«مع العلم أن بعض الناس بإمكانهم ارتداء أكثر من قبعة في يوم واحد حسب المواقف التي يتعرضون إليها». إدوارد دي بونو الشمس في كبد السماء منذ الساعات الأولى من منزلة العنصرة، ياللكبد الحرى كما تقول العرب. أفتح عيني على صياح ووعيد جارتنا عائشة، تلوم والدتي على مماطلتها أداء دين الصوف من غسل ( الودحة والتقرشيل والتبرويل والسدا). الصوف تحول إلى بطانية شخماء وقرار التماطل لم يتحول عن تعنته. دبيب الخُمار مازال جاثما على رأسي الثقيل كحمار استفرد به الغش في نوبات الدراس القائظة. عقل بني آدم ليس محفوظا في خابية باردة، حتى يدرك ما يصبو إليه، على الأقل ستخرج الفكرة من الحيز العام للإزعاج، و أتوجه إلى السوق لينعم رأسي ببريه أو قبعة لاستكمال وحدتي الترابية، عفوا لاستكمال هويتي الإبداعية. كان من اللازم أن تكون خوذة بدل هذه البيريه أو القبعة، حتى نتصدى لرصاص الغش والمحسوبية وغلاء الأسعار، لكن لنترك ذلك الجمل راقدا، كما تقول والدتي، مع العلم أنها مازالت مصرة على التماطل في أداء دين جارتنا عائشة. والدتي كالديك تعرف الأوقات وتبيت في البصاق. كؤوس الصينية المقلوبة عليها بقايا شاي أحمر مريب يتزاوج وسطه الذباب بطنين السعادة والرعشة الكبرى. خبز بائت كعجلات مطاطية أنت تجر وهو يجر، وزيت زيتون مغشوش، كل هذا لم يفتح شهيتي، فأدركت الحافلة حتى أحصل على ما يكمل هويتي الإبداعية، قد تكون قبعة جيمس جويس، أو تلك التي يعتمرها بابلونيرودا أو سان جون بيرس، أو على شاكلة العقاد، أو توفيق الحكيم. رائحة فمي كافية لقتل كلب، هذه الشمس اللعينة تشل المخ وتسيل زنخا فظيعا. أسترق النظر لجاري الجالس بجانبي، وأدخل أصابعي في جنبات فخذي مستروحا رائحة الوجود الأول، إنها تذكرني دائما بأسرار وخفايا الجنس البشري. السوق يعج بالزعيق، كل يغني على سلعته، تلاطفني إحداهن بكلامها المعسول لأشتري حلوتها البائسة: « أزين متشريش من عندنا ولا حلوتنا معمرتش ليك العين». أبتسم في وجهها، وأذرع إلى داخل السوق صوب رحبة الملابس المستعملة، لحظتها انبجس من بين الهامات رجل يحمل قبعة واحدة. الازدحام الشديد حال دون الوصول إليه، سرعان ما ضبطت القبعة في اتجاه خيوط الشمس اللاذغة، أتدافع بالمناكب، وأغوص برأسي وسط الزحام، أبغي طريقه، كانت المسافة تزيد ويزيد معها بحثي وشغفي، حتى وصلنا إلى جبل قد كتب على أعلى قمته؛ جبل كوريدالوس. حينها وقف الرجل العملاق بلحية تغطي وجهه، كاشفا عن ابتسامة فأردف: مرحبا بضيفنا العزيز، هكذا يكون السعي إلى المبتغى، تفضل لنطاوع الليل، وفي الغد خذ قبعتك التي ستكون من نصيبك. ستسعدك على الدوام، إنها تلهم الشعر وتقرب المعاني، وتكشف مكنون المخ، أما إذا كنت ترغب في أن تنقلب إلى سارد بارع فما عليك إلى إن تحركها على قنتك، سترى عجب العجاب من الحكايات، ستكون مثاليا، يطوف بك الكمال إلى حيث الرغائب ومواضعات المجد. لقد كنت أشتغل على المثالية والكمال من خلال سريري، لكن العالم تغير من متاهة النوم إلى متاهة الكلمة، واستكانت القبعات على الرؤوس في مهمات جديدة. ما كاد ينهي كلامه حتى أطرق رأسي بالقبعة التي كنت أتمنى، فخاب فيها أملي على نحو كبير؛ قبعة حديدية لم تكن على مقاسي، فأخذ يطرق رأسي بمطرقة، فانجعص مخي كطائر صادف حجرة على أم رأسه، منغمرا داخل حيز التوسلات بصراخ تجفل منه البهائم، يبلغ صداه حد الحجرة الواقفة، فأمرني أن أنظم عدة أبيات حتى يعلم فحوى نتيجته، فأنشدت ومخي يبدو جاريا في أنهار من الزبدة: أي.. أي .. أي. يبتسم من جديد ويزداد حنقه: أنت لا تحسن الشعر أيها العاق، عليك أن تكون حكاء وساردا. أدخل القبعة الحديدية السردية هذه المرة، فضاع فيها رأسي ووجهي معا. أخذ يفلق رأسي، ويجر أذني حتى يضبط المقاس على الوجه الأكمل، فأغمي علي، حتى أدركت السوق خاويا إلا من أوراق دواوين شعرية لشعراء أعرفهم، تتناثر في الهواء، مبقعة بالزيت تحولت إلى كواغيد، وبعض أوراق روايات متكرمشة جانب الحائط قد مسح بها ما لا يذكر.