1 وصلت إلى شاع محمد الخامس استطرادا، إذ لم يكن وجهتي الأولى. قصدت أولا حي«الجزا» أبغي إصلاح عطب في هاتفي المحمول. ثم وجدتني أنتقل بين أزقته، وبين حشد المشترين، والباعة، الرجال والنساء والفتيان، وكثير من المشردين والعاطلين، واللصوص، خاصة. كنت كالسائر في نومه، ومتكاسلا، متعطلا، مع المتسوقين،وخارجهم، حتى إني صرت أحس وأرى فيَّاثنين، ما أقلقني للوهلة الأولى، ليتطور الوضع كما لم أتوقع بتاتا. 2 وجدتني بلا انتباه أنتقل من سوق الهرج في«الجزا»، إلى شارع محمد الخامس، بطواعية لم أعهدها فيَّ من قبل.، فقد فترت علاقتي بهذ الشارع منذ أعوام، بعد أن فقد قيمته التجارية وتحول إلى طريق للعابرين والمتسكعات، ومن يبحث عن أي شيء، وعن لاشيء. فكرت أن المبتغى الأخير يناسبني، أي أني، وبعد إصلاح هاتفي،تركت قدمي تنقلانني وحدهما، بحركتهما المنفصلة عني،لا بإرادتي. 3 هذا في الظاهر،لأن الآخر، أو الثاني فيّ أنا كان يدور في رأسه شأن مختلف. جاء إلى الشارع بحثا عن شيء محدد، جاء، بلغة الصحافة ل» يقيس نبض الشارع». لا بد أن أسجل أن يوم تجوالي هذا صادف الجمعة رابع فبراير، وقد مضى أسبوع على انتفاضة المصريين بشعار:»الشعب يريد إسقاط النظام». هكذا، فأنا بوضوح تام جئت لأتحسس أحوال الناس، الشعب، في هذا الشارع الرئيس من مدينة الرباط، عاصمة الملك والحكومة، والبلاد، طبعا. 4 كنت أمشي بتوءدة، بخطوة المتسكع، الذي لا يلوي في الظاهر على شيء. أرتدي بنطالا وبلوفر أسود، ومعطفا باللون ذاته، واضعا على عيني نظارتين سوداويين،أيضا. أشبه سائحا، أو بالأحرى مفتش شرطة في مسلسل تحريات أمريكي. أوزع نظرات مسددة ومبعثرة في وقت واحد. بدأ سيري من أول الشارع عند مبنى وقيسارية المامونية، مرورا بمتجر نهيرا، ومكتبة كليلة ودمنة كلها من جهة اليمين وصولا إلى بناية المقر المركزي للبريد. 5 انتقلت إلى الرصيف الأيسر من الشارع، من غير أن ألحظ ما يختلف كثيرا عن الرصيف الأيمن. دائما، نساء ورجال يتسكعون، فتيان يتنطعون ويغازلون، بنات يعرضن مؤخراتهن المكورة بإثارة واضحة، وسابلة يسرقون وقوفا عناوين صحف ومجلات مفروشة أرضا أمام الأكشاك، ولا يقتنون. سيارة شرطة تمر متمهلة، تظهر، وتختفي، لتعاود الظهور. شعرت أخيرا بالضجر حقا، بلغط يضرب أذنيّ، لكني لم أسمع نبض الشارع، الذي جئت.ل.. 6 أردت أن أسأل حارسا عند مدخل عمارة أين ذهب الخريجون المعطلون الذين يُرون كل مساء، وهم يركضون هاربين من هراوات مكافحة الشعب نعم الشعب،لا الشغب تطاردهم انطلاقا من الساحة المقابلة للبرلمان في وسط الشارع، وهم ينددون بالحكومة مطالبين بالشغل والكرام، و..اقتربت فعلا من الحارس، بادرت بالسلام، وأظن همهمتُ بكلمة أو كلمتين، جعلتاه يصفق ورائي باب العمارة. عزوت ذلك إلى هندامي الأسود على الأرجح، المشبوه، دون أن أجزم بشيء، رغم أن كل هؤلاء الحراس مخبرون لدى الأمن. 