لقجع: الحكومة لا تعمل على مأسسة الفقر    المنتخب المغربي يقسو على مُضيفه المنتخب الغابوني بخماسية    عصبة الأبطال الإفريقية للسيدات (المغرب 2024).. الجيش الملكي يبلغ المربع الذهبي بفوز مقنع على جامعة ويسترن كيب (2-0)    جثة متحللة عالقة في شباك قارب صيد بسواحل الحسيمة    رئيس الحكومة الإسبانية يشكر المغرب على دعم جهود الإغاثة في فيضانات فالينسيا    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2025    وزيرة مغربية تستقيل من الحكومة الهولندية بسبب أحداث أمستردام    الركراكي يكشف تشكيلة الأسود لمواجهة الغابون    زخات مطرية مصحوبة بتساقط الثلوج على قمم الجبال ورياح عاصفية محليا قوية بعدد من أقاليم المملكة    جائزة المغرب للشباب.. احتفاء بالإبداع والابتكار لبناء مستقبل مشرق (صور)    شراكة مؤسسة "المدى" ووزارة التربية    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    الصحراوي يغادر معسكر المنتخب…والركراكي يواجه التحدي بقائمة غير مكتملة    جورج عبد الله.. مقاتل من أجل فلسطين قضى أكثر من نصف عمره في السجن    انطلاق المؤتمر الوزاري العالمي الرابع حول مقاومة مضادات الميكروبات "الوباء الصامت" (فيديو)    المهرجان الدولي للفيلم بمراكش يكشف عن قائمة الأسماء المشاركة في برنامج 'حوارات'    خناتة بنونة.. ليست مجرد صورة على ملصق !    جدد دعم المغرب الثابت لحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة :جلالة الملك يهنئ الرئيس الفلسطيني بمناسبة العيد الوطني لبلاده    المغرب: زخات مطرية وتياقط الثلوج على قمم الجبال ورياح عاصفية محليا قوية اليوم وغدا بعدد من الأقاليم    حماس تعلن استعدادها لوقف إطلاق النار في غزة وتدعو ترامب للضغط على إسرائيل        إجلاء 3 مهاجرين وصلوا الى جزيرة البوران في المتوسط    حماس "مستعدة" للتوصل لوقف لإطلاق النار    "السودان يا غالي" يفتتح مهرجان الدوحة    مكتب الصرف يطلق خلية خاصة لمراقبة أرباح المؤثرين على الإنترنت    لوديي يشيد بتطور الصناعة الدفاعية ويبرز جهود القمرين "محمد السادس أ وب"    اقتراب آخر أجل لاستفادة المقاولات من الإعفاء الجزئي من مستحقات التأخير والتحصيل والغرامات لصالح CNSS    المركز 76 عالميًا.. مؤشر إتقان اللغة الإنجليزية يصنف المغرب ضمن خانة "الدول الضعيفة"    قتلى في حريق بدار للمسنين في إسبانيا        هذه اسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    كارثة غذائية..وجبات ماكدونالدز تسبب حالات تسمم غذائي في 14 ولاية أمريكية    الطبيب معتز يقدم نصائحا لتخليص طلفك من التبول الليلي    "خطير".. هل صحيح تم خفض رسوم استيراد العسل لصالح أحد البرلمانيين؟    وكالة الأدوية الأوروبية توافق على علاج ضد ألزهايمر بعد أشهر من منعه    مدينة بنسليمان تحتضن الدورة 12 للمهرجان الوطني الوتار    ارتفاع كبير في الإصابات بالحصبة حول العالم في 2023    رصاصة تقتل مُخترق حاجز أمني بكلميمة    رئيس الكونفدرالية المغربية: الحكومة تهمش المقاولات الصغيرة وتضاعف أعباءها الضريبية    ترامب يواصل تعييناته المثيرة للجدل مع ترشيح مشكك في اللقاحات وزيرا للصحة    وليد الركراكي: مواجهة المغرب والغابون ستكون هجومية ومفتوحة    نفق طنجة-طريفة .. هذه تفاصيل خطة ربط افريقيا واوروبا عبر مضيق جبل طارق        تصريح صادم لمبابي: ريال مدريد أهم من المنتخب    محكمة استئناف أمريكية تعلق الإجراءات ضد ترامب في قضية حجب وثائق سرية    أسعار النفط تتراجع وتتجه لخسارة أسبوعية    وفاة الأميرة اليابانية يوريكو عن عمر 101 عاما    اكادير تحتضن كأس محمد السادس الدولية للجيت سكي    جدعون ليفي يكتب: مع تسلم ترامب ووزرائه الحكم ستحصل إسرائيل على إذن بالقتل والتطهير والترحيل    عامل إقليم الجديدة يزور جماعة أزمور للاطلاع على الملفات العالقة    مثل الهواتف والتلفزيونات.. المقلاة الهوائية "جاسوس" بالمنزل    الإعلان عن العروض المنتقاة للمشاركة في المسابقة الرسمية للمهرجان الوطني للمسرح    الناقد المغربي عبدالله الشيخ يفوز بجائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإطارالشرعي والدعوة إلى المبادرة (2/2)

ودعونا هنا نعالج مفهومين من المفاهيم التي انحرف بها الفكر المُأزوم عن سياقاتها، وخرج بها عن مقاصدها، ونسف كل شروط النظر الفقهي فيها، ولبس على المغرر بهم مضامينها، وقفز على كا عناصر المنهجية التي لا ندعي أننا ابتدعناها، بل هي كما قلنا في أول كلمتنا من صميم رحم الإسلام وصيدليته، وهو الأمر الذي ينبغي أن يعيه الجميع، فأزمات المجتمعات الإسلامية لا يمكن أن ترفع باعتبارات خارجية، أو حلول ممنوحة أو مقترحة من خارج الإسلام.
أ- الجهاد: الأصل في الجهاد أنه تدبير حكومي للدفاع عن الوطن والحوزة، وعن الحرية بما فيها حرية التدين. وهو مفهوم إنساني لا يختلف فيه الإسلام عن ميثاق الأمم، له ضوابطه وروابطه وآدابه وأخلاقه، ولا حرب في الإسلام تفرض الدين على الناس، إذ الأصل في هذه المسألة آية محكمة لا تقبل نسخا ولا تأويلا ولا تخصيصا وهي قوله تعالى:«لا إكراه في الدين» .
فالجهاد الحق في الإسلام هو الذي يكن في سبيل الدفاع المشروع عن النفس المعروف في فقه المسلمين بدفع الصائل، وفي الأعراف الإنسانية والقوانين الدولية بالمقاومة. وهو معنى يختلف عن الحروب الإجرامية العبثية، وعن أفعال العصابات وقطاع الطرق الذين يسميهم الفقه الإسلامي بأهل الحرابة المفسدين في الأرض. كما يختلف عن الخروج عن المجتمع بدعوى الجور والمظلوميات وإخلال ولاة الأمور بواجباتهم الشرعية، لأن هذا في مفهوم الشرع معناه البغي أما الخروج على الأمة كلها بدعوى الجهاد، فهذا شأن الخوارج الذين بين الشيخ تقي الدين ابن تيمية أنهم يستولون على أرض ويجعلونها لهم دارا ويتخذون لهم إمام، وينشئون لهم جماعة ودولة، ثم يسمون دار المسلمين دار كفر وحرب، ويعتقدون مذهبا يخالف الذي عليه الأمة التي لا تجتمع على ضلالة، ويعمدون إلى التأويل الفاسد لنصوص القرآن والسنة، والاستدلال بهاعلىفاسد مذهبه بلا دلالة حقيقية فيهاعلى ذلك،وإلىتأويل مايخاف مذهبهم بما يحرفون به الكلم عن مواضعه، ويعتقدون أن أئمة وجماعة المسلمين خارجون عن العدل، وأنهم ضالون ، ويعدون ما يرون أنه ظلم كفرا، ويرتبون على ذلك أحكاما ابتدعوها.
