بين سفر تختاره و آخر يُفرض عليك، يختلف معنى السياحة عن معنى الغربة، معنًا لسفر تختاره و آخر يختارك، كيف يمكن الحديث عن إحساس بالغربة أثناء سفر للسياحة، حيث تتقلص حدود المكان أمام امتداد معنى الإنسان ، حينما تختار وجهتك السياحية تذهب إليها، ليس عن رضى فحسب بل عن حب و عشق ، تملأ حقيبتك بأحلامك و شوقك المجهول لبلد طالما تمنيت زيارته، و استقطعت حيزا من ذاكرتك لأجله، سفر كان من مشاريعك المؤجلة، كيف تكون غريبا في مكان أحببت الذهاب إليه، و سكن حيزا من أحاسيسك قبل حتى أن تزوره؟؟؟ ، لكن حينما تفقد حرية الاختيار فعوض أن تملأ حقيبة سفرك بالذكريات و الشوق، ستمتلئ بالغربة و الخوف و لو كنت في عطلة.. حتى أحلامنا ببساطتها صُودرت منا، حلمت كثيرا شأن العديد من أبناء هذا الوطن بزيارة البلدان العربية مؤمنا بوحدة الإنسان العربي و كافرا بأسلاك الحدود، بدأ حلمي و أنا طفل في سنوات الثمانينات، كنت أسافر بخيال الطفل الفسيح الذي لا تمنعه أسلاك الحدود إلى العديد من البلدان العربية، تارة إلى العراق عبر مجلة المزمار و ماجد أو غيرها، كنا أطفال عرب توحدنا مساحة صغيرة لا تتعدى مساحة ورقة «ركن التعارف» في نهاية كل عدد، و تارة أخرى يأخذني خيال الطفل إلى مصر العربية، عبر مسلسل ليالي الحلمية أو الثلاثية أو فيلم مطول بخاتمة نصر عربي لم أنتبه لسذاجته وقتها، أكثر من انتباهي و حفظي لأسماء حارات و أزقة علقت بخيالي و حجزٓت حيزا من ذاكرتي، في انتظار أن يكبر ذلك الطفل و يطابق الخيال بالحقيقة، يستبدل صور بلا احساس، بشعور حقيقي لغروب جوارالأهرام أو ذوق طبق «فول مدمس» بحارة شعبية، أو «ترمس»على كورنيش النيل. كنت أتوق لزيارة بغداد و سوق عكاظ، لأقارن صور الواقع بصور ركبت في مخيلتي كلما قرأت شيء عن تلك البقاع، حينها كنت أظن أنه لا يفصلني عن تحقيق أحلامي سوى صغر سني و قسط يسير من المال لن يستعصي عني حينما أكبر، كبر ذلك الطفل و كبر معه حلم زيارة كل البلدان العربية حتى فلسطين لم تستعصي على أحلامي، رغم الإحتلال كنت أومن أنها دولة للعرب، يمكن زيارتها و لو على طريقة رأفت الهجان ، كنت أظن أن تحقيق حلمي مسألة وقت لا غير، كنت أبحث عن هوية قومية تقوي هوية انسانية امتلكتها و أنا طفل وبدأت أفتقدها كلما كبرت و استعصي علي تحقيق حلمي، تمنيت حقيقة لو حققت حلمي العربي، تمنيت لو زرت فلسطين و العراق و مصر و سوريا و لبنان و اليمن و ليبيا و تونس و الجزائر ... لكن للأسف ، حلم كان من أحلام اليقضة ، أصبح مستعصيا الآن حتى في المنام، حتى بعد ربيع عربي، ظننت أن أحلامي ستزهر معه أكثر، و جدتها تموت و تُقبر. فهل أبدل بلدان أحلامي ببلدان أخرى..؟؟؟ بلدان قيل عليها أنها بلدان إنسانية كونية و ربيع دائم ، بلدان الديمقراطية و حقوق الإنسان بلدان لا تفرق بين عربي و عجمي ... لا لن أتخلى عن حلمي العربي، فرغم ما يزعمون فلن أكون في تلك البلدان أكثر من سائح غريب في بلد أعجمي، لساني غير لسان أهله، و هويتي غير هويتهم، في بلد عربي لن أتصنع ضحكة أو ابتسامة لن أترجمها إلى لغة غريبة عن عروبتي، حتى لو نجحت في ذلك فلن تفهم إلا كخدعة إرهابي أتى من دول ربيع بلا زهور ليزرع رعبا من حقد دفين، في أرض تمنى لو كانت وطنا له، ابتسامتك لن يرد عليها بابتسامة مقابلة، و لكن بنظرة رعب و ريبة، سحنتك العربية ستكون كافية لتحسسك غربة ضيف ثقيل حل على غرباء حين رفضه أهلُه. لن يتغير حلمي و لكن سيُأجل ... أن تسافر و حقيبتك مليئة بالذكريات ليس كأن تسافر و حقيبتك محملة بعقدة النقص و الغربة. عجزت أنا و لم يعجز ذلك الطفل، فقدرنا أن نحلم بالماضي و غيرنا يحلم بالمستقبل...