يتحدث كثيرون اليوم عن نهاية «الدولة الوطنية» أو الدولة القومية، مع نمو العولمة الرأسمالية وتقدمها؛ ولكن لم يتحدث أحد بعد ماركس ومن نسبوا أنفسهم إلى الماركسية عن نهاية الدولة السياسية ونهاية المجتمع المدني معاً، بل إن ماركس تحدث عن نهاية الدولة السياسية، الليبرالية، أو انتفائها جدلياً، بما هي شكل غير مطابق لمضمونه، أي قبل أن تفصح الدولة عن مضمونها إلا في الصيغة البورجوازية، في مرحلة التراكم الأولي لرأس المال، وعارضها بالدولة الديمقراطية، الدولة المادية التي هي وحدة الشكل والمضمون، أي وحدة المجتمع والدولة. ولم يقل أحد بعد ما هي الدولة التي ستنجم عن تعمق العولمة، وما مصير الدول التي تتآكل سيادتها باطراد في البلدان المتأخرة. وسؤال الدولة هو نفسه سؤال المجتمع المدني. والقانون، بصفته العامة والمجردة، وبما هو إنشاء عقلي، هو ماهية الدولة؛ لذلك، فإن تجربة الدولة لا تغني عن نظرية الدولة التي تعيد بناء العلاقة بين الحرية الذاتية والقانون الموضوعي، بين الشعور الذي يقيم الحق على الاقتناع الذاتي والعقل الذي يقيمه على الحقائق الواقعية والعلاقات الموضوعية وعلى فكرة القانون العام. ومن ثم فإن وعي فكرة الدولة هو المقدمة الضرورية لعقلنة السياسة. ومن دون ذلك يغدو المجال مفتوحاً لسيل من الادعاءات والمزاعم حول هذا الموضوع، ويعد كل نائم نفسه من الأصفياء الذين وهبوا المعرفة وهم نيام؛ فترد جميع الأفكار والموضوعات إلى مستوى واحد ويسوَّى بينها جميعاً «على نحو ما ألغى الاستبداد في الإمبراطورية الرومانية التفرقة بين الأحرار والعبيد وبين الفضيلة والرذيلة وبين الشرف والعار وبين العلم والجهل، وكانت نتيجة هذه التسوية وهذا التسطيح أن أصبحت التصورات عما هو حق وكذلك عن قوانين الأخلاق لا تعدو مجرد آراء واقتناعات ذاتية؛ وعلى هذا النحو يصبح لأسوأ المبادئ الإجرامية، ما دامت هي الأخرى اقتناعات، نفس قيمة القوانين»[8]، وهذا تابع لتقسيمها العالم عالمين: عالم الرومان وعالم البرابرة، المبدأ الأخلاقي هو ذاته في الحالين، أعني بناء الأحكام على الاقتناع الذاتي. والاستبداد في كل زمان ومكان هو بناء الأحكام على الاقتناع الذاتي؛ يكفي أن يقتنع المستبد أن الآخرين برابرة أو أعاجم ليكونوا كذلك، وليعاملوا على أنهم كذلك. ويكفي أن يقتنع المستبد اليوم أن الذين لا يوالونه خونة وعملاء ومأجورون ليكونوا كذلك وليعاملوا على أنهم كذلك. وعلى أساس الاقتناع الذاتي كان المستبد، ولا يزال، يختار شعبه من الأصفياء والموالين والتابعين، ويساوي بينهم جميعاً على أنهم لا شيء، فهو من يعطي ويمنع ويخفض ويرفع ويقرب ويقصي، ويقال له: ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار، ولا تعوزنا الأمثلة. إذا صح أنه ليس لدينا سوى أدلوجة وآراء وتصورات ذاتية عن الدولة يصح القول أنه ليس لدينا سوى أدلوجة وآراء وتصورات ذاتية عن السياسة؛ لأن السياسة في أحد أهم معانيها هي العلم الذي يهتم بدراسة الدولة، فضلاً عن كونها علاقات موضوعية. السياسية عندنا أدلوجة قوامها أفكار وتصورات مسبقة وثابتة عن الأمة والدولة القومية أو الإسلامية أو الاشتراكية وشعارات وأهداف ذاتية تمتح من تلك الأفكار والتصورات، وتستمد مشروعيتها منها، لا من الواقع الذي ترفضه رفضاً مطلقاً أو تشيح عنه، وليست مشاركة