لماذا تفسد الأديان التاريخية بسهولة كبيرة بتحوّلها إلى عناصر عنف مخيفة؟ أليس لأنها تدّعي لنفسها إدارة علاقة الناس بالمنتهى (l'Ultime)؟ لكن هذه الهشاشة بالذات هي ما يقدم للعمل اللاعنفي معاييره الحقيقية ليقيًم وأفضل أوراقه الرابحة ليتحرك. فعلى الرغم من الحضور المألوف، وأحياناً، حد الاستحواذ، لكلمة "دين" في العديد من المسائل التي تشغل حالياً الرأي العام، فإنه ليس من السهل الاتفاق على معنى دقيق للشأن الديني. وتدور حوارات كثيرة قصيرة أو لانهائية وعقيمة في النهاية نظراً لغياب توافق مسبق كاف حول ما يُقصد بكلمة "دين". إن التساؤل من جديد حول صعوبات النضال اللاعنفي ضدّ عنف الأديان ومقتضياته ووسائل نجاحه، يستدعي إذن ومنذ البداية، توضيحاً حول الشأن الديني، وحول الطريقة التي نحلله ونفهمه فيها، وحول الأسباب التي بسببها كانت الأديان المؤَّسسة وتظل عاملاَ رئيسياً في أعمال العنف التي تمزق مجتمعاتنا. وعلى قاعدة هذه التحليلات فقط، على ذكائها، وعلى مواءمتها، ستظهر المؤهلات الفريدة للمواقف اللاعنفية لمواجهة أعمال العنف التي تنبع من قلب الأديان التاريخية. حينما يعرض مناضلو اللاعنف الأشكال النوعية لنشاطاتهم أو لاستراتيجياتهم وحينما ينظمون مسيرة من جل السلام ويرفعون العرائض بقصد الإعداد لحملة كسب تعاطف أو انتباه الرأي العام، حينما يدعون لجلوس اعتصامي للتدخل المباشر أو للاحتجاج ضد ظلم أو تعسف ما، حينما يبدأون ذلك العمل الخطر والجريء ألا وهو الإضراب عن الطعام المحدود أو حتى المفتوح الخ.....فإنهم أغلب الأحيان، يتصدون، من خلف الأهداف التي يحددونها لتحركهم، لبعض الأوثان، ويهاجمون مطلقات زائفة، ويقفون في وجه قوى تسعى لتسخير الدين لأغراضها. إن الحالة الأكثر انموذجية على هذا الصعيد ربما تكون المعارك التي يجب خوضها ضد الزعماء الدينيين حينما يطمحون، معززين بكفالة المنتهى التي يضطلعون بها، وللمصلحة المفترضة لطائفتهم الدينية، للحصول على خضوع رعاياهم الأعمى وغير المشروط : إن النضال اللاعنفي سيستطيع، والحالة هذه، اتخاذ شكل العصيان الكنسي. 2)- البحث عن المعنى، الاتجاه الثاني الذي طرحناه دون أن نفصله عن الاتجاه السابق، للتمييز في الموقف الديني، يخفي أيضا أشكال فساده :إنها أشد خطورة أحيانا، في حدود أن البحث عن المعنى يتطلب ويتضمن الاقتناع الداخلي : إن العلاقة بالمنتهى تؤل هنا إلى هشاشتها القصوى.ثمة مفارقة مربكة وتحد رهيب في أن يتقدم الدين بوصفه المؤسسة التي تحتكر الوصول إلى الحقيقة النهائية . إذ سيجد المدافع عن اللاعنف هنا نفسه في مواجهة الأشكال المختلفة من مرضيات اليقين :طائفيات، دوغمائيات، تعصب، محاكم تفتيش من كل الأنواع،أحكام إلهية، معسكرات اعتقال، غيتوهات، فتاوى الخ....الخ ..