إن الجهاد له سياقان: سياق عام، وسياق خاص، فأما العام فقد ارتبط بيئة تنزيله حين كان ضروريا لفرض السلم في الجزيرة العربية التي كانت عبارة عن قبائل متناحرة، تعتمد الغزو والقتل والسلب، فكان لا بد أن يكون هناك قدر من القوة لتستقر الأوضاع في الجزيرة، وتبلغ الناس الدعوة دون إكراه على التدين بالإسلام، إضافة إلى الحاجة إلى تأمين الحدود التي كانت تهددها القوى الكبرى آنذاك.
وأما السياق الخاص، فهو أسباب النزول التي إن عرضنا عليها بكل موضوعية وتجرد الأمر بالجهاد، سنجد أن آيات الجهاد وأحاديثه، وآيات السيف التي ذهب بعض العلماء إلى أنها نسخت آيات الصبر، يرتبط كل منها بسياق خاص جدا. والقول بأنها ناسخة لآيات الصبر والموادعة والبر والتعامل بالتي هي أحسن مع المخالف في الدين، حكم ليس له دليل، ولا يلجأ إلى النسخ إلا عند ما لا يكون للجمع مساغ، ولذلك قال الزركش ي (ما لهج به كثيرُْمن المفسرين في الآيات الآمرة بالتخفيف من أنها منسوخة بآية السيف قول ضعيف، فهو من المنسأ بمعنى: أن كل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما، لعلة توجب ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر) .
إن العلاقة بين هذه الآيات ليست علاقة إلغاء مطلق بمطلق بل هي علاقة إنساء وإرجاء حيث يكون حكم الآية الأولى مؤجلا حتى يرد ما يناسبه من الظروف والخصوصية. وإنما يتم تفعيل الآية المنسأة على ضوء فهم المجتهد لكليات الشريعة وميزان المصالح والمفاسد. وقد قال الإمام الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير أن الأولى القول بأن قوله تعالى «لا إكراه في الدين» هو الذي ينسخ كل أحكام القتال الديني، وذلك لقوة هذا المعنى واطراده في القرآن الكريم، فحقيقة دعوة الإسلام أنها دعوة رحمة للبشرية دعوة إلى التوحيد ونبذ عبادة الأصنام ووسيلتها الوحيدة هي الموعظة والتذكير من خلال تلاوة القرآن، لم تنحرف الدعوة عن هذا المنهج، وإنما فرضت البيئة المعادية اللجوء إلى السلاح لحماية هذه الدعوة وتوفير البيئة السلمية لمن يقبل الدخول في السلم.
فلا بد أن نظل نصدع بهذه الحقيقة الواضحة إن الإسلام دين رحمة وسلام وليس دين حرب وخصام، ولنا على ذلك البينات الواضحات من النصوص المحكمة والقيم المؤسسة، وليست الحرب في الإسلام إلا استثناء، كما بينا من خلال السياق الذي ظهرت فيه الدعوة ونشا فيه الجهاد.
ب- الذمة : في الأصل هي العهد والأمان والكفالة، والحق والحرمة، كلها معان نبيلة جليلة جزيلة اختارها الإسلام لوصف العلاقة بين المختلف ديانة مع المسلمين، فهي عقد وعهد لا يبرمه إلا إمام المسلمين، أي أنه عقد سياسي لا تبرمه إلا سلطة سياسية، يشير إلى حرمة حامل هذا العقد، وإلى العهد الذي يتحمله المتعاقدان.
ومع ذلك وجدت في التاريخ ممارسات جعلت بعض الباحثين، وبعض المؤرخين يعتبرونه وصفا مرذولا أو دونيا أو دنيا، مما أوجد شحنة نفسية تاريخية أبعدت هذا المفهوم عن أصله الجزيل الجميل، مع العلم أنه ليس فيه ما يشين، فكون غير المسلم من أهل الذمة هو نوع من التشريف لأنه تحت حماية الله وحماية رسله وأولي أمر المسلمين رعاية وقياما على شؤونهم، فهو مفهوم إجرائي إذن اقتضته مصلحة الناس، ولذلك نجد أن المسلمين ملزمون بالدفاع عن أهل الذمة بالنفس والسلاح والمال حفاظا على ذمة الله ورسوله، ويبذل المال لرفع ضائقتهم، واسترداد أسراهم وضمان ممتلكاتهم، من باب معاملتهم على أساس البر والرحمة والعدل والحكمة.
ج- الجزية: وقد اختلف الناس في أصلها، فمن قائل كالخوارزمي في مفاتيح العلوم أنها كلمة فارسية أخذها المسلمون من نظام فارس الذي كان قائما وهو الضرائب والجبايات التي كانت تجبيها الحكومة الفارسية، فشرعها الإسلام ليعطيها مضمونا تعاقديا إلى جانب الزكاة بالنسبة للمسلمين، فهي تؤسس لنظام مالي يخضع له بعض المواطنين الذي لا يخضعون لنظام الزكاة لأنهم لا يؤمنون بالإسلام.
فهذا أصل الجزية عند بعضهم، وعند البعض هي من الجزاء، أي أنها جعلت عوضا عن التجنيد الذي كان يخضع له مواطنو الدولة للحفاظ على الحوزة، فلما كان هؤلاء المواطنون غير مسلمين فإنه لم يكن من اللائق أن يفرض عليهم الدفاع خاصة بالنسبة لدفاع قد يجعلهم في مواجهة لأهل ديانتهم، فكان عليهم أن يدفعوا معونة للدفاع عن الوطن تمثلت في الجزية، فهي في حقيقتها من المداخيل التي تستفيد منها الأمة ككل دون تمييز بين المسلم وغير المسلم.
وأما إقرار الإسلام لها فإنه ينسجم وطبيعة الإسلام مع الواقع في البلد الذي يدخله، فالإسلام يتعامل مع الواقع بثلاث طرق:
- إما أن يثبت ما في هذا الواقع ويقره، ومثاله مكارم الأخلاق التي كانت عند العرب، فإن الإسلام أقرها ودعا إليها. - وإما أن يلغيه نهائيا، كما فعل مع عبادة الأصنام ووأد البنات وغير ذلك. - وإما أن يدخل عليه تعديلات.
