منذ سنوات ، اعتاد المجئ إلى شجرته التي لم تخف الغابة ، في نفس الميقات الموشوم ، اعتقد جازما أن مصيرها مرتبط بكينونته الناقصة ، باح لها بأفراحه العابرة ، شكى همومه و أحزانه ، و في إشراقة مفاجئة ، اكتشف أنه أخطأ اختيار النبتة الموعودة ، غير بعيد منها ، كانت شجرته المرصودة تقف شامخة ترفض النحيب و الإذعان لريح العشي الرعناء . لم يكن يهمه الغصن الهارب من تلك الشجرة الشقية ، تساقطت الأوراق فوق رمل الكثبان المنسية ، و الجذور ماتت ذات جفاءٍ قاس ، وهو يبحث عن سبيل الحياة من موقع آخر! جلس عند جذورها ، اعتذر لها من الوقت الضائع ، أتعبته أجنحة فراشات لا تستقر على حال ، و من علم الغيب ، أتته دعوة ملفوفة بعناية ، جهز النفس لحتمية الوداع والرحيل ، أطل على السرير الترابي البارد ، طوى الكفن بعناية ، وضعه في رف يفضح بياضه لأول ضيف عابر ، وفي عرف العشيرة الدائخة ليس هناك سوى كفن واحد وبياض أوحد . استحضر أسراره مع فراشات يومه الناعمة ، حطت فوق كفه اليسرى ، تراقصت الأجنحة بألوانها الفاتنة ، تأمل روعة السخاء الطبيعي المفتقد ، فاجأته ريح العشي الصقيعية ، فر السرب عن يسراه المرتعشة ، لم ير في الفراشات سوى أجنحتها الراقصة ، تركها فوق أزهار الشر الدموية ، قرأ لها نشيد الوداع ، و لم ينتبه للذي راح . انطلق السرب المتعب في سباق تأكيد الذات و ممارسة الكثير من الشغب ، انفرط العقد ، مع توالي الأيام ، ضيع أقران الحلم الكبير حرقة الحرف الشاهد ، أصابت الأجنحة المعاقة سموم الانحياز لغباء المنبطحين وكلما حاول نسيان ملامح الاستخبار و البيع و الشراء ، ذكرته بلادته الموروثة بحقارات المتسخين بأحقاد الافتراس والشجرة التي لم تخف الغابة . قبل الفراق ، قرأ لها قصيدة عن عهر الخونة وملامح مهربة من مسرحية السذاجة وحقارات العجز المبين و أضرحة المخبرين العميان ، ظلت صخرة باردة ، لم تصبها عدوى الألم و الندم ، اكتفيت بالهروب إلى الأمام ، قالت : « ولكنها الحياة يا عزيزي ! « ، ابتسم من عادات حليمة القديمة ، اختار الاتجاه المعاكس ، وانصرف يستمتع بليلة مقمرة تمنح الحنين شرعية اليقين . طار فوق سرير الريح الخرافي ، ، دون مقدمات و لا فخاخ صدئة ، ابتعد عن قبر التراب وحقارات الغياب ، وصله الصوت الحق بشاعريته الباذخة ، داهمته تفاصيل امتلاء غير متوقع وارتاح للخواء . خمس سنوات وهو ينتظر أن تحلم الشجرة وتلد فاكهتها الأولى ، وعكس الانتظار الحارق ، تهاوت ظلال الرعشة، تساقطت الأوراق ، تعرت الأغصان المتشابكة ، طلعت الشجرة مجرد خبر كاذب لا ينتج سوى المرارة ، اختفى القمر، عم الهلاك ، وانتشرت ديدان الفناء تحفر ثقوبا كبيرة في جذوع الخدعة المتخاصمة مع التراب ، وبعض الحنين سُبَّة في حق الذكرى .. و الكثير من الحنان خدعة .. والإيقاع نبض مضطرب لا يستقر على نغمة. أصر على فضح