصّيًا ونظريًّا، واستخلاص المقولات العامّة التي يكون البحث أوصل إليها في أفق إعداد نظرية للممارسة، فقد اقترح المؤلّف ثلاثة مداخل لفهم الترجمة، وزّعها على ثلاثة فصول، حيث يضئ كل مدخل قطاعاً معيّناً من المجالات التي ترتادها الترجمة، ويخبر عن مظهر دياكروني أو سانكروني من مظاهرها المتّسمة بالتعدّد والتنوّع. وهذه المداخل هي على التوالي: المدخل النظري والمدخل التحليلي والمدخل الأخلاقي، وقد أرجع المؤلّف اختياره لها لعدّة أسباب ومن أجل تحقيق أهداف معيّنة تناول المؤلّف البعض منها كما يلي: فأمّا بالنسبة للمدخل النظري فيرجع إيراده إلى سببين على الأقلّ: الأوّل ذاتي هو كون الترجمة نشاطاً ذهنيًا عريقاً مارسه الإنسان منذ القديم ومازال يمارسه من أجل خلق الحوار وتحقيق التقارب بين اللغات والثقافات والحضارات المختلفة. والسبب الثاني موضوعي يحقّق الرغبة في التعرّف على قيمة الترجمة وإشكالاتها وأبعادها ومنظوراً إليها كممارسة نصّية تجريبية تقوم على خلفية إيبستمولوجية وإديولوجية على هذا القدر أو ذاك من الوضوح أو العمق. ويهدف المدخل التحليلي إلى استكمال الإحاطة بمجمل الأنظمة التي تؤسّس لممارسة المترجم وتفسّر اختياراته اللغوية والأدبية، وقد استطاع المؤلّف من خلال الكشف عن عدّة قضايا مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بموضوع الترجمة مثل النزعة الحرفية وظاهرة «الجميلات الخائنات»، والترجمة بالوساطة والعلائق التي تربط الترجمة بالأجناس الأدبية، والترجمة واللسانيات، والترجمة والتلقي، والترجمة والنقد، وحدود الترجمة والإبداع...إلخ، أن يقف على نوعية المرجعيات والتصوّرات التي أخذ بها المترجمون أو تحكّمت في ممارستهم بوعي أو بدونه، وأن يسجّل ملاحظات بصدد الاستعمالات والأساليب التي اجترحوها، وفي نفس الوقت يستخلص الرؤية الأدواتية والمفاهيمية التي كانت مدخلهم إلى فضاء الترجمة باعتباره مكاناً للاختلاف والحوار والإقامة المتجدّدة. أمّا المدخل الأخلاقي فيُعنى بتأمّل تلك العلاقة التي من المفترض أن تقوم بين الأصل والترجمة وتحديد المكانة التي تشغلها هذه الأخيرة ضمن جدلية الاتصال بين اللغات، وفي هذا السياق تناول المؤلّف عدّة قضايا مرتبطة بالوظيفة الأخلاقية للترجمة من قبيل طرح مفاهيم رائجة في تنظيرات علماء الترجمة كمفهومي الأمانة والخيانة، وفحص علاقة الترجمة بالمقدّس الديني ممثلا في المجادلات التي تمحورت حول ترجمات الأناجيل والقرآن الكريم والاقتضاءات التي ترتّبت عنها، وعلاقة الترجمة بالسلطات السياسية وما يدخل مدخلها وخاصة من ناحية توجيهها لطرائق الترجمة وتحكّمها في أهدافها المنظورة والمضمرة.. وغير ذلك كثير ممّا يتضمّن رؤية أخلاقية من أيّ نوع كانت. هكذا سعى المؤلّف من خلال هذه المحاور الثلاثة للترجمة إلى تطوير نوع من التفكير حول قضايا الترجمة في سياق نظرية شعرية تتداخل فيها العناصر الإبستيمولوجية والتحليلية والأخلاقية، وذلك على نحو تضامني تبرز من خلاله الخصائص الجوهرية لهذا النشاط الكوني باعتباره نسقاً تواصلياً وممارسة عبرنصّية. (1) حسن بحراوي: مأوى الغريب، دراسات في شعرية الترجمة، دار الغرب للنشر والتوزيع، الجزائر، 2013. وطبعة ثانية بالمركز القومي للترجمة بالقاهرة.2016. (نفسه، ص. 9 ) (نفسه، ص. 10) (نفسه، ص. 11)