7 لم يظهر لي في أعلى الشارع، وعلى امتداد ساحة البرلمان، سوى عائلات شبه ضالة، متبعثرة بأطفالها يلاحقون أزواج الحمام، وهم يمشون مترنحين، ليس لهم غير هذا المكان للفسحة، وبما أنهم هنا، خمنت أنهم فرحون،على الأقل مرتاحون نوعا ما،جاؤوا ليبدلوا ساعة بأخرى، كما يقول المغاربة، وإذا كانوا قد سمعوا بغضبة شعب تونس الذي أرغم رئيسه على الهرب، وبانتفاضة شعب مصر الذي يصر على إسقاط النظام، ورحيل الرئيس، أيضا، فلا يبدو أن شعب الرباط قلق أكثر مما ينبغي، وإذن، أستنتج، أن نبض الشارع على ما يرام. 8 ازددت تأكدا من استنتاجي، وأنا أنتقل من ساحة البريد إلى الجهة العليا من شارع محمد الخامس، منخرطا في ممر الأقواس الصاعد نحو مقهى باليما الشهير. على طول الممر الذي خضته إلى أقصاه شمالا، مشرفا على ساحة العلويين، وعدت أنزل من جديد إلى ساحة البريد، اقتنعت بأن شعب الرباط مبتهج، يأكل البزر، ويتحلق مزدحما أمام محلات العصير، يقبل بنهم منقطع النظير على الحلويات والمونادا بأصناف، ويهدر، يهدر، في المحمول بلا حدود. فأي سعادة هذه، وأي مزاج رائق لدى شعب الرباط ! 9 الظاهر أن الشخص الآخر الذي كان يرافقني، أعني يزدوج بي، لم يعجبه هذا الحال، أو لم يفهمه،أو أشكل عليه، ففكر في الانقلاب على هذا الوضع الرائق في النهاية، وليس لأن طبعه لا ينسجم مع الاتفاق العام، يتوسوس دائما إن رأى السكينة سائرة بين العباد، ولكن لشك انزرع فيه فجأة جعله يتصور أن ما هو فيه، وحوله من مشاهد وحال، إنما هو ترتيب مسبق، ومسرحية منسقة، لها مؤلف ومخرج وممثلون وكومبارس، وهو الناظر،الصاعد، النازل في الشارع الباهر، متفرج، مخدوع ككل المتفرجين، وأي مسرحية تبنى على الخدعة، وأنه هو سيتحول إلى متفرج أهبل إن سقط في فخ الخدعة،وانطلت عليه، كما هي على الأقل. 10 «كلا، لن تنطلي عليّ !» صرخ الذي يقول أنا، حتى إن بعض المارة استوقفتهم صرخته، رغم اللغط المتعالي من كل جهة. أعاد عبارة استنكاره وهو يعبر من جهة ممر بنك المغرب إلى الساحة المقابلة، بخطوة وئيدة، وعيناه تريان ولا تريان في آن، إذ أخذت الصور تزدحم في منظوره، وخياله معا، لا يفرز أيها أقرب إلى الحقيقة، وأغرب من الخيال، ويدير في رأسه حبكات لما يمكن أن يقدم عليه الانقلاب على وضع بدا موقنا، مقتنعا، أنه ملفق، قائم على الخدعة، مثل كثير من الأمور في الحياة، وأن عليه إعادة الحقيقة إلى نصابها. 11 وهو قادم من ممر البنك قبالته ساحة جديدة تم تهيئها حديثا بعد هدم بناية قديمة كانت مقرا لوزارة الإعلام. لم يفهم . لم يفهم أحد لماذا تمّ هدم تلك البناية الاستعمارية الجميلة. المهم أنها تحولت إلى ساحة معشوشبة،لكن بدون كراسي،وصار العاطلون والعشاق يطوفون بها لتزجية الوقت، مساء خاصة، يقطعون عندها نصف مساحة شاع محمد الخامس، من جهة اليسار. ثم، وفي تحول سريع جعلت السلطات تندم على صنيعها تحولت الساحة إلى مكان ملعون، عندما اتخذها الخريجون المعطلون موقفا للتشاور والتنسيق لهجوماتهم المتراوحة بين الكر والفر أمام البرلمان للمطالبة بالشغل والكرامة، ويندس معهم أحيانا آخرون يهتفون من أجل الديموقراطية الحق، والانتخابات النزيهة،والإسلام أولا، وشعارات أخرى، وأخرى. 