أصدرت «حلقة أصدقاء باهي»، تحت إشراف عباس بودرقة، الأعمال الكاملة للفقيد محمد باهي: «رسالة باريس: يموت الحالم ولا يموت الحلم»، ويضم الكتاب، الذي تم تقديمه بمناسبة الذكرى العشرين لوفاته، خمسة كتب استعرض خلالها المؤلف شهادته على العصر، وقدم لنا تحاليل غاية في الموسوعية.. في ما يلي نختار لقراء «الاتحاد الاشتراكي» أوراقا من ذاكرة محمد باهي، لنستعيد تلك الثقافة السياسية التي كانت يتمتع بها واحد من صانعي السياسة في بلادنا، وواحد من الذين تحصلت لديهم الخبرة والذكاء، واستطاعوا أن يقدموا لنا قراءة في قضية الصحراء، وفي امتداداتها وتعقيداتها والمساهمين الفعليين في ذلك.. وحين عدنا إلى ممارسة نشاطنا الاعتيادي بمقر الحزب، جاءني كمال ناصر متحمسا، فرحا وقال إنه مستعد لإلقاء القصيدة في المهرجان، بعد أن أثبت «ديغول العظيم» وفقا لتعبيره، براءة الحكومة من جريمة اختطاف المهدي، وأضاف : «كنت خائف لا تكون مدبرتها الاستخبارات الفرنسية والإسرائيلية». أذكر هذه الجزئيات وأختم هذا الاستطراد الرامي إلى تقديم لوحة بسيطة وسريعة عن المناخ السائد آنذاك في العاصمة الفرنسية. «يضاف إلى ذلك -والكلام هنا لجان لاكوتير- أن المهدي بن بركة لم يكن فقط زعيما لليسار المغربي، ولكنه كان واحدا من الشخصيات الأوسع نفوذا في العالم الثالث. وهو عالم كان قصر الإليزي يقيم معه علاقات ودية إجمالا، تتعمق باستمرار، ولذلك، فبعد مرور ثلاثة أيام على صدور رسالة الدولة نشرت جريدة «لاغازيت دي لوزان» مقالا وصفت فيه الاختطاف بأنه «إهانة شخصية للجنرال ديغول». وأنه لمن الصعب اليوم أن نكون لأنفسنا فكرة عن طبيعة العلاقات التي نشأت بين المهدي بن بركة وحاشية الجنرال. لقد استقبل ديغول الزعيم المغربي قبل فترة قليلة من اعترافه للجزائريين بحق تقرير المصير في سنة 1959، لكنه انتقد بقسوة فيما بعد التفسير الذي أعطاه زائره لكلامه. إلا أن تطور سياسة قصر الإليزي تجاه العالم الثالث قبيل انعقاد مؤتمر القارات الثلاث بهافانا، لا بد أن تجعل الجنرال ديغول ينظر إلى المهدي بن بركة كورقة في يده. وإذن فلم يكن في الأمر مجرد «إهانة» شخصية بل وخسارة شخصية أيضا له. وفي يوم 11 نوفمبر، عقب انتهاء المجلس الوزاري، الذي قيل إن كلام السيد كوف دي مورفيل (وزير الخارجية) وروجيه فري (وزير الداخلية) قدما أثناءه عرضين مفصلين عن المظاهر الدبلوماسية والبوليسية للقضية، سأل الصحفيون السيد ألان بيرفيت وزير الإعلام، عن ما إذا كان الجنرال ديغول قد تحدث حول الموضوع، فكان جوابه : «نعم. لقد تدخل كما يفعل دائما حول المشاكل المهمة» : (المصدر نفسه صفحة 630). نعم، كل شيء يؤكد أن العملية موجهة عمدا أو بصورة عشوائية ضد الجنرال ديغول، وما أثارته تلك الجريمة-الفضيحة في ذلك اليوم ليس هو تواطؤ فرنسا الرسمية مع أجهزة إرهاب أجنبية وتورطها في ملاحقة معارضة