ما أوحى لي بهذا العنوان، هو الحضور القوي والمتميز للكفاءات والأطر الاتحادية في موضوع قضيتنا الوطنية الأولى، سواء في الإعلام العمومي من خلال بعض البرامج الحوارية التي تناولت التطورات الأخيرة لقضية الصحراء، أو أثناء اليوم الدراسي الذي نظمه الفريق الاشتراكي بمجلس النواب حول نفس الموضوع. وما كنت لأفكر في هذا الأمر، لولا معاول الهدم التي لا تتوقف عن الاشتغال، سواء من داخل البيت الاتحادي أو من خارجه، خدمة، إما لحسابات شخصية (بما فيها الانتقام) أو لفائدة جهة أو جهات معينة. والهدف هو العمل على تحجيم الحضور الاتحادي في الخارطة السياسية المغربية، إن لم نقل تغيبه عنها: ألم يسبق للبعض أن أصدر شهادة وفاة في حق حزب القوات الشعبية العريق؟. وكم احتفت الأقلام المأجورة بمثل هذا الحكم وغيره لتوغر بسمومها الجسم الاتحادي، قيادة وقاعدة، تنظيما وممارسة ! لكنها، في أحسن الأحوال، تصاب بالخرص أمام كل هالات الضوء (ما لم تعمل على تعتيم الرؤيا بشتى أنواع الافتراء) التي ما فتئ حزب المهدي وعمر يبعثها لإخراج البلاد من ظلمات الاحتقار والتعسف والظلم إلى نور الحداثة والكرامة والعدالة الاجتماعية. ورغم كل الدسائس وكل الضربات الموجعة الموجهة إليه من جهات متعددة، فإن حزب القوات الشعبية، مثله مثل طائر الفينيق، لا يلبث أن ينبعث من الحريق ويفرض وجوده بكل قوة. فالصوت الاتحادي الأصيل لا بد أو يجلجل في سماء الوطن وخارجه، خاصة حين يتعلق الأمر بالقضايا الوطنية الكبرى التي من أجلها أسس الاتحاد. فالحضور اللافت للكفاءات الاتحادية في ملف القضية الوطنية، لا يمكن أن يتغافله إلا من في قلبه مرض. ومما يثير الانتباه، هو أن هذا الحضور لا يكون، بالضرورة، تحت يافطة الانتماء الحزبي. ولهذا الأمر أهميته. فالكفاءات الاتحادية ليست فقط هي تلك التي تتحمل مسؤوليات حزبية معينة؛ بل هي أيضا تلك التي فرضت وجودها في المجالات المختلفة التي تنشط فيها، إما مهنيا أو جمعويا أو فكريا أو غير ذلك. فإذا أخذنا، مثلا، إحدى حلقات برنامج «مباشرة معكم»- الذي يقدمه الصحفي «جامع ﮜولحسن» في القناة الثانية- المخصصة ل»مستجدات ملف الصحراء»، نجد أن من بين الأربعة الحاضرين في البلاطو لمناقشة هذا الموضوع، ثلاثة منهم اتحاديون. صحيح أنهم لم يكونوا حاضرين بصفتهم الحزبية: ف»الموساوي العجلاوي» قُدِّم بصفته الأكاديمية (باحث في المعهد العالي للدراسات الأفريقية) و»نوفل الباعمري» بصفته الجمعوية والأكاديمية أيضا (باحث) و»عبد الحميد جماهري» قدم بصفته المهنية(صحافي، مدير نشر جريدة «الاتحاد الاشتراكي»). لكنهم كلهم اتحاديون وتقلبوا في المسؤوليات الحزبية المختلفة، سواء في القطاعات الحزبية الموازية (الشبيبة الاتحادية، مثلا) أو في الأجهزة الوطنية للحزب (اللجنة الإدارية، بل وحتى المكتب السياسي، كما هو الشأن بالنسبة ل»جماهري»). وهو أمر بالغ الأهمية، خاصة في هذه الظروف التي تجتهد فيها عدة جهات، في تكالب مثير، للنيل من الحزب وقيادته. فأن يضم برنامج واحد ثلاثة اتحاديين من بين أربعة متدخلين في هذا البرنامج، لن يكون إلا مصدر اعتزاز بالنسبة لكل اتحادي حقيقي؛ وأن يكون هذا البرنامج حول القضية الوطنية، فهذا لن يزيد على أن يؤكد الاختيار الوطني الثابت للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، باعتباره امتدادا لحركة التحرير الوطنية. وهو الاختيار الذي يَمُجُّ ويرفض كل مزايدة أو مساومة أو مَنٍّ على (أو باسم) القضية الوطنية. ويأتي برنامج ضيف «الأولى» الذي يقدمه الصافي «محمد التيجيني» ليؤكد، لمن يحتاج إلى تأكيد، بأن الأطر الاتحادية لها كفاءات عالية وذات خبرة واسعة في القضايا الوطنية الكبرى. فقد استضاف البرنامج- الذي خصص لمناقشة التطورات الأخيرة للقضية الوطنية- الأخ «عبد الكريم بنعتيق»، ليس بصفته السياسية (عضو المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي) بل، هذه المرة أيضا، بصفته ناشط وباحث بمركز الدراسات الإستراتيجية والدبلوماسية بباريز. ومن دون شك أن المشاهد قد لاحظ الخبرة الكبيرة والاطلاع الواسع والعميق والتمكن النظري والعملي من الملفات المطروحة للنقاش، الذي أبانت عنه العينة (أو النموذج) من الكفاءات الاتحادية الوطنية (وما أكثرها، والحمد لله!) التي قدمها التلفيزيون المغربي بمناسبة مناقشة تطورات ملف الصحراء. فالأطر الاتحادية لا تتردد في خدمة القضايا الوطنية، بغض النظر عن اليافطة التي تُقدَّم تحتها أو الصفة التي تُقدَّم بها. وعلى صعيد آخر، فقد نظم الفريق الاشتراكي بمجلس النواب ندوة في موضوع «القضية الوطنية.. من أجل إستراتيجية مستقبلية»، تميزت بالعرض السياسي الافتتاحي لرئيس الفريق، الأستاذ «إدريس لشكر»، ومداخلات كل من «محمد الخصاصي»، «حسناء أبو زيد»، «عبد الحميد جماهري»، «محمد بن عبد القادر» و»الموساوي العجلاوي». وهم كلهم أطر اتحادية، ذوو اختصاصات واهتمامات متنوعة، مشهود لهم، كفعاليات سياسية وإعلامية وأكاديمية، بالكفاءة العالية وبالنضال المستميت دفاعا عن القضية الوطنية، كل من موقعه. وقد قدموا تصورات ورؤى متكاملة حول ملف الصحراء؛ مما جعل الكاتب الأول للحزب، الأستاذ «إدريس لشكر»، في ختام أشغال هذه الندوة، يعلن عن إنشاء «لجنة الصحراء» داخل الاتحاد، نواتها الصلبة من المتدخلين في هذه الندوة. وتُبرز الأمثلة التي سقناها، في الفقرات أعلاه، القيمة السياسية والفكرية للاتحاد وأطره؛ وهو ما يجعله، في نظر الملاحظين الموضوعيين، طبعا، وليس المتحاملين، عصيا على الهضم ويشكل معادلة صعبة في المشهد السياسي المغربي. قد يلومني البعض على الاقتصار، في هذا المقال، على الحضور الاتحادي في النقاش الدائر، وطنيا، حول ملف الصحراء دون الاكتراث بما تقوم به جهات أخرى، رسمية وغير رسمية، في هذا الشأن. وقد يرى هذا البعض في الأمر أنانية مفرطة وتبخيسا بيِّنا لجهود الآخرين. وأؤكد، لمن قد يتبادر إلى ذهنه هذا الأمر، أن المقارنة لم تكن واردة في ذهني لاعتبارات عدة؛ ومنها عدم القدرة على تتبع كل ما يبث وما يكتب حول هذا الموضوع حتى تكون المقارنة موضوعية وعلمية. بالمقابل، لن يجد الملاحظ اللبيب والمتتبع الموضوعي للحياة السياسية ببلادنا صعوبة، من خلال العناصر المتوفرة، في تكوين فكرة واضحة عن مدى مساهمة كل جهة، رسمية أو حزبية، في الدفاع عن القضية الوطنية؛ مما يسمح بوضع كل هيئة أو مؤسسة، في مكانها الحقيقي على مستوى المسرح السياسي الوطني والدولي. وإذا استثنينا المسيرات الشعبية (وخاصة مسيرة الرباط ومسيرة العيون) التي دعا إليها المجتمع المدني وشاركت فيها كل التنظيمات السياسية والنقابية وغيرها، تنديدا بتصريحات الأمين العام للأمم المتحدة؛ واستثنينا الموقف الرسمي الذي تميز بالقوة، سواء من خلال القرارات والتحركات الدبلوماسية أو من خلال الاتصالات والزيارات الرسمية أو الخاصة التي قام بها الملك لبعض الدول المؤثرة في القرار الأممي، فإن التعبئة الحزبية في الدفاع عن القضية الوطنية فكريا وسياسيا ودبلوماسيا (أقصد الدبلوماسية غير الرسمية)، تتميز بتباين كبير بين مكونات المشهد الحزبي، سواء من حيث الحضور السياسي والفكري أو من حيث الحضور الفعلي في الساحة. وأترك للقارئ أن يقدر مدى هذا التباين وأسبابه التي، على كل حال، ليست مرتبطة برتبة الأحزاب في الانتخابات؛ وإلا لما كنت اخترت العنوان أعلاه لهذا المقال. في خطوة مفاجئة، راسل وزير التعليم العالي والبحت العلمي السيد لحسن الداودي في مراسلة تم تعميمها على رؤساء الجامعات المغربية ومراكز البحت العلمي، يوم 20 ماي/أيار 2016، يطلب فيها بعدم قبول مناقشة أي أطروحة الدكتوراه جديدة إلا بشروط جديدة تتمثل أساسا، في وجوب