في وجه «الشينوا» يقف شيخ ستيني مقاوما بمنتوجات المغرب، من أجل البقاء صامدا ورافضا المساومة على متجره لصالح صيني صاحب متجرين يتوسطان متجر الشيخ؛ يقول إنه يرفض كل الاغراءات المالية التي يقترحها الصيني لضم متجر هذا الشيخ المقاوم، ويضيف أن مجموعة من الشركات تعرضت للإفلاس هنا بدرب عمر، والأخرى تحتضر بسبب تجارة يبدو أنها لن تبور، على المدى القريب على الأقل. فلا يكاد بيت مغربي يخلو من منتوجات «الشينوا». «الاتحاد» تأخذكم في جولة بأكبر سوق للجملة بالمغرب، وتكشف لكم أسرار نجاح الصينيين في غزو بيوت المغاربة انطلاقا من العاصمة الاقتصادية للمغرب بشارع «للا ياقوت» في وسط مدينة الدارالبيضاء، تتراءى لك حشود بشرية تسعى جيئة وذهابا، صوب السوق، معالم المعاصرة تتجسد هنا في بنايات شاهقة، بواجهات زجاجية، تحمل أسماء لمؤسسات تبدو مهمة، على طول شارع للا ياقوت الواسع؛ شاحنات تستعد للشحن، وكتل من البضائع على جنبات الطريق الممتد إلى ساحة النصر، كأنك تتجه نحو ساحة معركة ظفر فيها الكل بكثير من الغنائم الثمينة والمتنوعة. على جانب الطريق بضائع مبعثرة على «الفراشة» وأنت تعاين أصحابها يسرعون في بيعها ينتابك إحساس بأنك تعيش أحداث حرب طاحنة في «فيلم طويل» حيث يود هؤلاء المختلفون عن العامة في كل شيء هنا، التخلص من بضائعهم المتنوعة، كأنهم متخلفون عن حرب ما ضارية هناك، وبمساعدة الخونة يحاولون الحصول على بعض المال قبل أن يفروا بجلودهم ومعهم بعض المال. أصحاب «الفراشة» هنا تآلفوا فيما بينهم، فمنهم من يشبهونكم في كل شيء ومنهم من ألفتهم أنظاركم حصرا في أفلام «الجتلي» أو سياحا يستكشفون مكانا ما داخل المغرب، يصيحون بأصواتهم المبحوحة: 40 درهما، 20 درهما، كل حسب معروضاته من البضاعة. «درب عمر» غزاه من يعرفون هنا ب»الشينوا» منذ سنوات، وتفنن التجار الصينيون في أشكال وأثمان المنتوجات المعروضة هنا، وتوغلوا في السوق بطريقة تبدو مدروسة سلفا، فكيف يشتغل «الشينوا» داخل هذا السوق يا ترى؟ وكيف استطاعت سلعهم ولوج بيوت المغاربة؟ البيضاء العاصمة الاقتصادية للمملكة وقلبها النابض، المدينة لا تهدأ نهارا، بل وزلفا//// من الليل، وجهتنا «زنقة الشينوا» بدرب عمر أكبر سوق للجملة بالمغرب من حيث ترويج البضائع، يتواجد هذا السوق على بعد نصف ساعة تقريبا من مركز المدينة، ويعد هذا المركز التجاري الأهم في البلاد. فإلى حدود نهاية الألفية الثانية، كان سوق درب عمر حكرا على التجار المغاربة مسلمين ويهودا الكل يعيش ويتعايش فيه، من كل مناطق البلاد ويحتل فيه التجار من سوس حصة الأسد. قيساريات «الشينوا» على مضض، كما يبدو على قسمات وجوه التجار الذين يدلونك على «الشينوا» هنا، بعد أن ييأسوا من استمالتك لمحلاتهم، يشيرون إليك بعد إلحاحك على محلات الأسيويين أن «الشينوا» موجودين هنا وهناك؛ ونادرا ما تصادف صينيا يتجول وحيدا، إنهم يتحركون على شكل مجموعات. اختار التجار الصينيون مواقع هامة داخل السوق، «زنقة الشينوا» في «درب عمر» موقع استراتيجي بامتياز تحدها شوارع تشكل شرايين مهمة «لكازا»، يتكون هذا الزقاق المستأجر منذ سنوات خلت من مجموعة من المحلات التجارية، هؤلاء التجار متحفظون جدا في الحديث مع المغاربة في مواضع غير موضوع التجارة. نحن الآن نقترب من قيسارية «الشينوا» فتاة تبدو قاصرا شكل هيئتها يحيل على اختلاف بيئتها ومناخ بلدها، وأصولها كذلك، لونها يميل إلى الصفرة، وعيناها جاحظتان تتجه نحونا مبتسمة، تقول