غريبة، بقدر ما هو قابلية الاستخبارات الفرنسية للاختراق من قبل عملاء الاستخبارات الأمريكية وفي مقدمتهم الجنرال محمد أوفقير. إنها قطعة جبن من طراز «الغريير» تفوح منها رائحة عفنة على حد تعبير مؤلف سيرة ديغول. وإذن فإن الغضب الساطع الذي عاشه الجنرال شارل ديغول آنذاك لم يكن ناجما عن خوفه من تورط هذه الشخصية أو تلك من نظامه في العملية بقدر ما كان ثمرة لإدراك أن أجهزة معادية لسياسته اخترقت الاستخبارات الفرنسية وأصبحت مواطئ أقدام راسخة في بلاده. وما سوف تظهره التحريات اللاحقة بالتدريج هو أن «قلعة الجمهورية الخامسة» محاصرة من كل الجهات وأن الأرض الفرنسية باتت حقلا مفتوحا لمناورات ورمايات تمارسها دول وسلطات وجهات لها أغراضها الخاصة بها جدا. هل هذا ما يريد أن يبينه الجنرال ديغول الذي منح لكلمتي «الاستقلال الوطني» معاني كادت أن تفقدها في اللغة الفرنسية؟ أغلب الظن، وهذا ما يثبته جان لاكوتير في كتابه أن اختطاف المهدي بن بركة بما كشفه من إمكانية استخدام شعبة الاستخبارات الوطنية الفرنسية من قبل جهات أجنبية فتح عيني مؤسس الجمهورية على حقيقة مرة ملخصها أن الاستقلال الوطني الذي كان يبني صرحه لبنة لبنة، ظل حتى ذلك الوقت مجرد وهم. إذ كيف يجوز التحدث عن الدولة وأحد أعصابها إن لم نقل عصبها وشريانها الأكبران بامتياز، واقعان تحت نفوذ عناصر مرصودة من الخارج؟ يروي جان لاكوتير نقلا عن أحد المساعدين العسكريين للجنرال ديغول، قوله له بعد مرور عشرين سنة على وقوع الحادث «إن قضية بن بركة كانت بالنسبة لديغول بمثابة التماع مصباح ضوئي كهربائي كشاف فظيع يؤكد هشاشة النظام بنفس القدر الذي أظهرته محاولة انقلاب شهر أبريل 1961 : (المصدر السابق صفحة 632)». وكان أول قرار استراتيجي اتخذه الجنرال ديغول وجاء كنتيجة مباشرة للعملية هو انتزاع سلطة الإشراف على شعبة الاستخبارات الخارجية من رئاسة الحكومة وإلحاقها تنظيميا وإداريا وسياسيا بوزارة الدفاع الوطني. وهو لم يكتف بذلك، وإنما وجه اللوم علنا ومباشرة إلى صديقه (وخليفته فيما بعد) السيد جورج بومبيدو، رئيس الوزراء وقال له في مجلس حكومي وبلهجة غاضبة غير مألوفة : «إنك لا تسيطر على المصالح التابعة لك سيطرة تامة»، ثم توالت القرارات في نفس الاتجاه فتم شطب اسم العقيد «ليروا فينفيل» الذي كان يتولى إدارة الشعبة السابعة ثم اتهامه واعتقاله، وجرى تغيير المدير العام الجنرال جاكسي بمعاونة الجنرال غيبو، وصدر بيان رسمي بملاحقة أحمد الدليمي دوليا واستدعى السفير الفرنسي من الرباط. أما الفكرتان الجوهريتان في سياسة الجنرال ديغول الخارجية والتي أسهمت عملية اختطاف المهدي بن بركة في إنضاجهما وتنفيذهما فهما من جهة إعادة النظر بصورة جذرية في موقع فرنسا داخل الحلف الأطلسي، ومن جهة ثانية تطوير سلطتها النووية وقوتها الضاربة المستقلة. بديهي أن الجنرال ديغول كان قد اتخذ في قرارة نفسه سلفا، أي قبل حصول الاختطاف، خطأ سياسيا واضحا، لكنه اختار للإعلان عنه مناسبة انفجار القضية، وهو أمر من الصعب أن نعتبره مجرد مصادفة.