أصدرت «حلقة أصدقاء باهي»، تحت إشراف عباس بودرقة، الأعمال الكاملة للفقيد محمد باهي: «رسالة باريس: يموت الحالم ولا يموت الحلم»، ويضم الكتاب، الذي تم تقديمه بمناسبة الذكرى العشرين لوفاته، خمسة كتب استعرض خلالها المؤلف شهادته على العصر، وقدم لنا تحاليل غاية في الموسوعية.. في ما يلي نختار لقراء «الاتحاد الاشتراكي» أوراقا من ذاكرة محمد باهي، لنستعيد تلك الثقافة السياسية التي كانت يتمتع بها واحد من صانعي السياسة في بلادنا، وواحد من الذين تحصلت لديهم الخبرة والذكاء، واستطاعوا أن يقدموا لنا قراءة في قضية الصحراء، وفي امتداداتها وتعقيداتها والمساهمين الفعليين في ذلك.. لقد شاهدوا السيارة-الصهريج وانطلقوا يُذيعون نبأ وصولها إلى مقر المسؤول الرسمي. وانطلق في إثرهم الآباء والأمهات وتطورت الأمور إلى مواجهة عنيفة، وتدخلت الشرطة لتهدئة الموقف. وقد كشف هذه الحادثة وزير الداخلية، الهادي الخضيري، الذي سوف يلاحظ الصحفيون ظهوره واختفاءه، ودوره المتميز في الأحداث الأخيرة. ومن مفارقات السياسة أن إعلان حالة الطوارئ وحظر التجول، في النصف الأول من الشهر الجاري، رافقه إطلاق مفاجئ للمياه في كل حنفيات العاصمة. لقد كان الناس قبل الإنتفاضة الأخيرة يسهرون الليل كله في انتظار الإستماع إلى خرير سريان المياه في الأنابيب ليبادروا إلى استعمالها. وكانت الثمرة الأولى لخريف الغضب الجزائري أن أصبح بإمكان سكان العاصمة في أي لحظة من ساعات الليل والنهار أن يفتحوا حنفياتهم ليستمتعوا ببرودة وعذوبة ذلك السائل السحري : الماء... الماء أصبح بقدرة قادر متوفرا لكل الأحياء في كل الأوقات، بعد أن كان محصورا على بعض الأحياء في ساعات محددة من الليل. فما الذي حدث بالضبط؟ لا أحد يعرف. ولكن بعض المتهكمين والساخرين من أبناء العاصمة يقولون الآن، في لهجة لا تخلو من روح الفكاهة السوداء : «لم نكن نعرف أن إراقة الدماء باتت ضرورية للحصول على الماء. وما دمنا عرفنا السر الآن، فسوف نتصرف على ضوء ذلك في المستقبل». وخلال مظاهرات العاصمة سمع الصحفيون تعليقات ساخرة على مشكلة المياه من جملتها واحد يقول : «الشاذلي بن جديد لا يستطيع إنزال الماء من السماء». ومع الماء ظهرت الفواكه والخضر، ودبت مع ظهورها الحياة في الأسواق. وتحضرني الآن حكايتان كان يرددهما الأصدقاء الجزائريون أمامي في باريس، منذ سنوات دون أن أعيرهما أي انتباه. الحكاية الأولى هي قصة الباخرة التي كانت تنقل البطاطس من ميناء مرسيليا إلى الجزائر العاصمة، ثم أصبحت تنقلها من تلك المدينة الفرنسية إلى وهران. لقد كانت تلك الباخرة التابعة للدولة تنقل أطنانا من البطاطس من فرنسا إلى الموانئ الجزائرية، وكانت أخبار تنقلاتها بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط معروفة، وكانت مواعيد وصولها إلى الموانئ معروفة بل كانت الكميات والنوعيات التي تحملها من البطاطس معروفة. ومع ذلك فقد كان سكان العاصمة، رغم معرفتهم بوصول «البضاعة» لا يجدون لها أثرا في السوق، وكان سكان