12 حاذيت الساحة،أولا،ثم رحت أطوف بجوانبها،وانتهيت بأن قصدت موقعا وسطا أقل ازدحاما. الساعة السادسة والنصف مساء، وهنا هي ساعة الذروة. لذلك وجدت الوقت مواتيا لأنفذ فكرتي وخيالي. انتصبت في موقعي كمثال، وأغمضت عيني علني ألفت نظر القوم. لا فائدة. صرخت بهياج فضاع صراخي في زحام المارة واللاغطين. في النهاية، قلت سأفعلها، سأفعلها، وليكن ما يكون. هكذا، شرعت في نزع ثيابي أتعرى ببطء، لكن بشكل أكيد، وهنا بدأت الحلقة تتكون حولي، واحدا، واحدا. 13 واحدا، واحدا يفدون. بتردد، بحذر، و بشك وفضول واستنكار،للاستخفاف وللفرجة، أيضا. كنت قد فكرت مثلهم. الجمهور يحتاج دائما إلى فرجة. وهم أنفسهم يمشون متسكعين، متنطعين، في شارع محمد الخامس يمثلون فرجة. والفضائيات هذه الأيام تقدم انتفاضة الشعب في تونس، وفي مصر، كفُرجة. هم هناك يهتفون، وينددون لرحيل طاغية، ويريدون ترحيل الثاني، بينما شعب الرباط،» شعبي»، يشاهدهم في شاشة الفرجة. 14 أطلقت صرخة مدوية ثانية،لا شك تهز الجماد،فكيف بالبشر، نطقت فيها بالكلمة الأولى: «الشعب»، وطفقت أعيدها، وفي غمرة وجداني، أو غضبي، أو قرفي، أو حتى يأسي. انقذفت الكلمة خارج لساني،أبعد من فمي:»الشعب؛الشعب؛ الشعب.». صرنا اثنين، بل ثلاثة: أنا بجسدي الواقف،وفمي بحنجرتي ولساني الصارخين، والكلمة بمفردها جسدٌ وحنجرةٌ ولسان، لغةٌ ومعنى وموسيقى، حقٌ وظلم، حق وظلم، ضرب ورفس، رصاص ودم وأرض فسيحة كله جسد متراص، اسمه الشعب. 15 مضى بعض وقت وأنا أنتظر.أتوقع أن يلتقط واحد من الواقفين الكلمة ليسألها ما بها، ليمسح عنها ما عفّر وجهها،الجرح الذي أثخنها، ما سامها خسفا واحتقارا. اللصوص ممن بلعوها لقمة سائغة. انتظرت طويلا قبل أن أسمع من حلقة تحيط بي، حلقة تشابكت رؤوسها فتحولت إلى ما يشبه أجمة، وهي تمد نحوي أعناقا تطول تارة، لتتقلص أخرى، مع أجساد تترنح كالسَّكرى، من أثر لا أعرفه، أو على الأرجح تهييئا لاكتمال الفرجة التي أنا بصددها؛ لقد ظنت، ولاشك، أني مرقص ثعابين.. سمعت أخيرا من يسأل بنبرة لا تخلو من سخرية: ّ»هه، ماذا عنده هذا الشعب، شعبك؟!». 16 أظن، وبعض الظن إثم، وشكّ، ووهمٌ، أن غيري من تصدى للجواب، لأني لا أعقل الآن، وأنا أدون ما جرى، وربما لم يجر قط، أي خُيّل إليّ فقط. أظنني رأيت في ما يرى الصاحي الكلمة، سمعتها ترد على السائل المستخف بثبات وثقة:» الشعب يريد..»، وتعيد:»الشعب يريد..». تراءت لي الكلمة شخصا، شخوصا، بل رأيتها كذلك،بل رآها أمامي، بعيني وعيونهم، جمهور الحلقة، شدت أبصارهم وأسماعهم، لأنهم أشاحوا عني قد ولّوا وجوههم إلى ناحية غيري، إلى صوت هائج يحتج:» الشعب يريد.. الشعب يريد..». 