والجزية من النوع الثالث، فهي مما كان التعامل به مألوفا في الأمم السابقة، فقد كانت معمولا بها عند الفرس والروم، بل وكانت من شرعة الأنبياء من قبل، والذي تميزت به الجزية في الإسلام أنها ليست ضريبة بالمعنى المتعارف عليه، بل هي عقد بين الأمة المسلمة ومن يدخل تحت جناحها من الأمم والأفراد من غير المسلمين، تحفه ضوابط الإسلام في العقود والالتزامات وأهمها ضابط الوفاء « يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود»، وُأمر المسلمون بالبر بهم « لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم»، فلا تنتهك حرمة ذمي ولا يؤخذ ماله ولا يكلف ما لا يطيق، وترتب الوعيد الشديد على ذلك«من ظلم معاهدا أو انتقصه حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس منه فأنا حجيجه يوم القيامة» ، وحرم سفك دمه«من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة».
والجزية هذه أيضا لا يمكن أن يفرضها إلا ولي الأمر، فهي أيضا عقد كعقد الذمة، عقد بالتراضي، ولهذا تختلف من قطر إلى قطر، وحتى من شخص إلى شخص. وعندما نقول إنه حكم سلطاني معناه أنها حكم مصلقي، ولأجل ذلك اختلفت في أقطار العالم الإسلامي اختلافا كبيرا ومتباينا جدا من ارتفاع وانخفاض وإلغاء. فإيقاف الحروب بين المتقاتلين ليس من شرطه أن تدفع الجزية، وإن كان ذلك أحد الأوجه والاختيارات المصلحية، فهناك توقف للحرب حين يوجد سلام « وإن جنحوا للسلم فاجنح لها»، ولهذا اتفق العلماء على أن الهدنة والموادعة والمعاهدة تكون بمقابل وبغير مقابل، لأن ذلك يمثل المرونة في الأنظمة الإسلامية.
والمتصفح لأقضية الخلفاء واجتهاداتهم في ما وقع في زمانهم من النوازل العامة والخاصة يستيقن أنهم ما كانوا يرون الوقوف عند الظواهر وإهمال المعاني بل كثيرا ما أعرضوا عن ظاهر إعمالا لمصلحة أو درءا لمفسدة، وتصرفات أمير المؤمنين عمر كثيرة وفق هذا المنهج القويم، من أمثلتها أخذه الصدقة بدلا من الجزية من نصارى العرب، تغلب وبهراء وتنوخ، وكذلك من يهود حمير ومجوس تميم، فقد رأى عمر أن المصلحة تقتض ي جعل الجزية صدقة باعتبار طبيعة الثقافة العربية، ونظرا لمستقبل الإسلام، وفهم أن للاجتهاد مساقا فسيحا في المسألة رغم كون الجزية منصوصة بصريح العبارة في قوله تعالى: «حتى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ» بحسب المصلحة ومقتضيات الواقع.
فقد فهم عمر أن الخيارات مشرعة أمامه بما يمليه عليه ميزان المصالح والمفاسد واعتبار المآل (كما في مسألة الخراج)، فلم يجد في نفسه حرجا من العدول عن الظواهر، وإعمال المصالح، ليتبي أن الجزية ما هي إلا نظام من أنظمة متعددة في التعامل مع المختلف ديانة يحقق ولي الأمر مناطه وزيادة في التدليل على ما نقوله، نسوق أمثلة ونماذج من تاريخ الإسلام وفقه في التدبير الحكومي المتعلق بالجزية، فدعونا نلقي إطلالة على التاريخ الذي يتمنى البعض محوه لكونه شاهدا على بطلان دعواه، أو ضعف دليله، أو على فساد فهمه وتنزيله.
نقل الكلاعي والبلاذري أن أبا عبيدة أمير جيوش الشام أمر قادة جيوشه برد ما أخذوه من الجزية إلى أهل حمص حين عجز المسلمون عن الوفاء بالتزامهم تحت ضغط حشد الروم جيوشا كبيرة لقتال المسلمين، وخاطب أبو عبيدة أهل حمص قائلا:« إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه قد بلغنا ما ُجمع لنامن الجموع،وإنكم قداشترطتم أن نمنعكم،وإنالانقدرعلى ذلك الآن، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط وما كان بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم». فكان جواب أهل هذه البلاد: ردكم الله علينا ونصركم عليهم، فلوا كانوا هم لم يردوا عليناشيئا،وأخذواكل شيء، لولايتكم وعد لكم أحب إلينا مماكنا فيه من الظلم والغشم.وكذلك فعل أبو عبيدة مع أهل دمشق حين كان يتجهز لمعركة اليرموك .
4 - الاكتفاء.....وفتوح البلدان.
والطبري في تاريخه ينقل ما يثبت أن مقادير الجزية لم تكن رسوما محددة، بل هي موكولة إلى استطاعة الناس وقدرتهم، فهذا سويد بن مقرن قائد المسلمين من قبل أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب ، يكتب عهدا لأهل دهستان وسائر أهل جرجان يلتزم فيه لهم بأن :«لكم الذمة وعلينا المنعة، على أن عليكم من الجزاء في كل سنة على قدر طاقتكم على كل حال، ومن استعنا به منكم فله جزاؤه ( أي جزيته) في معونته عوضا عن جزائه، ولهم الأمان على أنفسهم، وأموالهم، ومالهم، وشرائعهم، ولا يغير من ذلك شيء».
وكذلك عتبة بن فرقد، قائد المسلمين من قبل عمر، يكتب لأهل أذربيجان قائلا:«هذا ما أعطى عتبة بن فرقد عامل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين أهل أذربيجان سهلها وجبلها، وحواشيها وشفارها، وأهل مللها كلهم، الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم على أن يؤدوا جزية علىقدرطاقتهم،ومن حشرمنهم في سنة(أي ُجِند منهم في سنة)وضع عنه جزاء تلك السنة، ومن أقام فله مثل من أقام من ذلك».
وسراقة بن عمرو عامل عمر بن الخطاب على أرمينية، يعطي سكان أرمينية والأرمن أمانا لأنفسهم وأموالهم وملتهم ألا يضاروا، ولا ينقضوا، وعلى أرمينية والأبواب الطراء منهم ( أي الغرباء) والقنا ( أي المقيمون) ومن حولهم فدخل معهم أن ينفروا لكل غارة، وينفذوا لكل أمر ناب أو لم ينب رآه الوالي صلاحا على أن يوضع الجزاء (الجزية) عمن أجاب إلى ذلك، ومن استغنى عنه منهم وقعد فعليه مثل ما على أهل أذربيجان من الجزاء، فإن حشروا (أي جندوا) وضع ذلك عنهم(......)
وعن إسقاط الجزية أسقط حبيب بن مسلمة الجزية عن الجراجمة بأنطاكية حين صالحوه وطلبوا الأمان والصلح، واشترط الجراجمة ألا يؤخذوا بالجزية وأن يدخل معهم في العهد من كان في مدينتهم من تاجر وأجير وتابع من الأنباط وغيرهم من أهل القرى، وبقي كل الخلفاء زمن بني أمية وزمنا طويلا من عهد بني العباس على هذا العهد إلى أن ألزمهم بعض ولاة الخليفة الواثق العباسي بأدائها فرفعوا شكواهم إلى الخليفة فأعاد الأمر سيرته الأولى.