وهران مثلهم أيضا. وكان أهل الجزائر العاصمة يقولون إن بطاطس مرسيليا ذهبت إلى أهل وهران، وكان أهل وهران يقولون العكس. وبما أن هذا التفسير لم يكن مقنعا تماما، فقد راحت في المدينتين شائعة تقول بأن البطاطس الفرنسية تتعفن بسرعة فيضطر البحارة لإلقائها في البحر، ثم تعود الباخرة تستأنف رحلة الذهاب والإياب بين الشواطئ الجزائرية والشواطئ الفرنسية وتعلن الصحافة والإذاعة في أكثر من مرة، على الملأ أن كميات هائلة من البطاطس وصلت إلى الأسواق فيتدفق المستهلكون على المحلات والمخازن التجارية ولا يجدون أي أثر لتلك المادة. وقد وصلت مسألة البطاطس التي تنقل من مرسيليا إلى الجزائرووهران وتعلن عنها الصحافة الرسمية ولا يجدها المواطنون، وصلت إلى مسامع الرئيس الشاذلي بن جديد الذي عقد اجتماعا مشتركا طارئا للمكتب السياسي والحكومة وقيادة الجيش والدرك والشرطة لدراسة المسألة وانتهى الإجتماع بتكوين لجنة من العلماء للبحث في سر اختفاء البطاطس. وانقسمت اللجنة العلمية بدورها إلى عدة لجان فرعية : لجان تسافر في الباخرة من الجزائر إلى مرسيليا، وتراقب عملية الشراء والتعليب والشحن، ولجنة تسافر من وهران إلى مرسيليا لنفس الغرض، ولجنة تراقب اللجنتين، ولجنة تراقب عودتهما بكامل أعضائهما إلى المدينتين الجزائريتين، ولجنة تسافر على باخرة حربية لمراقبة السفينة التجارية وللتأكد من أنها لا تبيع البضاعة للمهربين في عرض البحار. وقد قدمت اللجنة تقريرا أولا باحتياجاتها أوصت فيه بأشياء كثيرة من جملتها ضرورة استئجار غواصات لتعقب الباخرة التجارية تحت الماء حتى إذا انكشفت عملية البيع المفترضة لاحقت الغواصة الباخرة المشترية لمعرفة البلد الذي تنتمي إليه. وهناك مقترحات أخرى كثيرة وطريفة يضيق المجال عن الاسترسال في سردها. والمهم أن اللجان الفرعية قدمت تقاريرها إلى اللجنة-الأصل-الأم، دون أن تصل إلى اتفاق مقنع حول الأسباب الحقيقية لاختفاء البطاطس، وحول أماكن اختفائها. الشيء الوحيد الذي أفسحت كل التحريات إليه وأوردت براهين قاطعة على صحته، هو أن الباخرة كانت تبحر من مرسيليا وهي مشحونة بالبطاطس. أما ما يحدث بعد ذلك، فقد تضاربت الآراء حوله، لكن هناك رأيا أو اجتهادا غالبا زعم أن هذه البطاطس تحولت إلى ذهب. ربما لأن البطاطس، صارت أغلى من الذهب في السنوات الماضية بالجزائر، أو ربما لأن الذين كانوا يصادرونها ويخبئونها جمعوا من المتاجرة بها في السوق السوداء أرباحا طائلة اشتروا بها ذهبا. أما الحكاية الثانية فتتعلق بالموز، وهي أقل تعقيدا من الأولى. والحكاية تصاغ في روايات مختلفة من حيث الشكل ولكن جوهرها واحد وهي أن سيدة جزائرية انتهزت سفرها إلى الخارج وعادت لأطفالها بكميات من فاكهة الموز، فأكلوها بقشورها وتلذذوا بطعمها. وقد أكلوها بقشورها لأنهم كانوا يشاهدونها لأول مرة. الطابع الكاريكاتوري، الإنتقادي الساخر واضح، في هاتين الحكايتين، وهو نوع من التنفيس الذي يمارسه المجتمع ضد متاعب الحياة اليومية، نعثر على نماذج مشابهة له بل أكثر