3 - الكتابة النسائية بين الأطروحي والفني. إن أحد رهانات الكتابة النسائية هو تغيير نظرة المجتمع للمرأة والكف عن اعتبارها قطع غيار ما يصلح منه للالتذاذ يتم إبرازه(صدر، أرداف، خصر...) وما دون ذلك يتم تركه جانبا. بمعنى الكف عن اختزال المرأة لجسد واعتبارها صوتا وذاتا فاعلة في الحياة كما في الكتابة.. ويكفي مراجعة الشعر العربي على امتداد تاريخه للوقوف على هذه الحقيقة.. حقيقة اختزالها لجسد أمر يرتفع عندما نراجع ما قالته المرأة في حق الرجل إبداعيا على قلته. في هذا السياق ستعتبر المرأة الكتابة فرصة لمحاسبة الفكر الذكوري المعطوب دون أن يفهم من هذا الكلام أن قضية المرأة قضية نسائية، فهي مجتمعية في الأساس تعمل في العمق على تكامل الطرفين في تأسيس المعنى والحياة ومتعلقاتها.. ولهذا حملت الكتابة النسائية الرجل على لعب دور المصغي لقول المرأة ولو إلى حين. فبدأ يتخلى عن شيئا فشيئا عن صورتها المشوهة التي تحتفظ به ذاكرتنا الجمعية، صورة الخنساء مثلا تلك المرأة العاطفية التي لا تجيد سوى البكاء.. وهنا يحق لنا التساؤل: لما لم تحتفظ ذاكرتنا الشعرية بأشعار نسائية في الفخر والوصف والمدح وما شابه ذلك؟ هل هو مكر وانتقائية الذاكرة الذكورية العربية أم هي محض صدفة؟. في هذا الأفق تنتصب الكتابة النسائية لتؤسس زمنها الثقافي الخاص وهو بالمناسبة زمن مفتوح بخلاف الزمن السياسي المغلق.. صحيح أن الزمن الثقافي زمن بطيء بالقياس لسرعة الزمن السياسي لكنه رغم بطئه فهو يصنع الفارق في صوغ العقل والوجدان ولو بعد حين. إن وعي المرأة بهذه المعادلة جعلها تتمثل الكتابة جسرا لعيش الحياة مرتين وشرفة للتصريح بالهوية المفتقدة، وتأكيدا على خصوصية كينونتها. إن الكتابة النسائية بالنتيجة توفقت في طرح قضية المرأة ليس كجسد ولكن كمسلكيات وقيم وأخلاق تكرست بفعل التنشئة الاجتماعية على امتداد آلاف السنين، حيث باتت المرأة في لا وعينا الجمعي مرادفة للنعومة والطاعة والصمت. لهذا فكل معترض على الكتابة النسائية بحمولتها التحررية لا التفاضلية يتشبث لا شعوريا بصورتها المكرسة، نتيجة تجعلنا نختلف مع خالدة سعيد مثلا التي اعترضت على التسمية بقولها «هذه التسمية تتضمن حكما بالهامشية مقابل مركزية مفترضة. فالتخصيص يعين حدود الفئة الكاتبة بعينها قياسا إلى عام. الخاص هو الفئة المعنية وأدبها، والعام هو الإطلاق والمقياس والمركز. فعن أي تصور نصدر حين نطلق هذه التسمية؟ هل نصدر عن تحديد النساء بفئة خاصة قياسا إلى إنساني عام؟ وما قوام التخصيص؟ بيولوجي؟ عقلي؟ ديني؟ تاريخي؟ ثقافي.»(8) إن الكتابة النسائية بسبب حداثة سنها تاريخيا لم تراكم كما يوازي ما أنتجته الكتابة الرجالية ..لكن هذا التفاوت الكمي لا يعني إطلاقا هامشية الأولى بقدر ما يؤشر على جدة الظاهرة، وهي نتاج واقع موضوعي.. علما بأن الرجل نفسه في حالة إيمانه بقضية المرأة يكتب كتابة نسائية مذكرة تمييزا له عن كتاباتها المؤنثة(كتابات قاسم أمين، نزار قباني، نموذجين).