توفي كارلوس فوينتس يوم 15 ماي 2012 عن سن الثالثة والثمانين. كانت « لير » إلتقته سنة 2009، وتكريما لذلك « المكسيكي الكوني»، نقترح ترجمة للحوار الذي كانت أجرته معه، وهو الحوار حيث تكلم الكاتب عن حب بلاده وعن فن الكتابة. باعتباره من بين كبار المقدسين في الأدب الأمريكي اللاتيني، يظل كارلوس فوينتس بالتأكيد الكاتب المكسيكي الأكثر شهرة والأكثر مقروئية في العالم. من « وفاة أرتينيو كروز » إلى « ديانا أو الصياد الوحيد »، حيث يحكي علاقته المولعة بالممثلة جان سي بيرغ، يتضمن إنتاجه الطموح قرابة ثلاثين رواية، عشر دراسات، مجاميع قصصية ونصوص مسرحية. فكثيرا ما كانت شهرته مصدر فخر لمواطني بلده، وهو لا يتباهى بذلك ويواصل حمل الكلمة الأدبية الرفيعة، والسياسية أيضا، لأنه معني جدا بالوضعية الكارثية لبلده. يستقبل الدبلوماسي السابق في بيته بمكسيكو بحفاوة - يقضي النصف الأخر من السنة في لندن -، وهو عبارة عن بيت متكتم، ليس مخبأ بحراس خاصين مدججين بالسلاح. يظل متميزا دائما، و مثقفا كبيرا ومتألقا. يبدو أكثر حميمية مما نتصوره، غريبا أيضا ولا يقاوم وهو يقلد ممثلي التيلي نوفيلا ! تسكن « المايسترو » في الغالب طاقة فريدة، الطاقة التي تروي كل واحدة من صفحات كتابه الجديد الصادر باللغة الفرنسية، « سعادة الأسر »، مجموعة من ست عشرة قصة مذهلة حول مكسيك الأمس ومكسيك اليوم، تنقطها أحداث تقطع المسار حيث العنف يصرخ بكل قوة. إنه عنف يحيل الكاتب، بلا شك، على ألأمه الخاصة، فقدان ابنيه: توفي ابنه الحامل لفيروس السيدا نتيجة عملية نقل للدم سنة 1999 وهو في الخامسة والعشرين؛ و توفيت ابنته ناتاشا في حي سيء السمعة بالعاصمة سنة 2005، وهي في التاسعة والعشرين وحبلى في شهرها السابع... إلا أن ذكراهما هي التي تجعل عملاق الأدب المكسيكي يظل صامدا، مستقيما. إلى أي حد كنت عازما على كتابة « أكثر المناطق صفاء »؟ ربما لأنه كانت لي نظرة خارجية: بما أن أبي كان ديبلوماسيا، كبرت في الخارج ونظرت دائما إلى المكسيك وفق منظور يشبه فضاء متخيلا. كنت أعود إلى المكسيك خلال العطل، لأقيم عند جدتي، وأنا مدين لهما بالكثير، لأنهما كانتا من خيرة رواة العالم. خلال كل صيف، كانتا ترويان لي حكايات من الماضي: إحدى جدتي كانت تتحدث عن أصولها الألمانية وتتذكر زوجها، البنكي ببراكروز. الثانية كانت تتذكر مجيئها من جزر الكرايبي وتحدثني عن جدي الأول الذي كان هنديا ياكي من دولة سونورا. كل تلك الحكايات المتعلقة بأصولنا، بأسلافنا، وفرتاها لي وهما تساعداني أيضا في الحفاظ على صلتي باللغة الإسبانية. وقد ساعدني ذلك الإرث ممزوجا ببعدي على النظر إلى المكسيك بنظرة جديدة، غير مسبوقة آنذاك. وهي تجربة أدبية لا تختلف عن أي تجربة أخرى... من هم الكتاب المكسيكيون الذين كان بإمكانهم تجديد ذلك النوع من التجارب؟ هل لديكم اليوم جيل في مستوى خوان رولفو، أوكنافيو باث وكارلوس فوينتس؟ ليس شخص واحد هو من يصنع الأدب، ولا مجموعة من الأشخاص، ولا حتى جيل بكامله. الأدب متتالية، ترابط حيث نقبل بالتقاليد، حيث نُدرج الإبداع. وهذا التوتر بين التقليد والإبداع هو الذي يخلق الأدب, ليس هناك كاتب بلا سوابق، وبلا خلف أيضا. سيدعى خلفنا خورخي فولبي، إيغناسيو باديلا، بيدرو أنجيل بالو، أو كريستينا ريفيرا كارسيا، مؤلفة « لا أحد سيراني أبكي «، وهي رواية فاتنة حول مارستان وماخور. ويندرج هؤلاء الكتاب، في الوقت ذاته، في القطيعة، بالنظر لأسلافهم، وفي الاستمرارية، يعني في ذلك التوتر بين التقليد والأدب الذي هو الأدب. كيف يمكن أن نخلق المصالحة بين أن تكون « سخيا كونيا ومفيدا وطنيا « تبعا لتعبير مواطنك ألفونسو رايس ، التعبير الذي أصبح مذهبك؟ n الأمر بسيط جدا بفضل المخيلة، فباريس هي التي تمثل موهبة الكاتب بالزاك: ميسيسيبي بالنسبة لفولكنر، غوغول، سان بيترسبورغ، لكن ليس هي فقط. لأنهم، انطلاقا من سياق معروف، يعطون الكلمة لمخيلتهم ويحولون تفاعل الواقعي والمتخيل إلى ما يمكن فهمه. وما يتم نقله، في النهاية، ليس البلد، ليس المدينة: إنه المتخيل والكلمات. بفضل المتخيل والكلمات تنكتب الروايات، باستقلال عن التيمة المتناولة، عن المدينة التي ننتمي إليها. لا أحد يقول بأن بالزاك كاتب باريس لا غير، بل هو أكثر من ذلك. لماذا؟ لأن له القدرة على المضي بخياله أبعد من المكان. «الرواية، التخييل، تجتاح الواقع للدفاع عنه أفضل « صرحت ذات يوم. ما الذي كنت تعنيه تحديدا؟ يعني ذلك أنه لولا ديكنس لما وُجدت مدينة لندن، لكي نعطي مثالا واضحا أكثر. من خلال مخيلته، يبني الكاتب واقع الأماكن والأشخاص. وهما يبقيان. لم يوجد دان كي شوت أبدا، إلا أنه أكثر واقعية من الشرطي الواقف في زاوية الشارع، لا وجود لشخصية أكثر قوة في الأدب الإسباني. القدرة على تخيل شخصيات تبقى وتقرأ عبر قرون، كدان كي شوت أو لويس لامبير، شخصية بالزاك، أو السيد بيكويك، شخصية ديكنس. إن مجد الأدب، رهانه الكبير: يحول العابر إلى خالد، لأننا في مواجهة العابر باستمرار، اللغة عابرة، ما يوصف عابر. فلندن ديكنس لم تعد هي لندن اليوم، لكن لولا لندن ديكنس لما وجدت لندن اليوم. كذلك هي ميكسيكو بالنسبة لكارلوس فوينتس ! أ لهذا السبب لم يعد بإمكانك الكتابة حول مدينة أخرى؟ ** بالفعل، ميكسيكو هي المدينة الوحيدة التي تنعش مخيلتي. حاولت كثيرا العيش في كل جهات العالم، إلا أن ذلك لم ينجح. حاولت كتابة رواية حول بوينس إيريس. لكن ما جدوى ذلك إذا كان خورخي لويس بورخيس وآخرون يفعلون ذلك أحسن مني؟ أو دوس باسوس حول نيويورك. لدي ترابي الذي هو مدينة مكسيكو، تراب جامح بإمكاني أن أنجز معه الكثير، تراب ينعش الرغبة، المخيلة، الذاكرة، الزمن، ينعش كل التيمات التي أتناولها منذ البداية، المكان الذي تتعذر علي الكتابة دونه. تلزمنا أرض للخلق وهذه الأرض هي مكسيكو بالنسبة لي، سواء اهتزت، سواء أصبحت غبارا أو ماء. هذه المدينة تحول دائم، وهو يمثل هذا تحديا دائما. * بخصوص دان كي شوت، هل صحيح أنك تقرأها كل سنة؟ ** كل سنة وإلا ما تمكنت من الكتابة باللغة الإسبانية. أصاب بالخرس. * « لا شيء يقتل إنسانا أفضل من أن يكون عليه تمثيل بلاده «، حين تشتشهد بجاك فاشي، السريالي الفرنسي، هل الديبلوماسي هو الذي يتحدث أم الكاتب؟ ** أحب كثيرا هذه الجملة. كنت سفيرا للمكسيك بفرنسا لسنتين، من 1975 إلى 1977، وقد انتبهت إلى أنني بصدد تمثيل بلادي بقوة، وأنني لم أكن بصدد الكتابة بالتالي. * ألا تمثل بلادك من خلال الكتابة؟ ** لا، لم أعد أرغب في تمثيل بلادي بأية طريقة كانت ! أرفض ذلك. هذا البلد شديد التنوع، كبير الثراء، قوي التناقض. ليس بإمكان شخص واحد أن يمثله. يمثله 119 مليون مكسيكي. كل واحد بطريقته. إنه بلد مليء بالتنوع، به تفاوتات اجتماعية كثيرة، له ماض يرجع إلى ما قبل حلول كريستوف كولومب بأمريكا وماض كولونيالي حاضر بقسوة، راهنية قاسية هي أيضا. من بإمكانه المجازفة بتمثيله؟ إننا نقترب منه برواياتنا. رواياتنا محاولة للإحاطة بالواقع المكسيكي، رواياتنا تقريب، دون نية تمثيله. إننا نرجع دائما إلى الكوني... * من هنا مصدر إحساسك بأن « الهوية شيء غامض «، حتى نستعير كلماتك الخاصة؟ ** أجل، إنها غامضة جدا. لأنه ليس هناك ما هو مؤكد أكثر من الهوية.... حتى اللحظة التي نضيعها فيها، اللحظة التي تكف خلالها على وجودها. إنها شيء شبيه بالحرية: نسعى إليها دون توقف، ولا نحصل عليها أبدا. ليس بإمكان أي كان أن يقول: توصلت إلى الحرية. مثلما لا يمكننا القول: أعرف ما هي هويتي. لماذا نكتب روايات؟ لأنها بحث عن الهوية يجد فيه القراء، بقليل من الحظ، بحثهم الخاص عن الهوية. و ذلك من خلال شخصيات، كائنات مختارة، نضفي عليها أحيانا واقعية أكثر من واقعنا الخاص. إنه بحث لا يكون أبدا مكسبا. وينطبق ذلك على الفنون كلها في اعتقادي. كل الكتاب الكبار في بحث متواصل عن الهويات، عن هويات عديدة. إننا لا نكتفي بهوية واحدة ممنوحة. قرأت مؤخرا كتابا حول حياة جيد: لو اكتفى أندري جيد بكونه طفلا بروتستانتيا من الطبقة الوسطى، كما كانت ترغب في ذلك أمه، لما أصبح أندري جيد. كان عليه أن يتمرد على ذلك، أن يقيم مسافة، أن يبحث لنفسه عن هوية جديدة وأن يبني عالمه الخاص أيضا. * كيف تنظر إلى العلاقات بين الأدب والسياسة: هل ينبغي أن يمتزجا؟ ** بالتأكيد، الأدب يمتزج دائما. أحيانا بشكل جيد، وأحيانا عكس ذلك... أعتقد أن الأدب يرتكز على واقع قاعدي يتشكل من اللغة والخيال. هنا تكمن مسؤولية الكاتب: ما الذي نفعله باللغة، بالكلمات وبالخيال؟ بمجرد أن يتم الحصول على ذلك، وهذا هو أساس الإبداع الأدبي، يكون بإمكان الكاتب أن يقول أيضا: أنا مواطن، وسأصوت على فلان، أو سأنخرط في هذه الإيديولوجيا. كان الشيلي بابلو نيرودا شاعرا كبيرا. أما أن يكون ستالينيا أو شيوعيا فأمر ثانوي. إنه اختيار مواطن. في الطرف الآخر، كان لويس - فيردنان سيلين مناهضا للسامية، شخصا مرعبا، لكن ما أعظم مؤلفاته ! فعل العديد من الكتاب الروس ذلك، إلا أنهم ألفوا كتبا رديئة. * في كتابك « سعادة العائلات «، تكتب بأن « الإيديولوجيا تجعل الأغبياء والأذكياء رفاقا «. وأيضا: « الفنان كائن فريد. لا يتبع سوى لفنه «... ** لا تنسى أنه كلام شخصياتي. * لكن، هناك شيء من كارلوس فوينتس في ما تجعلها تقوله، أليس كذلك؟ ** إنه أمر مؤكد. أفكر بالتأكيد في فلوبير وهو يقول: « مدام بوفاري، هي أنا «. الكاتب هو من يخلق الشخصية، إلا أن الكاتب يتخذ له مسافة. يجري كل شيء في تلك المسافة التي يمكن أن تقوم بين إبداع الكاتب والكاتب نفسه. قرأت مؤخرا رواية كتبت بضمير المتكلم، « الإرادة والثروة «، التي صدرت بالمكسيك: إنه شيء نادرا ما افعله وأنا أشعر بحرية كبيرة في كوني أظل أنا نفسي وأنا مختلف. ومع ذلك، فهو ليس كتابا سيرذاتيا. المرة الوحيدة التي جازفت خلالها في مجال السيرة الذاتية، كانت في « ديانا والصياد الوحيد «. * هل كان هذا الكتاب حول قصة حبك وجان سيبيرغ صعب الكتابة؟ ** أجل، كان صعبا جدا، إلا أن ذلك ساعدني على التخلص من المشكل، وأنا أحتقر نفسي. وجدت الكتابة كذلك، من غير اللجوء إلى لغة الخشب. خرجت من التجربة خاسرا، إلا أن المخرج الوحيد الذي كان متاحا لي هو أن أحكي فشل حب من خلال تلك التفاصيل غير الدالة للحياة، التفاصيل التي تقود إلى البحث عن الآخر ثم خسارة ذلك البحث. كانت جان سيبيرغ شخصا ميلنخوليا وهشا إلى حد بعيد، ولو أنها كانت تسعى إلى أن تظهر قوية. لنتصور فتاة في ربيعها السادس عشر تنتقل من قريتها الصغيرة بإيلوا إلى الضواحي الباريسية للقيام بدور جان دارك. لم تكن مهيأة... * الكلمات الأخيرة في « سعادة العائلات « هي: « العنف، العنف «، كتيمة مشتركة بين مجموع قصص هذا الكتاب، سواء تعلق الأمر بالعنف النفسي، السياسي، الفيزيقي. وهي تيمة حاضرة هي أيضا في كتابك. هل يمثل العنف وسواسا بالنسبة لك؟ ** أبدا، هو مطلق الحضور بالمكسيك لا غير. والجملة الأخيرة، « العنف، العنف ‹، هي تكريم لجوزيف كونراد. بالنسبة لي، كل كتاب هو فعل تخلص. إني أسعى من جديد إذن إلى التخلص هذا العنف. إلا أن التخلص يمكنه الانقلاب إلى النبوءة. ما هو جميل في الأدب، هو كونه لا يكتفي بعكس التاريخ، أنه يستبقه أيضا و، أحيانا، يذكر به. لا وجود لحاضر مطلق، بل هناك حاضر أدبي حيث للماضي والقادم حقيقة. أود قراءة هذا الكتاب، ليس كمتتالية حكايات، بل كإضفاء للراديكالية على الزمن الحاضر، الزمن الحاضر الذي يكون فيه للماضي والقادم مكانهما. * كيف أمكن للعنف أن يبلغ درجة الحدة هاته في المكسيك؟ ** لأسباب عدة. لأن البلد كبر كثيرا. فبعد الثورة، انتقلنا من 14 مليون إلى 20 مليون نسمة. وقتها كان هناك شعار إعلاني يقول: « لا يمكن لعشرين مليون مكسيكي أن يخطئوا «. أما اليوم، فيبلغ عدد السكان 110 مليون مواطن. و قد تضاعف العدد لأن لدينا صحة أفضل، وقاية أفضل، عدم وجود صراع مسلح، لأن البلد يتوفر على موارد طبيعية هامة؛ بإيجاز، لأسباب عديدة. إلا أن هناك ثابتة في المكسيك: الفقر دائما وأبدا. كما كان هومبولدت يقول سنة 1801: « المكسيك هو بلد الظلم «. إنه بلد المتسولين الجالس على جبل من ذهب. فالتفاوتات الاجتماعية وسوء إعادة توزيع الثروات من أخطر ما تعيشه المكسيك، والوتيرة لا تكف عن الارتفاع. السبب الثاني الذي جعل البلد يدخل لولب عنف درامي، هو الاتجار في المخدرات. بإمكاننا، على الأقل، مراقبة هذه التجارة، التي أذكر أنها ترتبط بشكل مباشر بطلب أمريكا الشمالية، ولو بشرعنة استهلاك المخدرات... * كان د.ه. لورانس يقول: « لا مكان يشبه المكسيك من حيث تجاور العنف و الحنان عن قرب «. أليس ذلك رأيك أنت أيضا؟ ** بالفعل، هناك حنان كبير في المكسيك، شعبها رائع. وهنك قسوة كبيرة كذلك، إلا أن الأمل يظل قائما بأن البلد سيتحسن بفضل الروح الطيبة للشعب المكسيكي. إلا أن الوضعية ازدادت تدهورا. وأنا لا أزال شابا، كان بإمكاني الذهاب إلى مقاهي وكاباريهات مكسيكو حتى حدود الثالثة صباحا وأعود إلى بيتي راجلا وبكل اطمئنان. أما اليوم، فأنا لا أجازف حتى بالذهاب وحيدا إلى زاوية الشارع. علينا، وبكل إلحاح، أن نبتكر حداثة مكسيكية حيث يشتغل القانون والعدالة. إلا أن ذلك سيتطلب منا الكثير من الوقت ومن العمل. سأكون رحلت قبل أن أرى النتيجة. * القصة الأولى في « سعادة العائلات « تتناول تيمة الفساد في المكسيك: هل يستحيل التخلص منه فعلا؟ ** ليس الفساد وقفا على المكسيك. إنه موجود في جميع بلدان العالم، بما فيها فرنسا. تكمن المشكلة في استحالة الإشارة إليه ومحاربته. يعتبر الفساد، في المكسيك، تقليدا قديما جدا، يرجع إلى الأزتيكيين، وقد انتشر في عهد الحكم الإسباني، خلال عهد الجمهورية، إلخ. إلى حد أن الاستقامة أصبحت هي الاستثناء في المكسيك. خلافا للولايات المتحدة حيث الفساد هو الاستثناء. هناك، بمجرد أن تثار قضية فساد، تكون هناك محاكمة. ليس الأمر كذلك في المكسيك. علينا إذن أن نخلق ثقافة محاربة الفساد الذي يلحق بنا ضررا كبيرا. ويتطلب الأمر محاربة إرث قرون كثيرة. إضافة إلى أنه البلد حيث توجد فوارق طبقية كثيرة، بما أن المكسيك يعتبر بلدا فاسدا بالتحديد. * ألا تساهم جبرية المكسيكيين أيضا في سير البلد نحو الضياع؟ ** أجل، بالفعل. إلا أن هناك أمرا آخر له أهميته وهو معارضة الجبرية. في معظم كتاباتي، هناك لعنة تؤثر على المكسيك وإرادة بعض الأشخاص الأحرار في مواجهتها وخلق مقاومة للجبرية. هناك بالضبط تتعقد الحبكة. حبكة الرواية، يوجد هذان الحدثان المرعبان. إنه بلد له تقليد قوي يتمثل في الفساد لكن، في مواجهة هذا، هناك ثقافة مكسيكية تواجه الفساد. هناك كتب، أغاني، معمار وهي كلها طريقة لكي نقول لا للفساد. لكنه يظل قائما. إنه صراع بالغ الحدة يجري الآن بالمكسيك، ربما أكثر مما يجري في البلدان الأخرى بأمريكا اللاتينية حيث توجد حلول سياسية أكثر. فنحن، في المكسيك، حكمنا طيلة سبعين سنة الحزب الثوري المؤسساتي: أهناك مصدر أفضل للفساد من أن يظل حزب واحد ووحيد في السلطة طيلة هذه المدة؟ * تسجل إحدى شخصيات « سعادة العائلات «: « انسل البلد من بين أصابعنا «. ما هي مسؤولية المثقفين في كل ذلك؟ ** من السهل دائما إلقاء مسؤولية الخطأ على المثقفين، إرجاع مهمة إنقاذ البلاد إليهم. أما أنا فأرى في ذلك خطأ شنيعا. ففي نهاية المطاف، على المواطنين كلهم أن ينقذوا البلاد. توجد المواطنة على جميع المستويات، الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية، الأسروية. كل واحد مكلف بمساعدة البلاد على أن تتجدد، كما يتقن الأمريكيون القيام بذلك. من المؤكد أنه ليس لهم ماض شبيه بماضي المكسيك. لقد قتلوا الهنود الحمر جميعهم، حولوا السود إلى عبيد. وها هم ينتخبون، اليوم، أسود للرئاسة. * تنغمس النصوص المكونة ل « سعادة العائلات « في قلب المجتمع المكسيكي: هل تساعدك حكايات الأسر هذه في تركيب جغرافية شخصية للشرط الإنساني؟ ** حتى داخل الأسر الأكثر سعادة، هناك دائما كبش أسود، هناك دائما شيء ما ليس على ما يرام. على هذه النقطة أصر من خلال قصصي. بخصوصية أنه بعد كل حكاية أسرة، يرتفع صوت كورال: إنه صوت من لا صوت لهم. حاولت منح هذا الصوت الجماعي لأولئك الذين يقولون: « نحن أيضا موجودون هنا «. فكرت في خلق صدى قويا جدا لصوت البؤس هذا، صوت العنف، صوت الاستياء والشكوى الدائمة، صوت أغلبية المكسيكيين. * كيف تظل على اتصال بهذا الواقع؟ من أين لك بتلك الكلمات الفجة، اللغة الراهنة لتلك الكورالات؟ ** بفضل الخيال أولا. أجني المعلومات من محيطي، من الناس الذين أستمع لهم وهم يتكلمون، إلا أن هذا يبدو لي ثانويا. لماذا أستعمل هذه الكلمات؟ أي مكانة تحتلها في الكتاب؟ ما هي وظيفتها؟ ليس ذلك مجانيا، ليس في الرواية أي شيء مجاني . ألتقط المعلومات، إلا أنني أصفيها في الوقت ذاته. أعرف ما الذي سأستخدمه وما الذي سأتركه. تكون لدي دائما معلومات أكثر بكثير من تلك أستخدمها في الكتاب. أستمع لسائق سيارة الأجرة وأقيس إلى أي حد تغير القاموس انطلاقا من « أكثر المناطق وضوحا «. قليلة هي كلمات شبابي التي تستخدم دائما. فأول رواية مكسيكية، نشرت سنة 1816، وهي تتطلب اليوم معجما حقيقيا ! إلا أنني أشتغل بحيث لا تكون هناك حاجة لمعجم لقراءة كتبي ! * هل تعتقد دائما أن الموضوع هو الذي يملي الأسلوب؟ ** نعم. إني أبحث دائما عن أسلوب يلائم ما أقوله. لست « متزوجا « من أسلوب واحد. منذ « أكثر المناطق وضوحا «، أثير العديد من الطبقات الاجتماعية، العديد من طرق الكلام، العديد من المرجعيات الشديدة الاختلاف فيما بينها، ذلك ما يبدو لي مهما بالنسبة للمكسيك. في فرنسا، كان لكم ذلك « اللون « مع رابلي، إلا أن اللغة توحدت بعد ذلك وأعتقد أن ذلك خطأ. في المكسيك، هناك دائما تنوع كبير في طرق التعبير. في تلك الرواية العظيمة، « وهج وبؤس المحظيات»، أدرج بالزاك لغة السجن، من خلال شخصية فوترين، الملقب جاك كولين. بعد ظهور الرواية، غير السجناء اللغة، لأن بالزاك، كشفها بينما كانوا يرغبون في الإبقاء عليها سرية. أجد هذه الطرفة جميلة: يكشف الكاتب لغة، يجعلها معروفة، والناس الذين يستعملونها يغيرونها حتى لا يفهمها بقية الناس. * كيف كان رد فعلك حين أثيرت، سنة 2011، فضيحة الوزير الذي أغضبه كون أستاذة تطلب من تلاميذها قراءة إحدى رواياتك، « أورا «. ** يرجع ذلك إلى الماضي، فالمسكين كارلوس أباسكال توفي مؤخرا، الرحمة عليه. في تلك الفترة، شكرته لأنه جعلني أبيع العديد من نسخ الرواية. كان وزيرا كاتوليكيا وقد ٍأى أن الرواية ليست متدينة إلى حد كبير، بدعوى أنني أصف فيها زوجا يمارس الجنس تحت صليب. لكننا في المكسيك نكاد نجد صليبا حيثما مررنا ! كل المكسيكيين يمارسون الجنس تحت المسيح المصلوب الذي يعتلي جدران جميع الغرف ! * هل أثرت وفاة ابنك كارلوس فوينتس، قبل عشر سنوات، ثم وفاة ابنتك في مجرى كتابتك؟ ** كثيرا. إنني أكتب لأجل ابني المختفيين. حين أشرع في الكتابة، أشعر أنني أكتب لهما. ذلك ما يمنحني الشجاعة، ربما من دون ذلك كنت سأتوقف عن الكتابة. وأنا أكتب أحيا حياتهما، يمنحني ذلك قوة كبيرة. هما ما يشبه كاتبا يكتب معي بشكل مشترك. الألم حاضر دائما إلا أنه يغذي الإبداعية. الكتابة طريقة للتمرد على القدر وعلى النسيان. عن « ليكسبريس «- 16 ماي 2012 S'ABONNER تحية لكارلوس فوينتس تنشر « لا ريكل دي جو « نصوصا لكارلوس فوينتس نشرتها خلال العشرين سنة الأخيرة، تكريما للكاتب المكسيكي الكبير وعضو لجنة تحريرها، الذي تبكي غيابه. والملخصات التي ننشرها اليوم نشرت سنتي 1990 و 1994 في العددين 1 و 12. أمريكا اللاتينية