نظمت مؤسسة مؤمنون بلا حدود يوم السبت 14 مايو ندوة قراءة في كتاب «إسلام السوق» لباتريك هايني، بصالون جدل الثقافي، الكائن بالمقر المركزي للمؤسسة بالرباط، شارك في هذه الندوة الأستاذان الباحثان في علم الاجتماع، عبد الهادي أعراب )جامعة المولى إسماعيل( ورشيد الجرموني)جامعة شعيب الدكالي). هكذا قدم الاستاذ عبد الهادي أعراب ورقة حول الكتاب سجل فيها أن تناول «هايني » لما أسماه «إسلام السوق » يأتي في سياق انشغاله بالديناميات الدينية والهوياتية التي عرفها العالم العربي والإسلامي، بدءا من منتصف تسعينيات القرن المنصرم. ولاهتمامه تحديدا بتحولات الإسلاموية ومنعطفاتها الراهنة، نبّه إلى مسارات جديدة من تعايش الأسلمة والعولمة، ضد الطروحات الاستشراقية التي اعتبرت المجتمعات الإسلامية محكومة بنمط تدين ثابت وضد الخطاب الإعلامي الأجنبي والسياسات الغربية المرددة لذات المنظور المختزل لتعددية هذه المجتمعات المختلفة. وعلى الرغم من أنه أكاديميا، عالم سياسة ومتأثر ب «أوليفييروا »، ويمثلان معا أطروحة فشل الإسلام السياسي وانحسار نموذج تدينه المنغلق؛ فقد وطّن مؤلفه ضمن سوسيولوجيا الدين عبر مقاربة زاوج فيها بين التحليل الاقتصادي والاجتماعي؛ متأثرا ب «ماكس فيبر » لمّا هو مزج بين الاقتصادي والديني لبلورة أخلاقيات اقتصادية، واستلهم من «بيير بورديو » نظريته في «الحقل » لتجسيد تقاطع «إسلام السوق » مع مؤسسات الحقل الاقتصادي وثقافة الشركات التي تغذي نماذج الخطاب الذي يستخدمه. ولتأطير هذا التدين الجديد، تبنّى منهجا وصفيا تحليليا عبر عدّة مفاهيمية تركيبية غنية، كما اعتمد لجمع بيانات بحثه، على استجوابات غير مباشرة، هي شهادات لنشطاء إسلاميين حول قضايا وإشكاليات دينية من خلال الموقع الإلكتروني «أون لاين ». وبملاحظته وتتبعه للممارسات الاجتماعية، متقمصا دور عالم الاجتماع، تنبّه للتحولات الاجتماعية الدقيقة التي مسّت العلامات والرموز والمفاهيم الدينية كالحشمة والعمل الخيري ونموذج الدعوة الجديدة وخطابها الإسلامي المنغمس في التجارة والمشاريع التنموية ونظريات المنجمنت. رابعا: من مرحلة الاسلاموية إلى مرحلة التدين الفردي انطلاقا من خلفية سوسيولوجية، يشرح الباحث «باتريك » كيف وقع تحول في البنية الذهنية لمقولات حركات الاسلام السياسي، وذلك انطلاقا من تتبع تاريخي بدء من مرحلة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، إلى مرحلة بداية الالفية الثالثة، حيث وقع انزياح في مجموعة من المرتكزات التي أطرت الفعل الإخواني في ما مضى، ولعل من بينها العناصر التالية: -1 نزعة القداسة عن الالتزام التنظيمي: إذا كانت أهم مقولة ركزت عليها حركات الاسلام السياسي، لتبرير وجودها التاريخي والسوسيولوجي، هي مقولة التنظيم وبناء الهياكل والمؤسسات المؤطرة والوجهة بخطاب إيديوإسلامي، يستمد مشروعيته من قراءة معية للنصوص الشرعية، فإنه مع وجود ممارسة يومية مغرقة في التصلب والبعد عن الواقع، تشكل جيل جديد مشبع بثقافة نسبية للقيم وللرموز وللمنظمات والهياكل، سينتفض على كل