نشر مقالة واحدة على الأقل باللغة الإنجليزية من طرف الطالب الباحث المقبل على المناقشة، كما جاء في مضموم المراسلة ضرورة اعتماد مراجع بهذه اللغة، وكذا إنجاز ملخص للدكتوراه بالإنجليزية، وإشراك أستاذ داخل لجنة المناقشة يتقن هذه اللغة. كل هذا بمبرر «النهوض بالبحث العلمي بالجامعات وتحسين مخرجاتها والاستفادة من نتائجها بمختلف أنواعها»، كما جاء في المراسلة التي تم تعميمها على رؤساء الجامعات. من حيت المبدأ لا يمكن لأي باحث أن ينكر أهمية اللغة الإنجليزية في موضوع البحت العلمي على اعتبار انها اللغة الأولى في البحت العلمي عبر العالم كله، وجميع المقالات والأبحاث والمراجع وأيضا المجلات المعتمدة والمفهرسة غالبا إن لم نقل في مجملها ما تعتمد اللغة الإنجليزية شرط من شروط النشر فيها. لكن رغم كل ما سبق وأن ذكرناه حول أهمية اللغة الإنجليزية في تطوير مؤشر البحت العلمي الخاص بالجامعات المغربية فإننا نسجل الملاحظات التالية حول هذا القرار الوزاري. أولا: كان على الوزارة قبل تنزيلها لهذا القرار بهذه الطريقة الفجائية والمتسرعة أخذ مجموعة من الإشكالات بعين الاعتبار، ومنها أن يتم استثناء الطلبة الباحثين المقبلين على مناقشة أطروحاتهم من هذا القرار. فلا يعقل أن نطلب من باحت قضى ثلاث سنوات إلى ستة سنوات في الدكتوراه، ويمكن ألا يكون قد نشرا مقالا بالإنجليزية من قبل، أن نطلب منه الأن امتلاك مقالا بالإنجليزية بهذه البساطة، وهو شرط يبدو تعجيزيا بالنسبة لهذا الحالات. اذن كان على القرار أن يخص فقط المقبلين الجدد على التسجيل في سلك الدكتوراه، ويستثني جميع الباحثين القدامى لنفس للاعتبار الذي تحدتنا عنه من قبل. المسألة الثانية وهي أن مشكل اللغة الإنجليزية الذي يصر الوزير الداودي على تطويرها في أوساط الباحثين بين عشية وضحاها غير مرتبط بدوات الباحثين أنفسهم أو اجتهادهم من عدمه، بل هو مشكل بنيوي في الأصل، وهو مرتبط بالنظام التعليمي المتخبط والمرتجَل في هذه البلاد السعيدة، فهو نظام تعليمي يتم إلزام الطالب فيه بتلقي تعلمه بدايةً باللغة العربية في مراحله الأولى (التعليم الأساسي والإعدادي تم الثانوي)، تم بعدها نلزمه بتعليم مفرنس في مرحلته الجامعية، وفي الأخير نريد من هذا الطالب الباحث أن ينشر أبحاثا بالإنجليزية في نهاية مشواره الدراسي (سلك الدكتوراه). ففي فهمنا المنطقي للأشياء، لا يستقيم أن تأتي الوزارة اليوم لكي تحاسب طالباً باحثاَ في نهاية مشواره الدراسي (الدكتوراه) حول إتقانه اللغة الإنجليزية وهو لم يدرسها أبدا. في النهاية نحن نشك في النوايا الحقيقية وراء هذا القرار الذي لم يأخذ بعين الاعتبار وجهة نظر المعنيين واشكالاتهم في هذا الموضوع. كما نخشى أن يكون الغرض منه فعلا هو التأخير بغرض تأجيل أزمة الخريجين الجدد الحاملين لشهادة الدكتوراه والذي يلوح في الافق، وربما تخشى الحكومة في ان تنضاف أزمتهم الى أزمة جمهور المعطلين أصحاب الشواهد الجامعية (الماستر) الذين لم تفكر الحكومة يوما ما في ايجاد أي حل لبطالتهم. كما أننا نخشى أن يكون هذا القرار يرموا الى غلق الأبواب في وجه خريجي الجامعات العمومية من التسجيل في سلك الدكتوراه لكي يعطي الأفضلية لخريجي المعاهد الخاصة التي بدأت الوزارة فعلا باعتماد شهاداتها ومنحها حق تسجيل باحثين في سلك الدكتوراه. وإذا كانت الوزارة صادقة فيما ترموا اليه من تطوير ملكة الإنجليزية عند الطلبة الباحثين فمن الذي يمنعها بأن تُضْمن في مراسلتها أيضا إلزام هذه الجامعات بتقديم تكوينات مجانية ومعمقة للطلبة الباحثين في مادة اللغة الانجليزية، عوض ان تنزل بهذا القرار كالصاعقة على رؤوس الباحثين وتتركهم عرضة لسماسرة اللغة الإنجليزية في المدارس الخاصة ومراكز الترجمة. * طاب باحث، المنسق الوطني للتنسيقية المغربية للدكاترة والطلبة الباحثين.