شراسة وتهكمية منه في كل الأقطار العربية. وهذا النقد اللاذع، العنيف للدولة وبيروقراطيتها يترجم الحالة النفسية والإجتماعية الكاملة في خلفية خريف الغضب الجزائري. النتائج الأولى لخريف الغضب تنحصر إحصائيا في حوالي مئتي قتيل حسب الأوساط الرسمية وخمسمئة قتيل وفقا للأوساط الطبية وأكثر من ألفي شهيد إذا صدقنا روايات المعارضة الجزائرية. وتتجسد اقتصاديا في ملايين إن لم نقل ملايير الدراهم التي تبددت بسبب عشرة أيام من العطلة الإجبارية، والإضطرابات والتظاهرات، ثم في المبالغ المالية الهائلة التي لابد من إنفاقها لإصلاح ما تهدم من وزارات وإدارات وشركات ومؤسسات ومراكز تابعة للحزب أو الشرطة أو البلديات. أما من الناحية السياسية، فقد أدى خريف الغضب الجزائري إلى وقوع قطيعة عميقة، تحدث لأول مرة في التاريخ. إنها قطيعة متعددة الأوجه والأبعاد، قطيعة أفقية وعمودية : هي قطيعة أفقية بين فئات الشعب الفتية ونخبه من جهة، وبين الحزب والدولة والجيش من جهة ثانية. وهي قطيعة عمودية داخل الأجهزة الرسمية بين أنصار الرئيس الشاذلي بن جديد وخصومه. وهذه القطيعة، فتحت الأبواب على مصاريعها أمام احتمالات سياسية كثيرة، ما يزال الوقت مبكرا لتناولها واستخلاص ملامح المستقبل القريب أو المتوسط، عدا عن البعيد، من خلالها. وعلى الرغم من أن الشاذلي بن جديد قد أنهى حالة الطوارئ، ووضع حدا لحظر التجول ثم أعلن عن مشروع استفتاء يجري يوم الثالث من نوفمبر المقبل، لإدخال تغيير على الدستور تصبح بموجبه الحكومة المعينة من طرف رئيس الدولة، مسؤولة أمام المجلس الوطني، رغم ذلك كله فإن دوي الرصاص ما يزال يرن في المسامع، وما تزال العقول غير مهيأة لنقاش سياسي حقيقي هادئ. حقا إن الكثيرين، من المسؤولين الرسميين، ناهيك عن المعارضين، من إسلاميين، ولائكيين، ومثقفين، متفقون على أن تغييرات سياسية جوهرية لابد من حصولها. ولكن أوساطا نافذة موجودة في مفاصل السلطة، داخل الحزب والجيش والإدارة والقطاع العام، ما تزال تَنْفَر من التغيير وتخشاه بل هي ما تزال قادرة على تعطيله. ثم إن البلد لم يخرج بعد من فترة تضميد الجراح. بعض العائلات كانت حتى نهاية الأسبوع الماضي تتجمع أمام المستشفيات والمصحات والمراكز الطبية، المدنية والعسكرية، مطالبة بموتاها لدفنهم، سائلة عن الجرحى لمعرفة حالتهم أو باحثة عن المفقودين للتأكد من أماكنهم وقبل صدور قرار إلغاء حالة الطوارئ. يوم الأربعاء الماضي، كانت القيادة العسكرية، المكلفة بالسهر على حالة الإستثناء وتطبيقها، أصدرت أوامرها بعدم تسليم جثث الموتى إلى ذويهم. وقد أُعطيت تفسيرات عديدة لقرار منع الدفن، أقربها إلى الصواب تفسيران يؤكد أحدهما أن هويات الضحايا الذين كُدِّسوا بالعشرات، في الغرف الباردة للمشرحة، لم تكن قد أُفرزت وتم التعرف عليها بدقة، خاصة وأن الكثير منها لحقه التشويه، وتفسير ثان يؤكد أن القيادة العسكرية كانت تخشى من اندلاع مظاهرات تلقائية قد تنفجر في أكثر من حي شعبي بمناسبة تنظيم الصلوات على الموتى.