ومن أدلة مرونة المفهوم وظرفيته واقترانه بالمصلحة أن الخلفاء لم يكن عندهم مشكلة في مسميات المداخيل التي تدخل خزانة الدولة، فكانوا يسمونها التسمية التي يميل إليها الطرف الآخر، فعمر، حين أنفت بنو تغلب من تسمية ما يعطونه جزية أقرهم عمر على ما أرادوا، لأن الغاية هي تحقق المقصد من الأداء وهو ضمان المداخيل التي تكفل حاجات الأمة مسلمها وغير مسلمها على حد سواء، فكما يؤدي المسلمون الزكاة يؤدي غير المسلمين الجزية تحت أي مسمى، وهذا برهان آخر على أنها تدبير سلطاني يحفظ كرامة المواطن غير المسلم في ظل الدولة الإسلامية مقابل ما تكفله الدولة من الحماية والأمان وضمان الحقوق الدينية والمالية.
القول الفصل: إن هذه القضايا مما يدخل ضمن ما يسمى السياسة الشرعية التي تخول أولياء الأمور الاجتهاد في مراحل التاريخ. ونذكر مثالا من مسألة العشور التي بنيت عليها قاعدة تغير الحكم بناء على تغير الواقع، فالعشور على تجار الأمم التي تربطها علاقة بالدولة الإسلامية - والمعروفة في اصطلاح الفقهاء بأهل الحرب ولو لم تكن حرب- وهو ناش ئ عن قاعدة المعاملة بالمثل كما نص عليه أبو عبيد في كتاب "الأموال"- وقرر عمر ذلك بعد أن سأل عماله بالعراق كم يأخذ أهل البلاد التي قدم منها التجار من تجار المسلمين، فقالوا العشر، فقال عمر فخذوا منهم العشر.
قال الحافظ ابن رجب: واعلم أن هذه المسألة مسألة أصولية اختلف الناس فيها، وهي أنما عقده بعض الخلفاء الأربعة. هل يجوز لمن بعدهم نقضه؟ كصلح بني تغلب وخراج الجزية والرؤوس. وفيه قولان لأصحابنا أشهرها: المنع، لأنه صادف اجتهاد ًا سائغ ًا فلا ينقض. وهذا يرجع إلى أن فعل الإمام كحكمه وفيه خلاف أيضا، واختار ابن عقيل جواز تغييره بالاجتهاد، لاختلاف المصالح باختلاف الأزمنة.
ومن الأصحاب من استثنى من ذلك ما علم أن الإمام عقده لعلة فيزول بزوالها ويتغير بتغيرها، كضرب عمر رض ي الله عنه الخراج، فإنه ضربه بحسب الطاقة، وهي تختلف باختلاف الأوقات. ذكره الحلواني وغيره. {ابن رجب الاستخراج ص138:}.
انطلاقا من هذا ومن الأسس الأصلية في الإسلام وهي المساواة بين كل المواطنين في الحقوق والواجبات التي أنشأتها صحيفة المدينة فيمكن أن نعتبر بأن هذه الأحكام السلطانية سواء كانت تتعلق بضريبة المواطنة، أو كانت تتعلق بالموادعة، يمكن أن ننظر إليها من خلال صحيفة المدينة لنوجد فقها واضحا للمواطنة بأجلى صورها وأبهى حللها، وهي مواطنة تجعل الجميع في أمن وسلام يدافعون جميعا عن الحوزة، يتحملون جميعا النفقات تضامنا، مع حرية كاملة في التدين لكل فئة من فئات الدولة والمجتمع.
صحيفة المدينة وكلي الزمان ومبدأ المواطنة
1- الكليات والقيم الإسلامية التي نشأت عنها صحيفة المدينة لقد كانت سيرة النبي محمد (ص) أنموذجا للوفاء بالعهد والالتزام به، وتطبيقا لقيم الشريعة الإسلامية المتمثلة في أنها رحمة كلها، وحكمة كلها، وعدل كلها، ومصلحة كلها، كرامة الإنسان ثابتة نصا لكل آدمي، والرحمة الإلهية لكل مخلوق، والعدل حق لكل إنسان، والإحسان مكمل لمقصد العدل.
إن صحيفة المدينة تثبت أنه بقدر ما يكون الإنسان متمسكا بقيم أخلاقية مشتركة يكون انسجامه وتعاونه وإيجابيته في الحياة، وبقدر ما لا يتبنى قيما – بحيث يتجرد من أي نظرية متسامية الى الحياة- تتدهور علاقته مع الآخر؛ لأنه لن يهتم إلا بمصلحته، أو يتبنى قيما سلبية تقوم على المطلق بلا حدود في التصرف ليتصور – من حيث لا يدري- هو ذاته المطلق، فلا مقيدات النصوص تقيده، ولا مخصصات العموم تخصصه، ولا مقتضيات المصالح والمفاسد وكليات المقاصد والقواعد تسدده، فيشن الحروب بلا ضوابط، وهذا ما تمثله الأصولية مهما كانت الديانة التي تتدثر بردائها، والمعتقدات التي تتسربل بكسائها، ويتمظهر في منظمات العنف، وتيارات العدوان والعنصرية. أما قيم العقل والعدل والاعتدال والوسطية، فهي التي تحيي الإنسانية وتبث روح المحبةً. يجب إحياء قيم المصالحة والمسامحة وليس قيم المغالبة والمضاربة، قيم السلام والوئام بدلا من الخصومة والصدام.
إن قيم الصراع والنزاع ليست قيم ًا إسلامية ولو حاول البعض أن يكسوها لباس التقوى، إنها قيم غربية هيجلية، فهيجل هو الذي كان يرى أن التدمير هو أساس التعمير- الكلمة المترجمة من الألمانية الى الفرنسية- وأن المجتمع لا يقوم إلا على صراع العبد والسيد.
أما قيمنا وكلياتنا فتقول إن بناء الثقة في النفوس والمحبة في القلوب هو الأصل. إن صحيفة المدينة تحث على القيم الكبرى، بل هي نفسها مظهر من مظاهرها، فكليات الشريعة ونصوصها تشهد أن صحيفة المدينة شرط فيها النبي لكل مكونات مجتمع المدينة واشترط عليهم، وهي مؤهلة لأن تكون مرجعا لعلاقة المسلمين بالمخالف ديانة، لأن مضامينها لا تخالف نصا ولا تنقض مقصدا، فكل بند منها إما أنه أتى يرحم الخلق، أو يقرر حكمة، أو يأمر بعدل، أو يحقق مصلحة لا تتعلق فقط بالمسلمين، بل هي مصلحة الإنسان الذي يعيش بينهم مهما كان عرقه وديانته، ويدرأ مفاسد العدوان وسفك الدماء، ويصون الأنفس والأموال والحريات ويضمن حرية المعتقد والممارسة لكل طائفة.
فماهي إذًا هذه القيم؟.
- البر: « لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المقسطين» سورة الممتحنة، الآية: 8.
2- التكريم: الذي هو أصل رباني ومنحة إلهية تولد مع كل إنسان شاملة لا فرق بين فرد وآخر وبين أمة و أ خرى ، «ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا» سورة الإسراء، الآية:70.