إن خصوصية تاريخ قهر المرأة المضاعف يعطي كتاباتها بعدا مختلفا سواء في تمردها وشجبها، أو في إدانتها للثقافة الذكورية وليس للرجل مرة ثانية.. بل إنها كتابة في صالحه لأنها بها تتحرر وتحرره في الآن نفسه. وعلى حد تعبير سيمون ديبوفوار» إن مشكلة المرأة كانت دائما مشكلة الرجل» والعكس صحيح. وإذا كان الواقع الاجتماعي العربي/المغربي المعطوب قد جعل الكتابة النسائية ذات بعد أطروحي تحرري في المقام الأول، فهذا لا يعني أنه المرجع الوحيد المعلل لخصوصيتها. فخصوصية كتابتها تعود لتركيبتها النفسية التي جعلت خطابها «يتميز بحضور مرتفع نسبيا لدور المرسل يعني أن الوظيفة التعبيرية»(9)أكثر حضورا وذات دلالة عميقة. إضافة إلى التدفق الأتوبيوغرافي والعودة للطفولة وتسريد الجسد، وهيمنة الذات واعتماد أسلوب الاعتراف والمذكرات وصيغة الحوار الداخلي (10)دون أن يفهم أن هذه الوسائط التبالغية منعدمة عند الرجل، فهي قليلة بالقياس لوفرتها في الكتابة النسائية لاعتبار ثقافي وحضاري معلومين وكما تقول الأديبة كارمن البستاني «ليس لنا نحن والرجل الماضي نفسه، ولا الثقافة نفسها، فكيف يكون لنا والحالة هذه التفكير نفسه والأسلوب نفسه»(10)إن ما يتحكم في خصوصية الكتابة النسائية ليس فقط جنس الكاتبات وعمر تجربتهن الكتابية، ودرجة وعيهن بقضيتهن ولكن تظافر السياق الثقافي والمجتمعي العام بتركيبتها النفسية هما اللذان يعطيان خصوصية للغة في يدها بل والتجربة في شموليتها.. يقول في هذا السياق الناقد محمد برادة «اللغة النسائية مستوى من بين عدة مستويات. هذا الطرح يجب أن نربطه بالنص الأدبي. والنص بطبيعته متعدد المكونات رغم الوسط هناك تعدد. المقصود باللغات داخل اللغة النسق لا القاموس. هناك كلام مرتبط بالتلفظ، بالذات المتلفظة. وليس المقصود أن تدرس نصوصا قصصية وروائية كتبتها نساء. إن الشرط الفيزيقي المادي للمرأة كجسد، نصوص تكتبها المرأة. يلتقي الرجل والمرأة الكاتبة في اللغة التعبيرية واللغة الإيديولوجية لكن هناك اللغة المرتبطة بالذات(ببعدها الميتولوجي)من هذه الناحية يحق لي أن أفتقد لغة نسائية. فأنا من هذه الزاوية لا أستطيع أن أكتب بدل المرأة. لا أستطيع أن أكتب أشياء لا أعيشها. التمايز موجود على مستوى التميز الوجودي. أنا لا أستطيع أن أكتب بدل الرجل الأسود المضطهد.»(11) نخلص إلى أن الكتابة النسائية إذا كانت أطروحيا تستدعي المنسي والمهمش والمكبوت والمبعد قصد المساءلة والانتقاد بنية التجاوز.. فإنها على المستوى الفني تتشبث في الغالب بضمير المتكلم قصد إثبات حضورها وشجبها لتاريخ تصميتها الطويل.. إن الكتابة على خلفية هذا الوعي منحت المرأة لأول مرة فرصة أن تصير كاتبة ومكتوبة، وذلك بالسفر بعيدا في أعماق الذات واستدعاء الواقع بتخليها النسبي عن المونولوج لصالح الحوار كجسر تبالغي للتواصل مع العالم الخارجي، علما بأن رحلة الكتابة عندها كانت ومازالت محفوفة بالمخاطر، ومفتوحة على المجهول بسبب