17 وقد «اختلط الحابل بالنابل؛ قد انتقلت حلقة الجمهور إلى قلب الفرجة، وصرت الجمهور، ضجوا مستغربين، منكرين، مبسملين ومحوقلين:»لا، لا، هذا سحر،هذه شعوذة، هذا باطل، هذا جن، بسم الله الرحمن الرحيم.». ومن قلب الأجَمَة انبرى شخص بملامح تشبهني يحتج مستنكرا: آش من شعب، الشعب مالوا؟، الشعب ما باغي والو !». لم أنتبه، ولا قدرت على التحكم في الكلمة التي انزلقت إلى جانب عبارة:»الشعب يريد..». جاءت كلمة»إسقاط» واصطفت إلى ما يسبقها جاحظة العينين وهي تحملق في الواقفين، أضحوا ثانية منبهرين. 18 استوت الجملة على الشكل التالي:»الشعب يريد إسقاط». أخذت أعلكها بصمت كلُبان، فلم تعجبني. كررت مرات، فلم أفهم ولا استسغتها. تدخل فتىً في الحلقة يقول: ولكن هذه جملة ناقصة. حاولت تجاهله، فألحّ: نعم ناقصة، بمعنى أن «الشعب يريد إسقاط من؟، ماذا؟ وهو يطلب مني الجواب. هنا كانت الحلقة قد تكاثفت، والأعناق طافت بعنقي، والآذان عند باب لساني، وقامات ظاهرة وخفية، بوجوه مكفهرة أحاطت بالأجمة، فقفزت في مكاني كبهلوان، وأنا أصفق بيدي زاعقا :»الشعب يريد إسقاط .. بوطاقية !»الشعب يريد إسقاط بوطاقية !». 19 «ألم أقل لكم إنه مشعوذ، دجال،ألم؟ !». كان المُكذب من أصحاب القامات الظاهرة الخفية، وانبرى ثان من بين الوجوه المكفهرة:»ما هذا التهريج ألسيّ؟ ما هذا التخربيق؟ ومن يكون بوطاقية هذا؟». قلت هذه فرصتي لأفلت بجلدي وخيالي، فأجبت بتحد وارتياح: «كيفاش، بوطاقية، يا من لا يعرفه في حي أكدال، وهو الذي يطعمنا كل مساء بلحومه اللذيذة، منذ أسبوع أعلن العصيان، وقرر أن يتفرغ لتجارة زيت أرغان،وهذا يغضبنا جدا، ولذلك ف «الشعب يريد إسقاط بوطاقية» قلتها، نغّمتها،لا أعرف كيف ظهر إلى جانبي من له طبل، دفٌّ،مزمار، منشار، وانطلقنا جماعة نصعد من ساحة البريد،عابرين ساحة البرلمان، صاعدين شارع مولاي يوسف، زاحفين على حي أكدال، ونحن نهتف :» الشعب يريد إسقاط بوطاقية «.! 20 في الجهة المقابلة للساحة السابقة لمبنى وزارة الإعلام وقفت أتفرج على حلقة تحيط بشخص في وسطها. قادني فضولي نحوه مثل كثير،خاصة حين اتسعت الحلقة. فغرت فمي لما رأيت الشخص، فقد كان يشبهني تماما، ويرتدي الملابس ذاتها التي أرتدي، ما عدا نظارتيه السوداويين نزعهما. لاحظت أن بعض الواقفين ينقلون نظرهم بيننا نحن الإثنين. حين بدأ يردد الشعار الذي يهتف به المصريون في انتفاضتهم، قلت هذا سيشعل فتنة، أنا أعرفه أحمد المديني هذا، منذ عهد كتابه:»العنف في الدماغ» وهو لن يهدأ، لذا أطلت عنقي وهمست في أذنه لأثنيه عن نواياه، لكنه صعقني حين هدد بفضحي أمام الجمهور،لا أعرف بماذا، ليضيف:«أنا الآن من شعب الرباط، من أصدقاء بوطاقية، وقد تبعتك من وقت وأنت تتنقل بين السويقة والشارع، تريد ، اعترف، ماذا؟ هه ! ». الرباط في 6 02 2011