3- التعاون والتضامن والإصلاح: « وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان» (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا )، (ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين) ، ( والله يعلم المفسد من المصلح)
4-إصلاح ذات البين: وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ
5- الأخوة الإنسانية والتعارف: (ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) هو أصل العلاقة وليس التغالب كما في الجدلية ِِِِِِ الهيغلية التي تقوم على المغالبة الدائمة بناء على ما سماه نظرية "السيد والعبد".
6-الحكمة:(وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) (8).
7-المصلحة: إَّناَ لاُ نِضيُعَ أۡجَر ٱۡلمُصِلِحيَن (9
8- العدل في التعامل مع الناس: ( ٕإِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) .
9- الرحمة: وما أرسلنك ِإلا رحمة ِللعالمين 107:)11 (ورحمتي وسعت كل شيء )
5- سورة المائدة، الآية: 2. 6 - سورة الأنفال، الآية: 1. 7 - سورة الحجرات، الآية: 13. 8 - سورة البقرة، الآية: 269. 9 - سورة الأعراف، الآية:170. 10 - سورة النحل، الآية: 90. 11 - سورة الأنبياء، الآية: 107.
ويبقى فوق هذه الكليات والقيم كلي أعلى ومقصد أسمى هو مقصد السلم الذي جعله الإسلام مقصد المقاصد، « يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم مبين» ،» وإن جنحوا للسلم فاجنح لها»، وجعل الوفاء بالعهود والمواثيق علامة على الإيمان، وأصلا للتراض ي والثقة والتعايش بين الأفراد وبين المجتمعات مهما كانت تباينات عقائدها ومواردها « يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود» ،»وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير»
2 - صحة وثيقة المدينة:
يثبت بعض المؤرخين القدامى أن وثيقة المدينة كتبت أول قدوم النبي إلى المدينة، وأنها كانت قبل معركة بدر12، فشملت الوثيقة كل مكونات المجتمع في يثرب التاريخية التي عرفت بالمدينة لاحقا، ووردت في كتبهم مجموعة أو مفرقة. في حين يرى بعض آخر أن الوثيقة كتبت على مرحلتين: أولاهما كانت أول مقدم النبي المدينة ووادعته يهود كلها، وثانيتهما بعد معركة بدر13 ، ويذهب بعض المعاصرين إلى أنها وثيقة كتبت على مراحل متعددة، والقول الأول هو الصحيح.
وعلى أي وجه كان الأمر فإن الذي يهمنا أن الوثيقة صحيحة في أصلها وثابتة في كتب الحديث، وفي كتب السيرة والتاريخ. قال الشافعي رحمه الله تعالى: لم أعلم مخالفا من أهل العلم بالسير أن رسول الله لما نزل المدينة وادع يهود كافة على غير جزية"، قال ابن القيم: وهو كما قال الشافعي رحمه الله تعالى، وذلك أن المدينة كان فيما حولها ثلاثة أصناف من اليهود، بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة، وكان بنو قينقاع وبنو النضير حلفاء الخزرج، وكانت قريظة حلفاء الأوس.
فلما قدم النبي هادنهم ووادعهم مع إقراره لهم ولمن كان حول المدينة من المشركين من حلفاء الأنصار على حلفهم وعهدهم الذي كانوا عليه حتى إنه عاهد اليهود أن يعينوه إذا حارب، قال محمد بن إسحاق: وكتب رسول الله -يعني في أول ما قدم المدينة- كتاب ًا بين المهاجرين والأنصار وادع فيه يهود، وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، واشترط عليهم وشرط لهم. وقال أيضا: حدثني عثمان بن محمد بن الأخنس بن شريق قال: أخذت من آل عمر بن الخطاب هذا الكتاب، كان مقرونا بكتاب "الصدقة" الذي كتب عمر للعمال.
( - ابن إسحاق، ابن هشام، الواقدي...، أبو عبيد القاسم بن سلام، ابن زنجويه، البلاذري. 13 - الطبري، البلاذري.....).
وقال الواقدي: حدثني عبدالله بن جعفر عن الحارث بن الفضيل عن محمد بن كعب القرظي لما قدم رسول الله المدينة وادعته يهود كلها، فكتب بينه وبينها كتابا، وألحق رسول الله كل قوم بحلفائهم، وجعل بينه وبينهم أمان ًا، وشرط عليهم شروط ًا، فكان فيما شرط «ألا يظاهروا عليه عدوا» فقد ذكر ابن كعب مثل ما في هذه الصحيفة، وبين أنه عاهد جميع اليهود، وهذا مما لا يعلم فيه نزاع بين أهل العلم بسيرة النبي . ومن تأمل الأحاديث المأثورة والسيرة كيف كانت معهم علم ذلك ضرورة .
3- السياق التاريخي لصحيفة المدينة:
عاش اليهود في المدينة لظروف تاريخية إلى جانب أبناء قيلة الأوس والخزرج، وهم يرجعون إلى فرع غسان القحطانية اليمانية الأصل الشامية المهاجر والموطن. وهذا يثبت أن مجتمع المسلمين الأول كان مجتمع ًا مختلط ًا كما تدل عليه الروايات التاريخية، فهذا قيس بن شماس - وهو صحابي- تموت أمه وهي نصرانية فيأذن له عليه الصلاة والسلام بحضور جنازتها راكب ًا سائرا أمامها، كما في رواية الخلال، وهذا أبو وائل تموت أمه النصرانية فيسأل عمر بن الخطاب فيقول له نفس الش يء. وهذا عبد الله بن ربيعة تموت أمه وهي نصرانية فيسأل عبد الله بن عمر فيأمره بأن يحسن عليها ويكفنها ولا يقف على القبر. وهو بذلك يفسح لأهل دينها، فكان النصارى يعجون حولها.
ورجل يسأل ابن عباس وقد مات أبوه نصرانيا فأمره أن يشهده ويدفنه. وهذه أم المؤمنين صفية رضي الله عنها توصي لأخيها اليهودي ببعض مالها.
وقال القاضي وأبو الخطاب: حكم من تنصر من تنوخ وبهراء، أو تهود من كنانة وحمير، أو تمجس من تميم، حكم بني تغلب سواء، وهذا موافق لمذهب الشافعي. وهذا يدل على وجود كل الديانات فيً الجزيرة العربية وبين قبائل العربية. هذه الروايات تدل على أن المجتمع الإسلامي الأول كان متعددا بالفطرة.
هذا هو الواقع الذي وجده النبي في المدينة، بعد ثلاث عشرة سنة من الدعوة في مكة، وبعد طول تحمل للأذى والعذاب. وهو واقع يختلف عن واقع مكة، فمكة قرية تسكنها قبيلة واحدة هي قبيلة قريش ذات الأصل واحد وإن تعددت بطونها، والتي تدين كلها بدين الوثتية، بينما كانت يثرب تجمعا سكانيا من قبائل مختلفة الأصول والأنساب والديانة التي تنوعت بين الوثنية واليهودية، فكان من مقتضيات الواقع ومتطلباته أن تلتف هذه المكونات المتعددة حول ميثاق ينظم علاقاتها بعد طول قتال وصراع بينها قبل الإسلام، فوضع النبي صحيفة المدينة لتجنب الاحتكاك والتصادم بين المكونات القديمة والوافدين الجدد الذين انضموا إلى النسيج البشري المكون ليثرب، وهو كتاب يصرح بالتعددية الاختيارية، ويبني العقد على أساسها متجاوزا ما يمكن أن تسببه من عوائق بتقديم مصالح التضامن والتعاون في شكل حقوق وواجبات.