انتقالها من عالم الصمت إلى عالم الكلام. ينضاف لكل هذا تسريدها للجسد وشعرنته بهدف تحريره من خلال تأنيث اللغة والخطاب بعيدا عن سطوة المجتمع. «فحين تكتب المرأة تفرغ جسدها على النص، فينكتب، ويتحرك وفقا لمشيئة الجسد ورغباته وإيحاءاته، وهذا التوجه يمثل العامل الأكثر فعالية في التمويل والتثوير، كما يمثل الجسد عند المرأة العتبة النصية الوحيدة في أفق الانفتاح والتعدد، والمساءلة والنقد، وتبقى علاقة المرأة بجسدها، وعلاقتها بجسد النص والآخر، علاقة نور و ظل،ماض وحاضر، وصعود وهبوط، ويتحول النص إلى حيز تصادم وتحول وتفاعل، وقد يمتلك النص سلطته من خلال العناصر المتفاعلة التي يغذيها الجسد، ويشحنها أكثر في تفعيل السرد، والمحافظة حيويته وإغرائه.»(13). إن لغة الكتابة النسائية قد ارتهنت باكرا للإيحاء والرمز والمجاز لتحقيق المتعة الفنية وشد انتباه المتلقي ممارسة لعبة التخفي والتعتيم كي تجعل اللغة تقول ما لم تتعود على قوله. تقول أحلام مستغانمي في رواية فوضى الحواس: «يحدث للغة أن تكون أجمل منا، بل نحن نتجمل بالكلمات، نختارها كما نختار ثيابنا حسب مزاجنا ونوايانا. هناك أيضا، تلك الكلمات التي لا لون لها، ذات الشفافية الفاضحة، كامرأة خارجة توا من البحر بثوب خفيف ملتصق بجسدها، إنها الخطر حتما، لأنها ملتصقة بنا حد تقمصنا.»(14) إن اعتماد الكتابة النسائية على أساليب التخفي وحجب نصف المعنى من خلال قناع المجاز يتأسس على وعيها التام بأن السعادة تكمن في الانتظار والتطلع لفهم الملتبس مادام الوعد بالعطاء أهم بكثير من العطاء في حد ذاته.» فالمرأة المبدعة، تحول المباح المعرى إلى أقنعة، في استخدامها للألفاظ كمؤشرات توحي بالبعد الجنسي، أو تتخذها أنثى الرواية سبيلا للبوح عن بعض مواجع الأنوثة، مستفيدة من ذاكرة الكلمات، وحمولتها الثقافية، فتتحول المفردات إلى أزرار، تستدعي البعد الجنسي، كاستخدام المرأة المبدعة للقفل والمفتاح، ولذة الاختراق والالتحام بالآخر المذكر، كما تستخدم فعل الامتطاء والركوب والنزول، والدخول والخروج، والمفتوح والمغلق، والقلم والورق، وكل ما يندرج تحت عمليات الاختراق، وإضاءة المخبوء في مكامن الحجر السرية المعتمة.»(15) إحالات: 8-خالدة سعيد. المرأة التحرر الإبداع. نشر الفنك.1991.ص85. 9-رشيدة بنمسعود. المرأة والكتابة. إفريقيا الشرق، الدارالبيضاء.1994.ط1.ص93/94. 10-خلصنا لهذه الخاصيات من خلال دراسة نصية للمتن القصصي المغربي. انظر في هذا الشأن كتابنا الموسوم. أسئلة القصة القصيرة بالمغرب .محمد رمصيص. طوب بريس.2007. 11-كارمن البستاني. مقالة الرواية النسوية الفرنسية، مجلة الفكر العربي المعاصر.العدد34.ربيع1985.ص76. 12- محمد برادة. مقالة ضمن مجلة آفاق.العدد.12.أكتوبر.1983. 13-الأخضر بن السايح. سرد الجسد وغواية اللغة .عالم الكتب الحديث.2001.ص97. 14-أحلام مستغانمي. فوضى الحواس.بيروت.1985. ط 5- ص32. 15-الأخضر بن السايح. سرد الجسد وغواية اللغة .م/م.ص229/230.