منذ عُقود خَلَت، شاعت بالمغرب أخبار القمع والتعذيب، كما ذاع صيت « الجلادين» والجهات المسؤولة عن القمع في حق المتظاهرين والمعتقلين، حيث كان القمع والتعذيب وسيلة عادية في التعامل مع المتظاهرين والتحقيق مع المعتقلين. وتشاء الأقدار أن يتجاوز المغرب نسبيا أسلوب القمع والتعذيب لفترة محدودة، ليخرج ضحايا القمع والتعذيب من دائرة المعاناة، عندما وقفوا يَحكون للعالم أنماطا مختلفة من التعذيب والقمع، عبر جلسات استماع حَمَلت من المرارة الشيء الكثير، رسمت فظاعة حقبة دامت سنوات، حقبة تَفَنّن « رُعاتها « في إذاقة ضحاياها أبشع أنواع القمع والتعذيب. وبعد أن اعتقد الجميع أن القمع ذهب إلى غير رجعة وأصبح في دائرة الماضي الأليم، عرفت العديد من المدن المغربية، يوم الخميس الأسود، فصولا جديدة من القمع والاعتقالات العشوائية في صفوف الأساتذة المتدربين المُحْتجين سلميا، بشكل لا يتوافق مع شعارات المرحلة في ظل دستور جديد يجرم القمع والتعذيب، تُوجت فصولها بارتكاب أسوأ ردة للحقوق والحريات، حيث أسفرت التدخلات الأمنية العنيفة، عن عدة إصابات متفاوتة الخطورة في صفوف الأساتذة المتدربين، بحيث لم يستطع النجاة والإفلات من الهجمة إلا من اسعفته سيقانه في الهرب، في خرق سافر للدستور الذي يحرم « المس بالسلامة الجسدية والمعاملة الحاطة بالكرامة الإنسانية»، كما كشفت عمليات القمع عن فضائح جديدة، لم تطو مع صفحات ماضي الجمر والرصاص، التي أسست لتجربة الإنصاف والمصالحة. فعلى امتداد الوطن، دشن الجلادون قمعا رهيبا على أجساد الأساتذة المتدربين، الذين يخوضون منذ نهاية أكتوبر الماضي معركة بطولية طويلة، ضد المخططات الحكومية التي تضرب الحق في التعليم العمومي والحق في الشغل، ومن بينها المرسومين 2.15.588 و 2.15.589 القاضيين بفصل التكوين عن التوظيف وتقليص المنحة الشهرية للأساتذة المتدربين من 2450 درهم إلى 1200 درهم، حيث تعيش أغلب مراكز التكوين التابعة لوزارة التربية الوطنية المغربية على وقع الاحتجاجات المستمرة ومقاطعة الدروس، وإلى حدود اللحظة ما زال الأساتذة المتدربين يخرجون بالآلاف في تظاهرات غير مسبوقة، شبيهة بما نظمه الأطباء المتدربين قبل أسابيع. ويواصل الأساتذة المتدربين احتجاجاتهم وقد أعلنوها صرخة مدوية: « جميعا من أجل إسقاط المرسومين «، حيث تنوعت أشكالهم النضالية بين معارك وطنية وأخرى محلية. وبمجرد انطلاق خطواتهم النضالية، تحركت آلة القمع لتضرب وترفس وتعتقل وتسيل الدماء، حتى أن الأفكار والأحداث والصور الحية التي عاشها ضحايا القمع تزاحمت في أذهانهم مثل كتل ثقيلة، بعضهم لم يعرف كيف يبدأ الحكاية، ولا كيف يصوغ مجريات القمع الرهيب إلى كلمات معبرة. وقد طالبت جمعيات حقوقية وأحزاب سياسية بكشف الحقيقة كاملة في ظروف القمع غير المبرر والمس بالسلامة الجسدية والمعنوية للأساتذة المتدربين وتحديد المسؤوليات، مع اتخاذ جميع الإجراءات القانونية لمسائلة مرتكبي الاعتداءات، وتحديد المسؤوليات على مستوى القرار الأمني في مختلف مستوياته، بخصوص القوة وما رافقه من اعتداء سافر ومعاملات مهينة وحاطة بالكرامة. كما أطلق عدد من النشطاء عريضة توقيعات « جميعا لمعاقبة كل من له يد في القمع الوحشي للأساتذة المتدربين «، على اعتبار أن لا شيء يجعل الشعب يستريح ويهدأ ويستقر ويخضع للقانون والدستور، إلا إذا تم تطبيق الدستور والقانون بالعدل على الجميع دون تفرقة لأي سبب. فالعدل يعلو على كل الأسباب، لأن إفلات الجاني من العقاب يعرض المجتمع لمخاطر متعددة أقلها فقدان الثقة في عدالة القانون. لقد فتح قمع الأساتذة المتدربين الباب للسؤال عن واقع حقوق الإنسان في المغرب، ومصداقية المزاعم التي يُروج لها في المحافل والملتقيات الدولية حول احترام المغرب لحقوق الإنسان. ومما يدعم هذه الخلاصة هو العدد الكبير من الانتقادات التي يتعرض لها المغرب في تقارير المنظمات الحقوقية المحلية والدولية، والتي تجمع على أن المغرب يعرف تراجعا عما تحقق في السنوات الأخيرة، بالنظر إلى استمرار شكاوى التعرض للقمع وخنق الحريات، وتنديد الكثيرين بتقاعس السلطات المختصة في النظر فيها. يحدث ذلك بالرغم من أن المغرب وقع منذ سنة 1993 على اتفاقية مناهضة التعذيب، ومصادقته على قانون تجريم التعذيب ضمن مدونة القانون الجنائي، ومصادقة البرلمان في 2006 على قانون تجريم التعذيب، والمصادقة في ماي 2011 على البروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من صنوف المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، كما أفرد الدستور المغربي المعدل في استفتاء فاتح يوليوز 2011 بابا كاملا حول الحريات والحقوق الأساسية، حيث ينص الفصل 22 أنه « لا يجوز المس بالسلامة الجسدىة أو المعنوية لأي شخص، في أي ظرف، ومن قبل أي جهة كانت، خاصة أو عامة. لا يجوز لأحد أن يعامل الغير، تحت أي ذريعة، معاملة قاسية أو لا إنسانية أو مهينة أو حاطة بالكرامة الإنسانية.. «. وعلى الرغم من أن القمع بكافة أنواعه يعتبر منافيا للمبادئ العامة لحقوق الإنسان التي تم التوقيع عليها من قبل العديد من الدول، إلا أن معظم الدول الموقعة وضمنها المغرب، لا تلتزم بتطبيق البنود الواردة في المعاهدات المذكورة، نظرا للطبيعة المتكررة للقمع أو سوء المعاملة. بموازاة مع ذلك، لازالت دعاوى المسؤولين تتخذ من ذريعة الحفاظ على الأمن مُسَوغا لدوس الحقوق والحريات وقمع المحتجين السلميين، رغبة منهم في كتم أنفاس المحتجين ووقف ديناميتهم الاحتجاجية المشروعة. إن العودة لاستخدام العنف المفرط ضد المحتجين السلميين بالمغرب، ممارسة تحيلنا على سلوكات قديمة، انتفضت من جديد، لتؤكد للجميع أن « حليمة عادت لعادتها القديمة «، وهو مثل متداول في الثقافة العربية، يضرب لكل من كان له أحد الطباع السيئة التي تَعَوّد عليها، ثم يتظاهر بتركها ونبذها، لكن ما يلبث أن يعود إليها مرة أخرى، فمن شب على شيء شاب عليه.