إن كل بنود صحيفة المدينة تثبت فرادتها تاريخيا، و يزيد من بروز هذه الفرادة أربعة أمور:
- أن الرسول كان مضطهدا في مكة، مسلوب الحرية في قول "ربي الله"، فلما هاجر إلى المدينة كان من أول ما أقره حرية المعتقد للناس تطبيقا لمقتضيات كليات الشرع.
- أنها تنظم شؤون مجتمع متعدد.
- أنها ليست مسبوقة بقتال ديني ولا ثقافي، وإن كانت العدوات والحروب القبلية بين الأوس والخزرج ما زالت حية، لولا أن الدين الجديد محاها بسرعة.
- أنها لا تتحدث عن أقلية ولا أكثرية، بل إن مضامينها وبنودها التي تأسست على العدل جعلت مفهوم الأكثرية والأقلية لا معنى ولا أثر له.
هذا فوق أنها تكونت من شقين: شق يتعلق بالعلاقة بين الأنصار السكان الأصليين وبين المهاجرين، وشق يتعلق بتنظيم العلاقة بين المسلمين وباقي المكونات الاجتماعية الأخرى التي تختلف عنها عقديا، مما يعني واقعية الإسلام في التعامل مع الواقع ومكوناته ورعيه لهذه المكونات واعتباره لها.
إن صحيفة المدينة تمثل مواطنة تعاقدية يحكمها ميثاق أو دستور، وهذا ما يثبته البند 25 من الصحيفة "يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم"، والبند 37 "إن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة".فهيتؤسسلمجتمعمتعددالأعراقوالديانات،متضامٍنيتمتعأفرادهبنفسالحقوق، ويتحملون نفس الواجبات وهي واجبات محددة بدستور عادل، يؤكد على أنهم أمة واحدة.
إذا كان العنوان الأولان استأثرا بالدراسة الفقهية واعتمدا على الممارسة التاريخية في واقع مختلف –زمان ًا ومكانًا وإنسانا- فإن الجامع بين هذه العناوين أنها كانت نتيجة حرب وقتال. بينما العنوان الثالث الذي يؤكد وحدة الأمة في نطاق التعددية الدينية وحرية التدين لم يحظ ببحث
4- التعددية في صحيفة المدينة:
كثير مع أهميته لأنه الأصل، ولأنه يتعلق بمجتمع متعدد الديانات بطبيعته أي أن كل فئة منه اختارت ديانة طواعية.
لقد قررنا أن من بين عناصر منهجيتنا الجمع بين النصوص قبل الحكم بالترجيح أو القول بالنسخ، أو عدم الثبوت. إن محاولة الجمع التي هي الخطوة الأولى التي يخطوها المجتهد قبل اللجوء إلى وسائل الترجيح تتمثل في محاولة الجمع بين الدليلين. يعني أن الجمع بين الدليلين المتقابلين من الكتاب أو السنة أو منهما أو من نصين للمجتهد ولو كان الجمع من وجه كتخصيص العام بالخاص وتقييد المطلق بالمقيد وتأويل الظاهر منهما بما يوافق الآخر الذي هو نص واجب. ولهذا فالجمع - كما تقدم- حمل كل نص على حالة تختلف عن الحالة الأخرى. فالنصان الأولان ناشئان عن حالة حرب، وقد قامت بالفعل.والعنوان الثالث من طبق على مواطنين من ديانات مختلفة يقيمون على أرض واحدة. إنه الوضع الملائم لحالة الأقليات في الديار الإسلامية اليوم، فالعقد الذي ينطبق عليهم هو عقد جديد بالنوع قديم بالجنس، تحترم فيه الخصوصية وتتمتع فيه الأقلية بحرية ممارسة دينها ويتضامنون في إدارة شئون دنياهم طبقا لواجبات وحقوق محددة بالدستوري العقلاني الذي يكفل التوازن والتعايش السعيد وسيادة حكم القانون وتسوية الاشكالات السياسية بالعدل والإنصاف.
5- روح صحيفة المدينة في التجربة التاريخية علاقة المسلمين بالمخالف ديانة في المجتمع الإسلامي:
إننا لا نزعم أن تاريخنا الإسلامي ناصع في كل فتراته، فنحن نقر بصفحات مجده، وفي نفس الوقت نعترف بأنه تاريخ بشري تسري عليه السنن الكونية، فيه فترات إشراق وفترات ظلم، فترات قوة وفترات ضعف، مراحل ريادة ومراحل انتكاس وتراجع.
ولكننا في الوقت نفسه نزعم أنه لم يعرف التاريخ دينا ولا أمة قبلت بالتعددية الدينية واحتوتها كالدين الإسلامي والأمة المنتسبة إليه، فقد كانت روح صحيفة المدينة وكلياتها ومقاصدها حاضرة في فعل الصحابة رضوان الله عليهم وهم يتصلون بالأمم التي كانت في زمنهم بحسب ما اقتضته ظروف الواقع، لكن سواء كان هذا الواقع واقع سلم أو واقع حرب مفروضة استتبعت إجراءات شرعية كنظام الجزية مثلا الذي كانُ نوعا من الإجراءات المالية التي لا تجري على المسلمين الذين كانت عليهم الزكاة مفروضة، واختص بها غير المسلمين في ظل الإسلام.
إن من ُيع ِمي على أحداث التاريخ الإسلامي التي كان فيها سلطان الكتاب والسنة حاكما وأحكامهما منزل ًة موافق ًة لقصد الشارع، لا يريد بالمسلمين خصوصا وبالبشرية عموما خيرا، وإنما يريد أن ينشر العقلية العدمية التي لا ترض ى إلا أن ترى الدماء مسفوكة، والناس قتلى، والأعراض منتهك ًة، والأموال مأكول ًة بغير حق.
رحمة الإسلام، وحكمة الإسلام، وعدل الإسلام، ومصلحة الإنسان، وكليات الشرع التي قامت عليها صحيفة المدينة كانت حاضرة في المعاهدات التي عقدها الصحابة مع أهل البلاد التي دخلوها حاملين الإسلام، فلم يكونوا يتعاملون مع هذه البلاد على أنها خزائن أموال مستباحة، بل هي أموال محاطة بسياج الشريعة، التعامل معها يخضع للنظر المصلقي والتدبير السلطاني الذي كان يقتض ي أحيانا أخذ الجزية بمقدار محدد، وأحيانا يحيلها على استطاعة أهل الأرض، وأحيانا يسقطها بمقابل أو بدون مقابل.
هذه الحقوق الدينية أيضا كان لصحيفة المدينة تأثير في ضمانها لهم، لأن ولاة أمور المسلمين كانوا يستحضرون روحها ومقاصدها في تعاملهم مع غير المسلمين في مختلف مناطق الإسلام.