إيجابية في الحياة المدنية. وإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك كما أدعي، فلا بد من معارضة هذه الآراء والتصورات الذاتية التي تنظر إلى الواقع بمنظار حكمة أعلى، بالفكر النظري النقدي الذي وظيفته اكتشاف العناصر العقلية في الواقع المعطى وفي تجارب الأمم المتقدمة، ومبدأ الفكر النظري هو التزام الحقيقة. إن «ما هو عقلي متحقق بالفعل، وما هو متحقق بالفعل عقلي عند هذا الاقتناع، يقول هيغل، يلتقي الإنسان البسيط والفيلسوف، ومنه تبدأ الفلسفة دراستها لعالم الروح ولعالم الطبيعة على حد سواء. ولو كان التفكير أو العاطفة أو أية صورة شئت من صور الوعي الذاتي تنظر إلى الحاضر على أنه شيء باطل وتسعى إلى تجاوزه بمنظار حكمة أعلى من حكمة العقل ذاته فإنها تجد نفسها في فراغ، ولأنها لا تكون موجودة بالفعل إلا في الحاضر فحسب، فإنها هي نفسها مجرد عبث باطل[9]. وهكذا جميع الأيديولوجيات التي سادت عندنا منذ أكثر من نصف قرن لم تكن سوى عبث باطل، وكذلك السياسات التي استندت إليها أو اشتقت منها. وليس مصادفة أن تعود بلادنا إلى أوضاع شبيهة بأوضاعها أواخر العصر العثماني، أي إلى أوضاع تجعلها قابلة للفوضى والاندفاعات الغريزية وحرب الجميع على الجميع وقابلة للاستعمار. كلمة السياسة مشتقة في اليونانية من Polis المدينة/الدولة، والسياسة لم تكن تدرك عندهم إلا على أنها الحياة في المدينة/الدولة، وجملة من الحقوق والمسؤوليات والالتزامات يضطلع بها المواطن الحر الذي هو أساس الدولة. وصارت السياسة في الأزمنة الحديثة تحيل على ما هو عام ومشترك بين جميع مواطني الدولة وجميع طبقاتها وفئاتها الاجتماعية، أي على العلاقات الموضوعية التي تربط بين الأفراد، وبين الفئات والطبقات الاجتماعية، في الدولة المعنية، وعلى العلاقات الموضوعية التي تربط بين مختلف الأمم والشعوب والدول. ويذهب بعضهم إلى أن علم السياسة أدنى إلى علم السلطة منه إلى علم الدولة، إذ مفهوم السلطة أقدم وأوسع نطاقاً من مفهوم الدولة، إلا أنني أميل إلى تعريف السياسة عندنا بأنها علم الدولة انطلاقاً من رؤية فكرية وأخلاقية ترتكز على مفهوم العمومية أو الجمهورية التي تتجلى في وحدة القانون وعموميته، والقانون هو روح الشعب وماهية الدولة. الدولة كائن عقلي في ذاته، وكائن أخلاقي، هو مرآة أخلاقنا الذاتية والموضوعية، في المستوى الذي لا نستطيع معه فصل الذات عن الموضوع، فمن دون موضوع ليس هنالك ذات، ومن دون موضوعية ليس هنالك ذاتية. السياسة بما هي علم الدولة مسعى دائم لفهم الدولة، بما هي تجريد للعمومية، أي لفهم العلاقات الموضوعية التي أشرت إليها ومفهمتها؛ وقد تكون بعيدة عن مطلب بناء الدولة على النحو الذي ينبغي أن تكون عليه هذه الأخيرة، لأنها في هذا المجال المخصوص لا تبين إلا الكيفية التي ينبغي أن تفهم بها الدولة بوصفها كائناً سياسياً وعالماً أخلاقياً. وقد يستهجن كثيرون عندنا فكرة أن تكون الدولة عالماً أخلاقياً، لأن السياسة قد انفصلت عن الأخلاق، ولأنه ليس من معنى عندنا للأخلاق إلا في دائرة الذاتية التي أصابها ما أصابها من تراخ في المعايير. أما الأخلاق الموضوعية التي تتجلى في بنى المجتمع وتنظيماته وعلاقاته، وتتجلى أكثر ما تتجلى في ماهية الدولة ومبدئها ووظائفها وآليات عملها، فتقع في دائرة الوعي المعتم.