ومع ذلك فإن قوته الرئيسة التي تعتبر ورقته الرابحة تكمن في أنه يتقدم ، من جهته، في الصراع اللاعنفي مجردا من كل طرح متعلق بالمنتهى، ومن كل اضطلاع بكفالة المنتهى . يقينيته الوحيدة نافية : لاشيء، ولا أحد يستطيع تبرير أو شرعنة الاعتداء على حياة أو على كرامة الغير. وهكذا يأمل تجنب مبدئيا كل أشكال العنف التي تستتر بحماية المنتهى.لأنه إذا تقدم في ميدان الحروب الدينية المغلق، والمواجهات المعلنة باسم المنتهى، فلن يكون خصما لأي من أبطال المنتهى:بل سيكون الخصم العنيد لكل عنف، من أي مكان جاء، والخصم لكل أولئك الذين يزدرون العقد المؤسس للإنساني .عندما يدعوا مناضلو اللاعنف إلى القيام بحملة لعدم- التعاون،وحينما يبذلون جهودهم للتوسط في قلب ازمة تهدد بعض القوى الدينية، وحينما ينظمون أو يشاركون في جهد للتوسط بين خصوم متذرعين بدينهم، وعندما يمارسون التدخل المدني، أو ينخرطون في كتائب السلام الخ......- فإنهم يدركون أنهم يصيبون هدفهم، حسب عمق متغير،في هذه النقطة المركزية حيث يحفظ الاقتناع الديني العميق منبعه وإذن حيث يقطر العنف المراهن على الدين سمومه الناقعة . إن المعتنق الحقيقي للاعنف يعرف أنه ليس بمنأى، حتى هو، عن الأشراك الدقيقة جدا التي ينصبها له انتماؤه الديني الذاتي، إن كان لديه ذلك، أو حتى قناعاته الانسانوية، إذا ما كان يعتبر نفسه غير متدين أو ملحدا . سيتذكر أنه يجب أن يظل يقظا، وأن لا يتخلً عن الحذر وأنه سيتوجب عليه متابعة الشك بنفسه: ربما سيجد عندئذ أنه من المفيد له تذكر أن أحد أسلحة نشطاء اللاعنف المفضلة هي الدعابة. ملاحظات : 1) – أمضى ميشيل دي سيرتو شطرا من حياته في التفكير في هذه المفارقة وبالطرق الكفيلة بمواجهة هذا التحدي 2) - جان نابيرjean nabert مقالة حول الشر ، باريس منشورات cerf 1996 وعلى وجه الخصوص : رغبة الله ، باريس 1996 نفس الناشر . من اجل مقاربة هذا الفيلسوف الصعب على الفهم يمكن الاستعانة بول نولانpaul naulin :مسألة الله في فلسفة جان نابير منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة كليرمون-فيران 1980 3) –" ما فائدة أن تقدم أن تقدم لي الكثير من الأضاحي، يقول الرب،؟ كف عن حمل قرابين خائبة .البخور، أكرهه . عبثا تحاولون مضاعفة صلواتكم لأني لا أسمعها...كفوا عن فعل الشر،تعلموا فعل الخير، ابحثوا عن العدالة، اسقطوا المستبد!....." إشعيا 11،1-17 4) - كما تبينه دون شك المجموعة الضخمة من النصوص التي نشرتها اليونيسكو عام1968 تحت اشراف جان هيرش، الحق بأن تكون رجلا . 5) – لا يُعرف كثيرا هذا النص لغاندي : "هناك حين يكون الخيار فقط بين الجبن والعنف يجب أن نختار الحل العنيف ]000[ كنت أفضل أن تذود الهند عن شرفها بقوة السلاح بدل أن تشهد بجبن ودون أن تمنع هزيمتها الذاتية .لكني لست أقل اقتناعا بأن اللاعنف هو أسمى للغاية من العنف " في : جميع الناس أخوة، منشورات غاليمار 1969 ص ص182-183 انتهى