وعندما نتحدث عن الحرية الدينية فلعلنا نشير إلى مسألة دور العبادة إبقاء وإنشاء طبقا ً للحاجات. إن النبي وخلفاءه لم يهدموا دارا لعبادة، فهذا الجانب مكفول وإن تفريق العلماء بين المصر الجديد والمصر القديم وما فتح عنوة أو صلحًا، -دون مناقشته الآن- نكتفي بالإشارة إلى أن العقد الجديد أقوى من الصلح، ولهذا فينطبق عليه النص التالي لإمام الحرمين: قال إمام الحرمين في "نهاية الطلب": ولو وقع الشرط على أن تكون رقاب الأبنية في البلدة عرصاتها لهم، فلا يمنعون من ضرب النواقيس، وإظهار الخمور والخنازير في مثل هذه البلدة؛ فإنها بحكمهم، ولو كان يخالطهم المسلمون، لم يكن لهم أن يعترضوا عليهم، والبلدة في الجملة والتفصيل بمثابة دار الذمي في بلاد الإسلام، ولا يخفى أنه لا يجب البحث -بل لا يجوز- عما يتعاطون في دورهم، قال صاحب التقريب: لا يكلفون الغيار في البلدة التي وصفناها، والأمر على ما قال، وقد ُفتحت قرى الشام صلح ًا على أن تكون لأهلها، فكانوا يظهرون النواقيس في زمن معاوية وجرت له قصة مشهورة14.
وقد رفض عمررض يالله عنه عنداستلام بيت المقدس أن يصلي في كنيسةالقيامةمخافة أن يستند الخلفاء من بعده على فعله فيسلبوها من النصارى، والإمام الليث بن سعد يعترض على والي مصر لما هدم كنائسها، وكتب إلى الخليفة يطالبه بعزله لأنه خالف وصية الرسول بالاستوصاء خيرا بقبط مصر، وقد عزل الخليفة الوالي وأمر بإعادة بناء الكنائس، والليث رحمه لله يشهد أن غالب كنائس مصر لم تبن إلا في الإسلام، وقد دخل الصحابة مصر وأقروا أهلها على شعائرهم.
وملاحظة أخرى أن تعدد المساجد غير مرغوب به إلى حد أن بعض العلماء كالمالكية قالوا بهدم المسجد الجديد باعتباره مسجد ضرار إذا لم تدع إليه الحاجة. وبالتالي فتنظيم دور العبادة يمكن أن يشمل كل الديانات للوقوف على الحاجات الحقيقية دون ضيق ولا حرج وقد جرى عمل علماء الأندلس بجواز إحداث الكنائس.
لقد كانت الحضارة الإسلامية لفترة طويلة من التاريخ الوحيدة بين الحضارات البشرية التي نظمت حقوق الأقليات في ممارسة شعائرها والتحاكم إلى محاكمها، وهكذا عاشت الأقلية القبطية في مصر 14 قرنا محمية بحماية الإسلامال وفي تجربة تاريخية ناصعة وقوية لهذا الاعتراف قامت على أرض المملكة المغربية الشريفة التي يرعى عاهلها هذا المؤتمر، عاشت الطائفة اليهودية منذ عهود الفتح الإسلامي، وعبر توالي الدول التي قامت في المغرب استقلالا تمتعوا فيه بكل حقوقهم الدينية والمدنية، وبلغوا أعلى المناصب في الدولة.
صحيح أن التاريًخ شهد مآس ونكبات تعرضوا لها، نتيجة احتكاكات تاريخية جعلت بعض العلماء يصدرون أحكاما قاسية على بعض الأقليات، لكنها تبقى استثناء بالنسبة للمسلمين لا يضر بالقاعدة العامة، وحتى هذه الاستثناءات وجدت من علماء المسلمين في تلك العصور قوة وصلابة واستماتة في حماية الأقليات من الاعتداءات كالإمام الأوزاعي في القرن الثاني الذي حمى المسيحيين في لبنان، والإمام زروق مع شيخه القوري اللذان عملا على حماية الأقلية اليهودية في المغرب قبيل سقوط دولة بني مرين، والإمام العز بن عبد السلام الذي كان حمى أقباط مصر في أيام الحروب الصليبية.
6- صحيفة المدينة وكلي العصرومبدأ المواطنة:
قررنا أن الواقع شريك في إنتاج الحكم الشرعي، وواقع اليوم يحتاج إلى قراءة جديدة على ضوء الشرع، وبناء على الكليات التي مثلت لبنات الاستنباط بربط العلاقة بين الكليات والجزئيات، وتنسيقا بين كلي الشرائع والإيمان وكلي الواقع والأزمان، من أجل إيجاد مشتركات ومعايير تخفف من غلواء الاختلاف وتسهل الائتلاف من خلال تحقيق مناط العدل.
إن بيئة المواطنة اليوم أصبحت واقعا ارتقى إلى مرتبة كلي الزمان، ًوأصبحت تتمثل في ميثاقين يحكمان الواقع، ميثاق داخلي وهو دستور البلاد الذي يمثل عقدا بين كل المواطنين. وميثاق عالمي، وهو ميثاق الأمم المتحدة ولواحقه؛ كإعلان حقوق الإنسان والمعاهدات الدولية.
فالدستور الذي أشرنا إليه قبل وهو دستور عادل يمنع الحيف على الأقلية ولا يصادر حق الأكثرية في أن تعيش قيمتها على قاعدة "لا ضرر ولا ضرار". أصلها حديث حسن. ودستور له ُبعد إنساني لا يعترض عليه الدين ويزكيه العقل وُبعد قيمي.
إن هذه المواطنة نحت منقى تعاقديا في إطار تعددي، أو ما يسميه هابرماس بالوطنية الدستورية، وهو مفهوم جديد عبارة عن علاقة متبادلة بين أفراد مجموعة بشرية تقيم على أرض واحدة، وليست بالضرورة منتمية إلى جد واحد ولا إلى ذاكرة تاريخية موحدة، أو دين واحد، إطارها دستور وقيم مشتركة ونظم وقوانين تحدد واجبات وحقوق أفرادها، فهو مجتمع تعاوني ينتمي أفراده إليه بشكل تعاقدي، بحيث يكون لأحدث عضو فيه نفس حقوق وواجبات أقدم عضو، فهي مواطنة تتسامى على الفئوية لكنها لا تلغيها، والمطلوب أن تتواءم معها وتتعايش تعايشا سعيدا. يدعم هذا الواقع ورقيه إلى مرتبة الكلي تأمل بسيط فيه يفض ي بنا إلى رصد كثير من القضايا من بينها:
- الدولة الإسلامية لم تعد هي تلك الدولة الإمبراطورية، بل إنها دخلت ضمن إطار ما صار يعرف بالدولة القطرية أو الدولة الوطنية.
- الولاءات لم تعد دينية، بل صارت ولاءات مركبة ومعقدة تتحكم فيها عوامل متداخلة لا تنفصل عن بعضها.
- ظهور النزعة الفردية وتلاش ي الانتماءات بحيث لم تعد الجماعة مؤطرة لفعل الفرد الذي استقل عن جماعته، فظهرت نتيجة ذلك قضايا جديدة في الأسرة والاقتصاد وحتى السياسة.
