أصدرت «حلقة أصدقاء باهي»، تحت إشراف عباس بودرقة، الأعمال الكاملة للفقيد محمد باهي: «رسالة باريس: يموت الحالم ولا يموت الحلم»، ويضم الكتاب، الذي تم تقديمه بمناسبة الذكرى العشرين لوفاته، خمسة كتب استعرض خلالها المؤلف شهادته على العصر، وقدم لنا تحاليل غاية في الموسوعية.. في ما يلي نختار لقراء «الاتحاد الاشتراكي» أوراقا من ذاكرة محمد باهي، لنستعيد تلك الثقافة السياسية التي كانت يتمتع بها واحد من صانعي السياسة في بلادنا، وواحد من الذين تحصلت لديهم الخبرة والذكاء، واستطاعوا أن يقدموا لنا قراءة في قضية الصحراء، وفي امتداداتها وتعقيداتها والمساهمين الفعليين في ذلك.. مع ذلك يشير ميشال جوبير إلى أن «أبناء الشمال الإفريقي الذين أسكرتهم خمرة الحرية قد أهملوا شمال إفريقيا كما لو كانت خرقة استعمارية بالية. ولعلهم لا يدركون أنهم برد فعلهم هذا إزاء الماضي. إنما ينكرون الجغرافية عن عمد وعن قصد بل يتنكرون للمستقبل ويضيعونه في سراديب منافسته (صفحة 29)». ولعلي أشرت في مطلع هذا المقال إلى أن كتاب وزير خارجية فرنسا السابق يتضمن بُعدا صحفيا يتجلى في هذه الأحاديث التي أجراها مع عدد من الشخصيات والكفاءات العلمية، وربما أضيف أن أهم المعطيات التي استخلصها من لقاءاته تلك هي الاحصائيات والأحكام الواردة في سياق حوار مع الدكتور المهدي المنجرة أو المأخوذة من نص محاضرة له. والدكتور المهدي المنجرة، كما نعلم يعتبر اليوم واحدا من أبرز «العارفين» بشؤون العالم الثالث، وهو صاحب خبرة نظرية وعملية تعطي لكلامه وزنا خاصا. لقد تلقى تعليمه الجامعي وتكوينه العلمي في الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا وتحمل لفترة مسؤولية إدارية قيادية في هيئة اليونسكو يصفها الكل بأنها تميزت بالكفاءة والفعالية، وكان عضوا مؤسسا في نادي روما الذي أنتج أعمق وأشمل وربما أصدق وصف للأزمة العالمية الراهنة، ثم رئيسا لمنظمة «المستقبليات أو الاستقباليات»، وأستاذا في جامعة محمد الخامس بالرباط وأستاذا زائرا في عدة جامعات غربية أوروبية وأمريكية. والمهدي المنجرة حين يتحدث عن المغرب العربي يتكلم بحرقة العاشق لكنه لا يلجأ إلى الشعر وإنما إلى الرسم بالأرقام. يسأله ميشال جوبير، يحاوره يستفزه ويتساءل المهدي المنجرة : «ماهي حال المغرب العربي اليوم؟» ثم يجيب بهذه الوقائع المفحمة : «مستوى النمو السنوي للدخل الوطني الصافي للفرد لم يتجاوز ثلاثة بالمئة في الفترة من بين 1960-1979. متوسط دخل الفرد هو حوالي 1750 دولار، مع تفاوت هائل بين البلدان الخمسة (320 دولار في موريتانيا و8600 دولار في ليبيا) وفي التوزيع الداخلي ضمن هذه البلدان نفسها (عشرون بالمئة من السكان يستحوذون على خمسة وخمسين بالمئة من المداخيل الوطنية) وفيات الأطفال تصل إلى مائة حالة مقابل كل ألف ولادة. اكتفاء ذاتي في التغذية في حالة انخفاض دائم (أقل من ستين في المائة اليوم) وإهمال واضح للإنماء القروي. نسبة البطالة تطول خمسة وثلاثين بالمائة من السكان النشيطين. سياسات تصنيعية تتجه نحو التصدير وتهمل الاحتياجات المحلية. حجم المبادلات التجارية بين أقطار المغرب العربي لا يصل إلى (واحد) بالمائة من إجمالي التجارة العالمية للبلدان الخمسة التي ترتفع مبادلاتها مع السوق الأوروبية المشتركة إلى أكثر من خمسين بالمائة. سبات عميق في مجال البحث العلمي الذي لا يستوعب بالكاد %0.3 من إجمالي الدخل الوطني الصافي لمجموع المنطقة. أولوية غير مبررة لتطوير السياحة. تقريبا غياب أي تشجيع للإبداع الثقافي؟ محاكاة عمياء للنمط الغربي؟ معارك عقيمة باهظة الثمن. نفقات عسكرية سنوية تبلغ حوالي 3 مليار دولار أي أكثر من ثلاثة بالمائة من إجمالي الدخل الوطني الصافي لعموم المنطقة! غياب مشاركة فعلية للسكان في «أواليات» (ميكانيزمات) اتخاذ القرار بالرغم من مظاهر الديمقراطية الشكلية هنا وهناك؟ عدم احترام حقوق الإنسان التي ينظر إليها كما لو كانت تكريما يمنح أو يعلق حسب الظروف؟ وضع المرأة، وهو مايزال يتطلب الكثير في مجال التمدرس والعمل والحقوق. أزمة عميقة لمنظومة القيم». تلك هي المعطيات الجافة التي نقلها ميشال جوبير عن المهدي المنجرة وهي غنية عن الشرح والتعليق، ومنها يخلص المفكر المغربي إلى القول بأن مجموع منتوجات بلدان المغرب العربي بلغت عام 1980 أقل من 90 مليار دولار، وهو ما يساوي الناتج الوطني لبلد مثل تشيكوسلوفاكيا لا يتجاوز سكانه خمسة عشر مليون نسمة...فرنسا التي يعادل سكانها، سكان مجموع المغرب العربي لها ناتج يفوق الناتج المغاربي بسبعة أضعاف، ولا يمكن لأي مجموعة «جغرا-سوسيو-اقتصادية» أقل من مائة أو مائة وخمسين مليون نسمة أن تعيش في بداية القرن الواحد والعشرين. ماذا سيكون مستقبل موريتانيا بملايينها الثلاثة وليبيا بملايينها الخمسة والنصف عام 2000؟ سوف يكون سكان المغرب الكبير حينئذ أقل من مائة مليون وسوف يستطيعون بالكاد أن يؤلفوا مثل هذه المجموعة... (صفحة 38). توقفت طويلا عند هذه الفقرة التي نقلها الكاتب عن الدكتور المهدي المنجرة لأنها تلخص الحالة المزرية التي يعيشها المغرب العربي اليوم، ولأنها تبين في جفافها العلمي ثقل واتساع المعوقات المنتصبة في قلب الوحدة وتعري المأزق الذي وصلت إليه الدويلات القطرية. ما بين ربع قرن وثلاثين سنة من الاستقلال (استقلت تونس عام 1955 والمغرب سنة 1956 وموريتانيا عام 1960 والجزائر سنة 1962) عاشت خلالها أقطار الشمال الإفريقي حربين بين أكبر كيانين (حرب رمال 1963، وحرب الصحراء المغربية الحالية المستمرة منذ سنة 1976 بين المغرب والجزائر) إلى جانب انفجار ديموغرافي لا تستطيع الدول واقتصادياتها الهشة مقاومته، في مناخ سياسي ديني يتذبذب بين الشك والمجهول. ولا تأخذ الأرقام التي قدمها ميشال جوبير نقلا عن المهدي المنجرة طابعها المخيف إلا إذا تذكرنا أو بالأحرى نوهنا استنادا إليها بأن تونس والجزائر والمغرب، ينتجون سنويا حوالي مليون وسبعمائة ألف نسمة أي ضعفي سكان مدينة فرنسية مثل مارسيليا، وهذه الموجة السكانية التي تنمو وفق معدل يقترب من قانون المتوالية الهندسية، تكاد تتحول إلى سيل جارف يغمر في طريقه كل شيء. بل يمكن القول بأن إنتاج الأطفال هو الصناعة المغاربية الوحيدة المزدهرة، أو هو الصناعة المصنعة. ومهما أتقن الخبراء من وسائل التخطيط في موسكو، من مناهج التنظيم والتسيير في واشنطنوباريس، فهم لا يستطيعون أي شيء أمام هذه الظاهرة. هذا الكلام المتشائم الذي يقوله المهدي المنجرة يصدر ما يشبهه أو على الأقل ما يكمله عن