اليوم قضى كارلوس فوينتس السنوات الأخيرة من حياته بلندن؛ كان عالميا ومولعا إلى حد بعيد بالثقافة الفرنسية، وكان في الوقت نفسه مكسيكيا على نحو عميق. كان يطمح إلى أن يكون وريث التوفيق بين الأديان، القديم خمسة قرون والذي لا زال معمولا به، قائد الفرقة الموسيقية في الزواج الإجباري بين الهنودية المهزومة والإسبانية المجتاحة للإصلاح المضاد، إلى أنه تعرض بدوره للتخريب من قبل مقاومة ثقافات المواطنين الأصليين، ومن حيث انبثق العالم الفريد للباروكية الذي هو العالم الأمريكي اللاتيني. إنه عالم تراجيدي ورائع، حديث وعتيق، جائر على نحو مرعب وثائر، رفع الثقافة المكسيكية عاليا في رواياته كما في تدخلاته في السياسة، رفقة أليخو كاربانتيي، غابرييل كارسيا ماركيز وفاركاس ليوزا. تعرف كارلوس فوينتس على أمريكا اللاتينية الخاضعة للديكتاتوريات العسكرية، الموجودة في الحكم في كل مكان، والتي عايش تطبيقها في كل من الأرجنتين، الشيلي، وأدانها دائما. لقد تغرب إلى جنيف، ثم فرنسا بعيدا عن المكسيك، التي كانت وقتها تحت هيمنة الحزب الثوري المؤسساتي. دعم كاسترو حتى حدود 1971. ولم يكف أبدا على إدانة الرأسمالية وسيطرة الأمريكيين على البلدان الموجودة جنوب ريو كراند. لكن، باعتباره أمريكيا لاتينيا، فقد كانت معركته ككاتب ملتزم بمثابة مرافعة عملية لكي تظل أمريكا اللاتينية وأوربا أختين ثقافيا وسياسيا في مواجهة البربرية الثقافية لأمريكا الشمالية. سعى كارلوس فوينتس، قبل أي شيء، إلى أن يكون ابن سيرفانتيس وبالزاك ( ولو أنه أخذ من فولكنر ودوس باسوس تقنياته الروائية)، وكانت أمريكا اللاتينية تبدو له، بعدما تخلصت من ديكتاتورياتها العسكرية ( باستثناء بلياتها اليسارية المتمثلة في اعتقاده في النزعتين الكاسترية والبوليفارية لتشافز)، حيث حمل مجتمع مدني ملتهب مشعل أوليغارشيات متحكمة، ( تبدو له)، وهو في آخر حياته، وعدا بيوتوبيا واقعية جديدة بالنسبة لقارة كولومب، كورتيس وزاباتا. أمريكا اللاتينية اليوم، حسب كارلوس فوينتس نعتبر نحن أيضا، في أمريكا اللاتينية، بشكل من الأشكال، جزءا من أوروبا، أو أننا نحمل بداخلنا بالأحرى فكرة ما عن أوروبا. إن أمريكا اللاتينية، تقليديا، وبسبب تقاليدها الهندية، سواء منها الإسبانية أو البرتغالية، منتظمة جدا تراتبيا، من أعلى إلى أسفل، من المركز نحو الهامش. ونشرع، للمرة الأولى في تاريخنا، ، بسبب التطور الاقتصادي، الحركات الاجتماعية والثقافية التي عرفتها العشريات الأخيرة، في ملاحظة بروز تنظيمات منحدرة من المجتمع المدني، حركات نسائية، إيكولوجية، عمالية، فكرية، تعاونية، حركات للدفاع عن حقوق الإنسان، بإيجاز عديد من الأمور التي أخذت ترسم طيف المجتمع المدني، حيث تنقلب الحركة، من أسفل إلى أعلى، من الهامش نحو المركز. ويعطي ذلك إبداعية رائعة للمجتمع، الذي يتباين بطريقة شاقة مع نقص الإبداعية في العالم السياسي والمؤسساتي الأمريكي اللاتيني، وهو عالم هرم، متحجر. والمثال الأكثر درامية على هذا التباين هو البيرو: لدينا من جهة دكتاتورية عسكرية بحكم الواقع، من جهة أخرى جماعة دموية، تابعة لبول بوت، « الدرب المنير» – وبينهما المجتمع المدني البيروفي الذي يحاول، بطريقة أو بأخرى، تأكيد وجوده