لقد استدعى الإيطالي مانليو بروزيو الأمين العام للحلف الأطلسي يوم 20 يناير 1966 وأخبره بأنه ينوي سحب فرنسا نهائيا من الهياكل العسكرية الموحدة لمنظمة حلف الشمال الأطلسي. وبعد ذلك بستة أسابيع (أي في 7 مارس 1966) بعث برقية إلى الرئيس الأمريكي ليندون جونسون يخبره فيها بأن فرنسا لم تعد عضوا في الهياكل العسكرية الموحدة لحلف الشمال الأطلسي، ولذلك فإن وجود القوات والهيآت العسكرية الأمريكية في فرنسا أمر لا لزوم له من الآن فصاعدا. أثناء أول ندوة صحفية عقدها (21 فبراير 1966) بعد انتخابه للمرة الثانية، أعلن ديغول في مستهل خطابه أنه سوف يتحدث عن قضية بن بركة، وعلى الفور، طرح عليه أحد الصحفيين سؤالا سجاليا لعله لم يكن يتوقعه : «لماذا لم تقدموا توضيحات إلى البلاد بهذا الخصوص عندما كنتم تطالبونها بالتصويت لفائدتكم؟». وكان جواب ديغول : «يعود ذلك إلى نقص في تجربتي»، وهو كلام انفجر له الصحفيون القدامى والجدد من الضحك، خاصة وهم يعرفون جيدا أن نواة أجهزة الاستخبارات نشأت بإشراف مباشر من الجنرال شارل ديغول عندما كان يقود المقاومة ضد الاحتلال النازي من لندن ، أثناء الحرب العالمية الثانية. ولعل أفضل رأي يمثل وجهة نظر الديغوليين في تلك الفترة حول القضية هو المقال الذي نشره الأديب الفرنسي فرانسوا مورياك في الملحق الأدبي لجريدة الفيغارو (يوم 28 يناير 1966) وجاء فيه : «لا أريد أن يعتقد بأنني متفق مع هؤلاء الديغوليين الذين انتظروا وقوع هذه المصيدة. ومن ذا الذي يشك في ذلك؟ لقد حدثني صديق مغربي عالم بخبايا الأمور، بفترة قليلة قبل اغتيال المهدي بن بركة أو بعده (لا أذكر التاريخ بالضبط) عن الصلة الوثيقة، الموجودة بين الجنرال أوفقير والمصالح السرية الأمريكية. أما ماهو قدر هذا الكلام من الصواب فإني أجهله كليا. وفي كل الأحوال، فإن هذه المصالح تمكنت هذه المرة من النجاح في تحقيق ضربة مزدوجة رائعة ضد العالم الثالث وضد الجنرال ديغول أيضا، بتخلصها من المهدي بن بركة. وإذا كانت المصالح الأمريكية بريئة في هذه القضية، فإن الشيطان قد لعب لحسابها. وهذه الفرضية التي واجهتها واشنطن بتكذيب فوري، سوف تبرز مجددا في الأسابيع والشهور اللاحقة وسوف تعزز الاقتناع لدى أوساط هامة من المراقبين، بوجود اختراق عميق للاستخبارات الفرنسية من طرف الأمريكيين سواء بصورة مباشرة أو عن طريق أصدقائهم المغاربة. وفي الالتفاتة التي بادر بها رئيس الدولة الفرنسية بعد بضعة أسابيع بالانسلاخ من الحلف الأطلسي كان هناك إحساس بالمرارة التي شعر بها وهو يلاحظ أو يعتقد أنه يلاحظ هذا الشكل المسرف من أشكال «الحضور» الأمريكي بفرنسا (المصدر السابق صفحة 649). 16 أبريل 1986