بالدارجة المغربية وبلسان مفهوم وإن كان نطقها لا يحترم مخارج الحروف كثيرا: «مرحبا بكم هذا محلكم غاتلقاو عندنا كل ما احتجيتو» مشيرة بيدها النحيلة إلى محلات داخل الزقاق التجاري الصيني أمامنا، يبدو أن هؤلاء التجار درسوا التجارة بعناية تحية الزبون والابتسامة في وجهه بطريقة جذابة خصلة تميزهم عن الكثيرين هنا. «الشينوا» ولغة السوق غير بعيد عن الباب الرئيسي للقسارية، محل شاسع شيئا ما ممتلئ بأشكال من المحفظات المدرسية، سلع موضوعة بعناية وبطريقة جذابة، موجهة للمتعلمين المبتدئين والمتقدمين أيضا، ما إن تلج متجرا من متاجر «الشينوا» حتى يشعروك أهله بالاطمئنان والراحة، إنهم يعون كثيرا القولة الفرنسية المشهورة (الزبون هو الملك)، بل ويعملون بقولتهم المشهورة كذلك (علمني كيف اصطاد سمكة، ولا تعطيني سمكة كل يوم). محمد شاب ذو الثلاثين سنة من عمره، قال إن مستواه الدراسي لا يتجاوز السادسة ابتدائي، حاجة والديه إلى من يعيلهم، جعله يوقف مساره الدراسي، ليدخل إلى مجال التجارة منذ 16 سنة مضت، قال إنه لم ولن يندم أبدا عن عدم استكماله الدراسة، اشتغل في البداية إلى جانب تاجر يهودي مغربي وتعلم على يديه أبجديات التجارة، بنيامين، يقول عنه محمد إنه كان قاسيا شيئا ما، ليستدرك «غير أنه لم يضيعني قط في حقي»، يضيف حتى بعد خروجي من عنده، كنت أزوره من حين إلى آخر، وحتى بعد وفاته أزور ابنه الذي يتولى حرفة أبيه، قاطعه أحد الصينين بالأمازيغية وبالتحديد باللسان السوسي يسأله عنا إن كنا من أهل بلدته؟ ليجيبه محمد بالصينية لم نصدّق أنفسنا، ونحن أمام مستخدم من بلدة نائية، يتحدث وبطلاقة اللغة الصينية طلبنا منه أن يشرح لنا مفاد ما جرى بينهما بعد أن انزوينا في ركن داخل المتجر، فأجابنا بأنه أكد للصيني ما ذهب إليه أي أننا من بلدة محمد وحتى لا نعلق نحن اختار أن يجيبه بلغة أهل بلاد التنين، ويؤكد لنا أن التجار الصينين هنا منزعجون من الصحافة، ويتحاشون الحديث في مواضيع غير التجارة مع أي كان، نجح محمد في تمويه الصيني. في الأثناء يدخل زبون طويل القامة حليق الدقن أجلح (الشعر) أنيق الهندام، يستقبله أحد الصينين ويتحدث إليه بطلاقة وباللغة الفرنسية يبدو أن هذا الزبون معتاد على هذا المحل التجاري، يشرح له الصيني بأن ثمة منتوجا جديدا بهامش ربح كبير وبإمكانه أن يتزود بالكمية التي قد يحتاجها، مع إمكانية دفع النقود على شكل دفعات أو دفعها مع المرجوعات من السلع كما العادة يضيف الصيني. بلمحة من التاجر الصيني، توجها معا إلى ركن داخل المحل ليخرج الزبون من حقيبته التي كان يتأبطها رزما من الأوراق النقدية يبدو المبلغ كبيرا، ربما سيؤدي ثمن بضاعة مؤتمن عليها منذ مدة. سيدة محجبة، لا يظهر منها إلا العينين ترافق صغيريها إلى هذا المتجر بمقربتنا تمر «نيهيكا» مسرعة وهي فتاة قاصر كغالبية الصينيات وعند تساؤلنا عن كون الصينين يستغلون هم أيضا الأطفال في الأعمال الشاقة، أجابنا محمد بكون السيدة في عقدها الرابع وأن ابنها يتجاوز الرابعة عشر من عمره بالإضافة إلى طفلة وما كانت لتقف عندهما لولا أن قانون بلد التنين يسمح بإنجاب أكثر من طفلين، «نهيكا» تسرع في مشيتها تجاه السيدة المنقبة: «مرحبا بك للا محلك هذا» بهذه العبارة وبحسن الاستقبال تتيقن «نهيكا» أنها ستكسب زبناء جددا من ذوي الدخل المحدود قد تأتي بهم السيدة المنقبة، حقائب ومقلمات بألوان جذابة، والتي اتخذت من مشاهير الأفلام الكرطونية أغلفتها الجميلة، تُغري بها