والانتظام بطرية مستقلة. الباروكية في مواجهة الأورثدوكسية إن الأمر الذي كان وراء ظهور الرواية الأمريكية اللاتينية نفسها، هو الاندهاش أمام الفضاء، أمام ذلك الفضاء الشاسع للقارة الأمريكية. وبإمكاننا أن ننهي بتعبير التعجب المعروف: « افترستنا الأدغال «. لمدة طويلة، كانت أمريكا الإسبانية والبرتغالية بمثابة يوطوبيا أوروبا. مثلا، كاتنت يوطوبيا بالنسبة لمونتين، بالنسبة لفابيتشي، بالنسبة لشكسبير، بالنسبة لكامبلانيلا وبالنسبة لتوماس مور... وخلال القرن التاسع عشر، انقلب الأمر: تحولت أوروبا إلى يوطوبيا بالنسبة لأمريكا اللاتينية؛ التي كانت تطمح إلى أن تكون « أوربية « مهما كلف الثمن. هناك وجه لأوروبا يحمل اسم أمريكا الإسبانية والبرتغالية؛ لا تكون أوروبا مكتملة دون ذلك الوجه الإيبيري – الأمريكي. إننا نرتاب من أن ينتهي الأمر بتخلي أروبا بكل بساطة عن أمركا الإسبانية والبرتغالية، بهجرها وتركها لمجال التأثير الأمركي الشمالي. كان الغزو الإسباني مرعبا، كان بمثابة الكارثة على العالم الهندي، إلا أن الكارثة لا تكون كارثية إلا إذا كانت عقيمة، إذا لم يتولد عنها أي شيء. أما « الكارثة « التي تمثلت في غزو إسبانيا للعالم الجديد، فقد ترتب عنها شيء ما، و ذلك « الشيء « هو نحن. إنه شعر الأخت خوانا إينيس دو لا كروز، إنه فن الباروك العظيم بالبيرو والمكسيك، إنه طريقة للتعبير، للباس، للتغذية، للحركة للحب، للتخيل... هناك ثقافة بكاملها كانت حاضرة، بعد مرور خمسين سنة على الغزو، وتلك الثقافة هي ثقافتنا نحن. لذلك، أحتاط من كل الذين يضفون نوعا من المثالية على العالم الهندي، أو يرتكزون فيه حصريا. إننا ننحدر من عالم، ننحدر من ثقافة حيث تعرضت اللغة للحصار، حيث تماهت مع صوت وحيد. بالنسبة للأزتيك، كان للإمبراطور ( كوكتزوما ) عنوان: عنوان « النصر العظيم «، عنوان من يحتكر الكلمة. وكان عالم الإصلاح المضاد ومحاكم التفتيش يقول هو أيضا: ليست هناك سوى حقيقة واحدة، ليست هناك سوى لغة واحدة، لغة الأرثدوكسية. عندما تمت مضاعفة اللغة وبعث شيء من التناغم فيها، تعددت الأصوات، أصبحت اللغة فعلا، ليس ثوريا فقط بل مبدعا لقوة مدهشة. فلغة سيرفناتيس، التي نعتبر جميعنا ورثتها، ليست سوى رد قوي على ذلك العالم المنغلق، المتجانس، المحكم الانغلاق، الأرثدوكسي. إنها الهرطقة المطلقة، الخلط بين الأجناس( الرعوي، الغنائي، رواية الفروسية، الشاذ والمثير للضحك)، اختلاط الأصوات، التقى كل شيء من جديد وتشابكت الاصوات، في دان كي شوت، في عالم انعدام اليقفينيات. فعالم الإصلاح المضاد هو عالم اليقين والمعتقد، اما سيرفانتيس فيقول: «أنا غير متيقن من دان كي شوت، لست من كتب هذا الكتاب، ما هو اسمه الحقيقي، حيث نحنة ما هو جنس هذا الكتاب... أصبحت كل حقيقة معترض عليها، أضفيت عليها النسبية، انتهى أمرها... تلك هي تقاليدنا: تأكيد قيمة المتعدد في مواجهة ثقافة الموحد، الأورثدوكسي والمتعصب. بما أن المكسيك يطمح إلى أن يكون «حديثا « مهما كلف الثمن، فقد نزع أحيانا إلى إلغاء ورفض ماضيه الباروكي. وهنا، في هذى الكتاب، « تيرا نوسترا « كان هناك تذكير ليس ب « طبيعتنا « البروكية فقط، بل بوجه خاص بكوننا وكون أمريكا اللاتينية كانت هي الباروكية.