السيد عبد الحميد الإبراهيمي رئيس الحكومة الجزائرية. رأي المسؤول الجزائري موجود في كتاب له بعنوان «أبعاد وآفاق المغرب العربي» المنشور سنة 1979 (وهو الأطروحة التي نال بها دكتوراه الدولة في الاقتصاد) : «يبدو بكل وضوح أن تجربة الاندماج الاقتصادي التي جرت محاولة تطبيقها في المشرق كما في المغرب قد أخفقت وأن القوى النابذة قد انتصرت على القوى الفاعلة باتجاه التوحيد نحو نواة مركزية». على من تقع مسؤولية هذه الحالة؟ السيد عبد الحميد الإبراهيمي، الذي استقبل ميشال جوبير في شهر أكتوبر 1984، وأهدى إليه كتابه لا يجيب بالطبع عن هذا السؤال، والتاريخ نفسه قد لا يتوفر على رد مقنع لأنه حقل محايد، مملوء بالألغام والذخائر التي يستطيع أي طرف أو فريق أن يتسلح بها لقصف خصومه في حرب لا نهاية لها، لكن من الواضح أن النخب المثقفة المؤثرة في صنع القرار وفي بلورة وصياغة أشكال الخطاب الإيديولوجي تراجعت في الحقبة الأخيرة إلى حدود الدول الوطنية، الدول-الأمم وأصبحت تدافع عنها كما كان الشاعر العربي القديم يدافع عن عشيرته. اللحن الوحدوي، مفقود منذ عشر سنوات في الانتاج المغاربي بكافة حقوله وما يبرز منه هنا وهناك يكاد يكون مجرد تدعيم للأنانيات القطرية المتضخمة. هل هو التاريخ يسخر من الجغرافيا؟ أم هي الإيديولوجيا تمتص الحياة من شرايين الواقع؟ ما تزال سلسلة جبال الأطلس، التي تشكل العمود الفقري للقارة المغاربية والمترامية من جنوب المغرب إلى جنوبتونس، تقاوم في عناء شديد اندفاع الرمال للارتماء في أحضان البحر الأبيض المتوسط أو المحيط الأطلسي. لكن هذه الحقيقة الجغرافية الصلبة الملموسة، والقاعدة اللامتغيرة لشبكة قرابات «ألفية» تختلط فيها اللهجات والتقاليد والوشائج القبلية والدين والزواج وكل أنواع المعاشرات والمبادلات، لا تجد لها ترجمة في مجال الخطاب المتداول. ومثلا، يلاحظ ميشال جوبير أنه لم يعثر خلال مراجعته للائحة الأطروحات الجامعية التي أنجزت بالجزائر خلال العام الدراسي (1983-1984) على أي موضوع حول المغرب العربي. وأنه بالمقابل اكتشف أطروحة أعدها باحث أمريكي يدعى فيتز جيرالد، من مدينة هوليود عن هذه المسألة خلال الفترة الزمنية إياها. ميشال جوبير الجدي يلجأ أحيانا إلى الفكاهة لتجسيد حالة التدهور التي وصلت إليها العلاقات بين أقطار المغرب العربي ودوله، فيلاحظ أن الشكل الوحيد من أشكال الوحدة في القمة هو وحدة نوع وتفصيل البدلات التي يلبسها الحكام، ويشير إلى أن الخياط الباريسي الشهير «فرانسيس سمالتو» هو الذي يحافظ على صلة دائمة مع قادة المغرب العربي لأنه يذهب إليهم في بيوتهم ليقدم إليهم خبرته وذوقه الرفيع في التفصيل والخياطة. ويذهب الكاتب إلى حد التعبير عن رجائه في أن يلهم الله هذا الخياط الباريسي المشهور في عالم الموضة فكرة القيام بدور الوسيط ويوصيه بالتزام الصبر. يخصص الكاتب فصولا لأوضاع الشباب والمسألة الأمازيغية (البربرية) والتعددية الثقافية الناجمة عن تعايش وتصارع اللغتين العربية والفرنسية، ولمشكلة الصحراء والتيارات الإسلامية والعلاقات بين المغرب العربي وأوروبا في عالم متحول، وللتحديات التي تطرحها هذه القضايا في كل بلد مغاربي على حدة والمشاكل التي تثيرها بالنسبة لعموم منطقة شمال إفريقيا.