تلك المسميات وسيرى أن تلك التنظيمات «الاخوانية » لا تمثل سوى مرحلة زمنية من بين المراحل التي قطعتها تلك التنظيمات، وأنها لم تعد تشكل المنتهى والمنطق عند الجيل الشبابي الحالي الذي بدأ يعبر عن قناعاته بمعزل عن التنظيم وعن مسلكيات ما سمي «بالإلتزام الإخواني ». ولعل من بين مؤشرات هذا التوجه، هو بروز «حركية فردانية »، تتجاوز بكثير عقلية الاحتكار والوصاية والاستبداد وعدم القدرة على استشراف المستقبل. وإذا أردنا أن نتوقف عند مثال توضيحي، فهو ما جرى في الربيع العربي من اندفاع قوي للشباب في الفضاء العام، مطالبين بالتغيير ورفض الاستباد والتسلط، ومتجاوزين النسق المغلق لحركات الاسلام السياسي في العالم العربي وفي مصر بشكل اكثر تحديدا. -2 من المطلق إلى النسبي: لا يمكن فهم عمق التحول الذي حصل في العقل الإسلاموي، دونما الرجوع إلى مختلف الكتابات التي برزت في الآونة الأخيرة، والتي كانت تتحدث عن موجات التحديث التي انتشرت في العالم، من خلال مجموعة من المفاهيم المركزية، لعل من بينها تحطيم كل الأفكار الدوغمائية، وتجاوز كل المطلقات والحكايات الكبرى أو ما يسيمه البعض «السرديات الكبرى »، كناية عن وقوع تصدع في المنطلقات الوجودية التي كان يتأطر عليها الكثير من الشباب المنضوي تحت حركات الاسلام السياسي. وقد تجلى هذا الأمر، في رفض «الجيل الناقم » من أبناء هذه الحركات، كل التصورات الانغلاقية والمتقوقعة على الذات وأيضا «الشوفينية » والتمايز التي ميزت الجيل السابق. وهكذا أضحى الجيل الجديد أكثر انفتاحا في منطلقاته ومفاهيمه وفي لغته وفي خطابه. حيث أصبح يوظف مفاهيم عالمية بنفحة إسلامية، كمفهوم «الجهاد الإلكتروني » و «النسوية الاسلامية » .... وعوض مفهوم الخلافة الذي طالما تردد في أدبيات حركات الاسلام السياسي، سنجد مفهوم «الوحدة الإقليمية »، تماهيا مع مفهوم الاتحاد الاوربي. إن جل هذه المواقف والخطابات والمفاهيم والتصورات التي بدأت تؤطر الحقل الإسلاموي الجديد، إنما تؤشر في نظر الباحث «هاني » عن مأزق وجودي أصاب الرؤية الفلسفية الكبرى التي كانت تتأطر عليها حركات الاسلام السياسي، متأثرة بوعي أو بدونه بمختلف الأدبيات والفلسفيات ذات النفس الحداثي وما بعد الحداثي، بل وحتى «العلماني .» -3 ظهور أنماط جديدة من التدين: إذا كان العنصرين السابقين )نزع القداسة عن التنظيم وحلول المقولات النسبية( في مواقف وتصورات الجيل الشبابي الجديد، من أبناء حركات الاسلام السياسي، أ ومن غيرها ممن يشكلون قطاعا عريضا من المجتمع العربي والاسلامي، فإن الأهم في هذا التحول، هو ما يمكن ملاحظته في نوعية الممارسات والسلوكات اليومية التي تؤشر على نمط جديد من التدين. فكيف يمكن توضيح ذلك؟ أ- الأغنية: شكل الفن واحدا من النقط السوداء في تاريخ الإسلام، وتحديدا عند التيار الأكبر من حركات الاسلام السياسي، سواء كانت إصلاحية او راديكالية أو سلفية متعصبة او علمية، أو حركات صوفية. لكن تحت ضغط المجتمع، ولان الفن هو أحد المكونات الأصيلة في النفس البشرية، ستضطر هذه الحركات إلى تبني شكل جديد من الفن وتحديدا الموسيقى، تحت مسمى «النشيد الإسلامي »، والذي بدأ في بدايته باستلهام الترانيم الدينية النضالية التي تتغنى بالشهادة وبالجنة وبالجهاد وبالتضحية وبالمعاناة، او ما يمكن تسميته ب «أدب المحن ». على اعتبار أن هذه الحركات الاسلاموية تعرضت لنوع من التضييق والتسلط والتعذيب في مجموعة من الدول العربية )سوريا/ مصر، الأردن(. وقد عرف هذا النوع من النشيد في حقبة السبعينيات والثمانينيات، انتشارا واسعا في صفوف الشباب، خصوصا عندما وانه تزامن مع وجود حروب وتوترات في بعض الدول، كأفغانستان والبوسنة والهرسك. إلا أن الأمر سيتغير بشكل راديكالي من ما سمي «بالأنشودة الدينية الملتزمة الإسلامية »، إلى نوع جديد من الأغنية الدينية التي تتماهى بشكل كبير مع أنواع من الفنون والأغاني الغربية التي كانت إلى عهد قريب مرفوضة من طرف حركات الاسلام السياسي، خصوصا إذا علمنا أن مواقف هذه الحركات، من الآلات الموسيقية كان محط جدل كبير. وحيث أن المجتمع لم يعد يقبل بتلك الترانيم الدينية المغرقة في التغني بالمحن والنضالية اليوتوبية، فإن الاستجابة ستكون من خلال الجيل الثاني والثالث من أبناء حركات الاسلام السياسي، خصوصا الذين يتواجدون بالديار الأوروبية والأمريكية، عبر إخراج نوع من الفن/ الأغنية تعانق كل انوع المعروضات التعبيرية الموسيقية - بما فيها الراب، والورك وغيرهما- وبكافة الأدوات الموسيقية المتوفرة، لكي يرضوا الجمهور الذي بدا متعطشا لهذا النوع من الأغاني التي يشعر فيها بالاسترخاء والسعادة والنشوة، بدل تلك التي تذكره بالموت وبالتعاسة وبالجهاد وبالمحن. ب- من الحجاب الإسلاموي إلى الحجاب الإستهلاكي ربما لا نبالغ إذا ما قلنا بأن أهم قضية أثيرت مع بروز حركات الاسلام السياسي، هو مسألة الحجاب/ الزي الإسلامي، الذي عبر عن إحداث قطيعة في ممارسات التدين الشعبية عند العديد من الفئات المجتمعية، خصوصا المتوسطة منها. وقد شكلت هذه القضية بؤرة الصراع الإيديولوجي في العديد من المواقع ومجالات الفضاءات العمومية. وغي خاف على أحد أن هذا اللباس كان عنونا في بدايته )حقبة السبعينيات من القرن الماضي( عن التزام إديولوجي وحركي إسلاموي. لكن الذي حصل في هذا السياق، هو أن قوة الخطاب الإقتصادي والماركتينغ التسليعي، شكل اختراقا لهذا اللباس بكل ما يعنيه من «حشمة » مدعاة، أو «تقوية » معبر عنها، أو حتى «طهرانية » دينية ما. حيث ستحول هذا اللباس من تعبير إديوإسلامي إلى مجرد لباس للتباهي والموضة والزينة، بل والتماهي مع آخر صيحات السوق التجارية، التي تتسارع وثيرتها في إقامة نوع من القطيعة بين حجاب الأمس وحجاب اليوم. وربما لا نبالغ إذا ما أكدنا أن هذا النوع من اللباس تأثر بمختلف التحولات القيمية التي تجري في شرطها العربي الاسلامي، بحيث أصبح عنونا عن إبراز مفاتن المرأة «المسلمة » بشكل يشبه شبقية من نوعية خاص، مؤطرة برداء الإسلام، لكنها في العمق تشتغل بأدوات السوق وفلسفته القائمة على العرض والظهور والاستعراض. هكذا، يظهر من خلال التحليل السابق، أن كلا