أنظار الأطفال، الذين تحار عيونهم في اختيار واحدة من دون أخرى. من طبائع التجار الصينيين هنا أنهم ينهمكون في ترتيب وتنضيف سلعهم، ولا يكثرون الكلام.. لا أدري إن كانوا يخشون لغو الحديث، لكنهم لا يقصرون في حق الزبون، حيث يمنحونه وقتا كافيا، ويتحدثون معه باللغة التي يفضل التحدث بها، وعندما يجدون صعوبات في التواصل مع الزبون يلجأون إلى لغة الإشارة أو لنقل لغة الخشب، حيث يستعملون الإشارات الدالة على جودة المنتوج، كما يشيرون إلى ثمنه المناسب جدا. فحتى البوادي لم تسلم من غزو تجارة «الشينوا» لها، فالصينيون يزودون التجار المتجولون بسلعهم التي يعيد زبناؤهم بيعها بالتقسيط في الأسواق القروية الأسبوعية وفي المداشير أيضا. معروضات الشينوا تكدس محلات «الشينوا» أصنافا كثيرة من السلع منها النعال والألعاب وأدوات المطبخ والأجهزة المنزلية المتنوعة ومواد التنظيف والملابس والأثاث، كل شيء يبدو عاديا في هذه المتاجر باستثناء الأسعار، فالنعال مثلا التي قد يكلف شراؤها 100 درهما في متاجر أخرى، يقل ثمنها عن 60 درهما، في المتاجر الصينية هنا، وقد سبق أن أثارت سلعهم جدلا كونها لا تحترم شروط السلامة المعمول بها دوليا، وخصوصا اللعب المستوردة والتي تشكل خطرا على الأطفال، والشيء نفسه بالنسبة لسخانات الحمامات المنزلية، والتي كانت سببا في سقوط ضحايا كثر. إن تجار الجملة الصينيين يشكلون شبكة تزودهم بكل المعلومات المرتبطة بالسوق، حيث يتبادلون المعلومات حول الأسعار والطلب ومواقع البيع الأكثر رواجا، بالإضافة إلى البضائع المفضلة لدى المغاربة في كل مناسبة على حدة. دفعنا الفضول إلى السؤال عن صاحب متجر داخل قيسارية «الشينوا» بعدما رفضت كريمة (اسم مستعار) الإجابة عن بعض أسئلتنا وهي مجازة في علم الاجتماع ومستخدمة في هذا المتجر فأرشدتنا إلى شاب قصير القامة كث الشعر نحيل البنية بشوش الوجه، يبدو ربما في العشرينيات من عمره، فلا نستطيع الجزم بالقول لكم إن صينيا ما قاصر، يدعى الشاب «نيكوايو» وقد أخذ يسترسل في الكلام قبل أن نسأله وبطريقة تبدو رسمية أكثر منها واقعية، قال إن الناس هنا لطيفون جدا لا مضايقات نحن مندمجون في ثقافة المغرب ونحترم المغاربة كثيرا ونقدرهم، نتعامل معهم في التجارة وفي غير التجارة ولم نحس يوما أن المغاربة عنصريون تجاهنا، منا من أسلم وقد يجد صعوبات عند رجوعه إلى أهله في الصين، هنيئا لنا بأن أسعدنا الكثير بشرائه منتوجاتنا. حاولنا أن نغتنم فرصة شهيقه ونتساءل: لكن الكثير من المغاربة يقولون إن منتوجاتكم ليست جيدة وإن كانت رخيصة؟ يسترسل في كلامه: لو لم ترقهم منتوجاتنا ما كنا لنتواجد هنا الآن، منتوجاتنا جيدة وأثمنتها مناسبة جدا، ونؤدي كل الرسوم، يستدرك منتوجات التجار المغاربة أيضا جيدة وأثمنتها كذلك الشيء نفسه بالنسبة للتجار الآخرين، هذا كل ما يمكنني قوله لكم؛ فلتسمحوا سيدي لي الآن لم تبق لي سوى 10 دقائق أعد فيها للإغلاق.. ثم انصرفنا. نجح الصينيون إذا في إدخال سلعهم المختلفة إلى بيوت المغاربة، استنساخ «ماركات عالمية مصنفة» كما يبدو طبعا بمعايير مختلفة، فسلع «الشينوا» المعروضة في درب عمر أقل جودة، وأرخص ثمنا من مثيلاتها العالمية، ما سهل على التجار الصينيين غزو السوق المغربية، إلا أنهم لم يستطيعوا تغيير واقع رداءة سلعهم. لكن بعد أن أصبح بإمكان المرء أن يجد بضاعة «الشينوا» في كل بيت، لا غرابة في أن يصبح المرء يوما ليجد الصينيين أنفسهم قد احتلوا كل دكاكين الحي.