يتعامل العقل السياسي العربي مع التصريحات الغربية عامة والأميركية على وجه الخصوص بالكثير من الانفعال والتسرّع والتخبط ودون سعي إلى ربط القول السياسي بمنظومة الاستراتيجيا الأميركية في العالم العربي، إلى درجة تحيل الرأي العام إلى وجود ?تغييرات? و?تعديلات? في مقاربة الولاياتالمتحدة حيال الملفات الساخنة. كثيرا ما تسقط المعالجة الإعلامية والسياسية ?الميكروسكوبيّة? لأداء الولاياتالمتحدة في التناقضات الفكرية والمفارقات الاستراتيجية على اعتبار تعدّد الفاعلين صلب مؤسسة صنع القرار الأميركية ما قد يوحي في بعض الأحيان بوجود ?تضارب? في الفعل الواحد لدى الإدارة الأميركية في حين أنّ مبدأ ?التعدّد صلب الوحدة? هو ثابت أساسي وركين في سياسة العمّ سام ليس في المنطقة العربية فقط وإنما في العالم برمته. تصريح وزارة الخارجية الأميركية، الصادر يوم الجمعة الماضي، بشأن إصرار واشنطن على الإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد، وتمثّل هذه المقدمة كشرط للانتقال السياسي في البلاد ولمحاربة التنظيمات التكفيرية في سوريا وعلى رأسها تنظيم الدولة الإسلامية، قدّم في الإعلام العربي المعارض للنظام السوري على أنه مراجعة تقييمية أميركية للمواقف السابقة التي مالت نحو بقاء الأسد واعتباره جزءا من عملية الانتقال السياسي في البلاد، فيما قدّم في الإعلام المؤيد للنظام السوري على أنّ التصريح انتكاسة لمسار التسوية الذي دشنته واشنطن مع طهران عقب الاتفاق النووي الإيراني. بيد أنّ المقاربتين تجانبان الصواب في مستوى ?عزل? التصريحات الأميركية عن باقي المنظومة الأميركية في القول والفعل، ذلك أنّ منطق الولاياتالمتحدة الحالي على الأقل يقوم على إبقاء المصالح قائمة مع المحاور المتقاتلة في سوريا دون إلغاء لأيّ مسار في انتظار رجحان الكفّة العسكرية والسياسية. سياسة الإبقاء على شعرة معاوية مع كافة الفصائل المتناحرة، ماعدا داعش وفق المعلن حاليا على الأقل، ودون السعي إلى وضع كافة البيض السياسي في سلة واحدة إنما تشير إلى عقلية تجارية نيوليبرالية محضة تنبني على مقولة ?لا عداوة دائمة ولا صداقة دائمة ولكن مصالح دائمة?، ولكنها تشير أيضا إلى درس أميركي قاس تعلّمته واشنطن من العراق وأفغانستان والصومال ولبنان بأنّ إلغاء طرف من المعادلة الداخلية والرهان على ?الوكلاء الحصريين? فقط يعود بالوبال على ?الأصيل? الأميركي و?الوكيل? الداخلي. اليوم، تبني واشنطن سياستها في سوريا مع المعارضة والنظام وفق عبارة ?أصدقاء لا حلفاء أو شركاء، مختلفون لا أعداء?؛ فهي ولئن دعّمت المعارضة السورية في السر والعلن إلا أنها لا تتبناها كاملة ولئن عارضت النظام السوري في العلن على الأقل إلا أنها لا تعلن عليه الحرب ولا تشن ضدّه غارات جوية على الرغم من تحليق الطائرات الأميركية في سماء سوريا. هذا الموقف الاستراتيجي هو الذي يفسّر مسلكيّة ?الغموض البنّاء? الذي تعتمده الإدارة الأميركية حيال الملف السوري والذي يترجم أيضا في ?تضارب? إرادي في التصريحات حيال قضية واحدة. أليس من باب الغرابة أن تعلن وزارة الخارجية الأميركية خلال أقل من شهرين عن ثلاثة تصريحات مختلفة حيال الأسد. التصريح الأوّل تعلن فيه أنه بات جزءا من الحل، والثاني أنّه لا مكان له بعد انتهاء المرحلة الانتقالية، والثالث الأخير أنّها تعمل للإطاحة به ولإسقاطه ولبدء عملية انتقال سياسي من دونه.. وعلى اعتبار أنّ الولاياتالمتحدة الأميركية دولة مؤسسات كبرى ودولة مصالح عظمى فيجدر بالقراءات السياسية العربية البحث في الثابت الاستراتيجي المفسّر للمتحوّل لا الإيهام بأنّ ?الطارئ? و?الاستثناء? يصنعان ?الاستراتيجيا?. خلال الحرب العراقية الإيرانية، كانت الولاياتالمتحدة الأميركية تدعم الطرفين بالسلاح على الرغم من تأييدها المعلن لعراق صدام حسين وفي الأخير شيّدت مصالحها الاستراتيجية مع الغالب، أمّا اليوم في اليمن فهي أيضا تقف عند مفترق الطرق تنتظر المنتصر في حرب الدولة والميليشيات. نفس الأمر تقريبا للوضع في ليبيا حيث تواصل واشنطن سياسة ?الغموض البنّاء? من حيث الشرعية السياسية والعسكرية والانتخابية، وفي مصر تستمر الإدارة الأميركية في دعم الإخوان دون قطيعة مع النظام المصري الحالي أمّا في تونس فالناظر إلى هويّة المحتفلين سنويا بعيد الجمهورية الأئميركية في السفارة الأميركية يدرك أنّ واشنطن باتت الخيط الناظم لمجمل الفاعلين السياسيين والمدنيين في البلاد. وفي كل الحالات سواء انتصرت الشرعيات أو فازت الميليشيات السياسية والعسكرية في الأقطار العربية فخراج انتصارها سيصبّ لدى العم سام..