- وجود المواثيق الدولية والقانون الدولي مؤطرا للعلاقة بالآخر.
- التعددية الثقافية والعرقية والدينية في كل قطر بسبب العولمة التي صار حضور الآخر عقديا وثقافيا وفكريا واقتصاديا وسياسيا إجباريا رغم الصبغة الاختيارية التي يظهر بها.
- بروز ثقافة الحريات عاملا مؤثرا وفاعلا في الواقع. - بناء نظام حقوق الإنسان وسيلة لعيش الأقليات بين ظهراني الأكثرية.
كل ما مر معنا يرشح أن تكون صحيفة المدينة أساسا صالحا للمواطنة التعاقدية في المجتمعات الإسلامية، وخيارا يرشحه الزمن والقيم للتعامل مع كلي العصر، لتفعيل المشترك الإنساني، وتحييد عناصر الإقصاء والطرد. فهي اتفاق أتى من غير حرب ولا قتال ولا عنف ولا إكراه، اتفاق تداعت إليه أطرافه طواعية للالتفاف حول المبادئ التي تضمنها ضمن دائرة التفاعل الإيجابي مع الواقع ومع مكونات مجتمع المدينة، وتحقيق السلم الاجتماعي القائم على الاعتراف المتبادل بالحقوق والواجبات، والقبول بما يفرضه التنوع من اختلاف العقائد والمصالح وأنماط الحياة، مع وجود مرجعية حاكمة يفيء إليها الجميع حال التنازع والاختلاف.
لقد أسست وثيقة المدينة واقعا جديدا غير مسبوق في التاريخ، ليحل محل القبيلة التي كان العرب يقدسونها، وأسست لمنطق الاندماج ضمن نسق الدولة الذي لم تعرفه الجزيرة العربية من قبل رغم حضور مفهوم الدولة في ذهن كثير من أمراء الجزيرة، لكنه لم يكن مفهوما ناضجا، بل كان متأثرا بصورة الدولة في القوتين الكبيرتين في ذلك الوقت، أي: دولة الروم ودولة فارس.
إن وثيقة المدينة كفلت حق المواطنة لكل من هو على أرض المدينة، وهذا يعني أن مجرد الانتماء إلى الأرض هو أحد مقومات المواطنة، إضافة إلى الولاء الذي يمكن النظر إليه باعتباره دوائر ومراتب بإمكانها أن تتواصل وتتفاعل بدلا من أن تتصادم وتتقاتل.
وكان من أهم ملامح حقوق الإنسان في الصحيفة الاعتراف بالتعددية إقرار حرية العقيدة بإقرار أهل كل معتقد على ما يعتقدونه، وأسست لقاعدة المساواة في الحقوق والواجبات، ضمن بنية المجتمع المدني حين نصت على مكونات الأنساق البشرية والقبلية والمساواة بينها ضمن الإطارالذي تستقيم به سيرورة المجتمع،بحيث كل جزء منها مساو للأجزاء الأخرى ومكاف لها في ما يقبل التكافؤ، لا مكان فيها لمنطق التابع والمتبوع، وبينت واجبات كل جزء تجاه مكوناته أولا، وثانيا تجاه باقي المكونات المشكلة لعموم المجتمع ضمن نسق العدل والمصلحة سلما وحربا، ثم ثالثا تجاه المكونات المحيطة به، استيعابا من الصحيفة للتعدد الديني والعرقي والقبلي ضمن سياقين مرتبطين هما: سياق العدل كأدنى حد مطلوب، وسياق البر الذي هو أعلى المراتب المطلوبة في التعامل مع الإنسان، والذي يقتض ي مع مقام العدل ألا يكون هناك حديث عن أقلية وسط وطن، وإنما الحديث عن أمة واحدة.
إننا نؤكد وبصراحة أن الأقليات المسيحية في المشرق الإسلامي هم مواطنون من أهل هذه الديار، وجزء من نسيجها بشريا وحضاريا وتاريخيا، فلا يجوز لأي كان سلبهم هذا الحق المكفول لهم بنصوص الشريعة العامة والخاصة، ولا يجوز لأي كان أن يروعهم أو أن يخيفهم، أو أن يعتدي عليهم، ولا يجوز لأي مؤسسة تشريعية سن قوانين تميز بينهم وبين المكونات الأخرى إلا أن يكون ذلك تمييزا إيجابيا يستديم وحدة الوطن ويصون كيان المجتمع.
الذي نريد أن نقول باختصار:
1- نريد أن نقول للعالم كفى من الدماء والصراع على البقاء، فلن يولد ذلك إلا الفناء، فلنتعاون جميعا على البقاء.
2- اتهام الإسلام بظلم الأقليات ليس له مستند في الشرع ولا في التاريخ، والتاريخ نفسه يشهد أنه ما من ديانة إلا وعاشت فيها الأقليات مآسي في فترة ما من التاريخ، وفي مكان ما من الأرض، وتلك عبرة تجعل الجميع يتعاون ليكون الجميع أكثرية، لأنه إذا ساد العدل، وأقرت المساواة، وعمت الرحمة، فإنه لا يبقى لمفهوم الأقلية ولا الأكثرية معنى. 3- إن الأعمال التي مست الأقليات كما أصابت الأكثريات بدون تمييز في الأذى، مع تنوعها من قتل وتهجير وإحراق وتشريد لا نتجادل معها، لأنها أعمال عصابات إجرامية انتحلت اسم الاسلام واسم الخلافة واسم الأمة واسمها في الحقيقة الفئة المحاربة، وكما أن كل هذه العناوين باطلة فما بني عليها باطل.
4- نريد أن نقول إن مسيحيي الشرق وجدوا ليبقوا وولدوا ليحيوا، وهم أصل من أصول شجرة هذه المنطقة، وجذر من جذورها لا يمكن أن يجتث مهما عتت العواصف وغلت مضلات العواطف.
5- نريد أن نشارك الأكاديميين والعلماء من كل الديانات في وثيقة تاريخية يمكن أن تكون أصلا من أصول المفاهيم المعاصرة للمواطنة.
6- نريد أن نقول أن المواطنة الدستورية التي لا أكثرية فيها ولا أقلية بالمعنى الذي يؤدي إلى الغبن وتخضع لتعاقد يتيح الحرية ويضمن السلم الاجتماعي، هي الأساس الصحيح والمقبول ديانة ومصلحة.
7- نريد أن نقول لكل أهل الديانات: دعونا نكون حلف ًا للسلام، سلام القلوب والنفوس الذي يوجه السلوك إلى أفعال الخير.
8- نريد الإعلاء من شأن الإنسان في كل مكان. 9- نريد أن يتوقف القتل والجريمة وأن نقول لا للاحتراب والارهاب.
10- نريد أن يتوقف الظلم والبغي وأن تستفيق الضمائر لإحقاق الحقوق.
** نص الورقة التأطيرية لمؤتمر "الأقليات الدينية في البلدان الإسلامية الإطار الشرعي والدعوة إلى المبادرة"، المنعقد بمراكش في الفترة الممتدة من 25 إلى 27 يناير 2016. والتي القاهها معالي العلامة عبد الله بن بيه


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.