أسطورة الغابة المتوحشة ، تناسى أحقاد شيوخ الإرث الموبوء ، لم يلتفت للأعداء المختبئين تحت موائد النميمة والحسد ، ومن باب التصنع و الانتهازية ، داهمته فاكهة معروضة في غير وقتها المعهود ، مشى طويلا في ظلمة دغل حمقاء ، ومع شؤم أجنحة تصفق للخراب و تقاطع العلامات حان الوقت جرب الابتعاد عن ظلال الغياب . تذوق طعم حبيبات رمل داهمته رفقة إعصار جعله يبِيتُ دون أن يُصبِّح ، ولسر يجهل حقيقته ، استدفأ بحطب حنين حارق و لعنات اشتياق عبرت طرق الحب و الموت و قادته لزيتونة فاتنة معزولة في هاوية وادي مهجور. اللعنة على الشجرة وجحيمها الموعود ، فكر فيها صباحا و مساء ، آمن بسلطتها عليه ، استغرقه الحلم بسحرها الأسطوري ، كرِهَ المجهول وسين التسويف ، آلمته الغصة في الحلق ، تمادت الأقدار في استغبائه و إغراقه ببحر الحيرة المالحة و احتمالات الظلمة الكريهة . بعد تفكير عميق ، اعترف بوهم حضورها في الغياب ، أغصانها البهية تأسره ، تسلب منه إرادة النجاة من ظلام يخنق النفس ، ووجه الماء قناع يجهل ما يوجد خلفه من مفاجآت ، و القرار المأثور في عشق الشجرة المعلومة :» اركب غصن المزاج الغاضب ولا تقترب من نبتة مستنقع نفتنك بهدوئها المخادع وهي تعتنق خرافة القتل الصامت ! « . تستعير الحَدْأَة بياض النورس الجائع في مناحة العشيرة التائهة عن واحة الأصفياء ، تحتمي اليمامة المجروحة بظل نخلة ماتت واقفة وهي تجهل مسارات الرياح الماكرة ، وطائر الحسون يغير إيقاعات النشيد المرتجل ، للوقت لون الربيع الفاتن وللنبض شقاء الهوية. من سوء حظه المنحوس أنه أحب شجرة الجنة المشتهاة في الوقت الغلط ، اعترف بموت الزهرة في أرض لم تعد تغري بالحرث المقدس ، عانق الصخرة ، وتدحرج لهاوية الأفاعي المظلمة . داهمته أخبار لحية شوهاء وأفعى كسلانة احتلت قعر البئر الوحيدة ، منعت العطشى من ماء الحياة ، وزوابع الرمل الهاربة تعمي الأعين والبصائر ، وهم لقنوه الدرس الذي لا ينسى .. للعالم قرْنا ثور مسعور ، للقبيلة ريع الدعاء والأسطورة، ولا أسرار في بئر الحنين و مقبرة النسيان . استيقظ متعبا من نوم ثقيل ، كل ذكرياته صارت في خبر كان ، لا ماض يشده للشجرة الميتة ، لا أحقاد توقد الحروب ، ولا حنين يشتعل ، طاف بين أشباح الغابة صامتا ، وجوه عابسة ، خطوات مذعورة ، وفي سره تساءل عن سبب الغباء الظاهر. رفض أن يكون حطبا يابسا تحرقه الأقنعة والأرواح الشريرة ، نصف دورة في معرض الإدانة كانت كافية ليقتنع بلا جدوى خروجه نحو نهر الظلمة وبشاعات الأوغاد . أحصى نصف حُبيبات العقد الغامض ، لم يعرف كيف يحمي سبحة الوقت من الانفراط ، استسلم لسؤال العبث وهمس بصوت خافت : «ما الذي كان يمكن أن يقع للسبحة لو التقت الحسناء بعاشقها المزعوم وتاها في أطلس الجرح الدفين وهداياه المفاجئة؟ ماذا كان سيقع قرب الشجر المرصودة ؟!!! « .