من نزع القداسة عن التنظيم، وبروز الفكر النسبي عند أبناء حركات الاسلام السياسي وغيرهم من الشباب، سيولد نمطا جديدا من التدين شكل شبه قطيعة من النمط الديني الحركي، ويؤسس لمرحلة متجاوزة للإسلاموية إلى صيغة دينية يتعايش فيها الدين مع مختلف الثقافات والهويات والمسلكيات. خامسا: التدين تحت ايقاع السوق كثيرا ما كانت حركات الاسلام السياسي بشتى أطيافها وانوعها وبكل حواملها الفكرية والفلسفية، تنتقد المقاربة الاقتصادية التي نظر لها مؤسسة المدرسة الماركسية (كارل ماركس)، حيث كانت تعتبرها مقاربة اختزالية لا تستطع فهم السلوك الانساني. لانها تقوم على مسلمة أن العامل الاقتصادي هو محرك التاريخ. إلا ان مكر التاريخ كما يقول «هيغل »، سيعيد النقاش إلى عقر دار حركات الاسلام السياسي، عندما وقع تحول هام في تمثلها للديني، ولفكها الارتباط بين ما هو ديني/سياسي، لصالح رؤية جديدة، الديني في صالح الاقتصادي والاقتصادي في الديني. لكن الأمر الذي تنبغي الإشارة إليه في هذا السياق، هو أنه إذا كانت الماركسية ومعتنقيها تتمثل المقولات التفسيرية بشكل واع ومفكر فيه، فإن الذي حصل لمواقف وتصورات حركات الاسلام السياسي، ولغيرها من الشباب «الملتزم »، هو وقوعها بشكل غير واع في شرك المقاربة الاقتصادية، تحت ضغط ما يطلبه الجمهور. بمعنى آخر، أصبحنا أمام ميكانيزمات وآليات السوق، فكيف يمكن شرح ذلك؟ -1 في فك الارتباط بين ما هو سياسي/ ديني إلى ما هو ديني/ اقتصادي لا حظنا كيف انتقل الخطاب الاسلاموي من لغة المرجعيات الكبرى والنظرة الشمولية في التغيير والتأثير، إلى مقاربة تقنوقراطية خالية من كل إديولوجيا، وذلك جراء السيولة الكبرى للمفاهيم العولمة، مثل «البراغماتية « » والحقيقي هوالمفيد « » والبقاء للأصلح « » وما ينفع الناس هو الأقوى ». وكل ذلك، جرى بشكل لا واع في مخيال ووجدان العقل الاسلاموي. لكن أهم تجلي لكل ما سبق، سيظهر في ما سيوفره السوق الاقتصادي من إمكانيات هالة لتسويق المنتجات الثقافية والرمزية بما فيها الدين، في بيئات متعددة ومختلفة ومتشابكة ومعدة أحيانا أخرى. هكذا سيجري تكييف «العرض الديني مع التوقعات الحقيقية أو المحتملة لجمهور مستهدف بدقة »، بدل الخطاب المرتكز على الينبغيات والمطلقات واليوتوبيات التي لا تتحقق ولن تتحق. إذ الجمهور يريد الجاهز والآني والمستظرف، بدل انتظار الذي يأتي أو قد لا يأتي. ومن خلال هذا التحول، سيتحول الجمهور الديني الواسع، من معتنق لإيدولوجيات مثالية وماهوية إلى سوق ديني يطلب ما يحتاجه في معيشه اليومي. حيث استهلاك الفتوى بكل حرية، بدون الرجوع إلى أهل «الحل والعقد »، وحيث ينتعش خطاب التسهيل والترخيص بدل التشدد والحدية، وأيضا سيحل خطاب ما ينفعه بدل لغة الحلال والحرام. لعل أهم تحول طرأ مع موجة تسويق «الإسلام »، هو ما عبر عنه الباحث «باتريك » ب «التفكير في الاسلام كمنتج موجه إلى مستهلكين »، انطلاقا من مقولة تأطيرية جد هامة: «لا يجب أن ننشد الفضائل المطلقة من منطلقات دينية، ولكن عبر بيعها من خلال فاعليتها الاجتماعية .»