كنت أزور، كما هي عادتي كلما حللت بالقاهرة عاصمة أرض الكنانة، خان الخليلي والحسين، أستنشق عبق المكان وأستمتع بجماليته، حين اتصل بي الزميل أشرف محمود الكاتب الصحفي في جريدة الأهرام والمعلق التلفزيوني الشهير، وهو يؤكد علي عدم التزامي بأي موعد وبالتواجد في الفندق على الساعة السابعة والنصف من مساء ذلك اليوم الأربعاء الخامس من شهر غشت الجاري،مؤكدا أنه يحضر لي ولرفيقي في رحلة مصر الزميل الحبيب محفوظ رئيس جمعية المحمدية للصحافة والإعلام، مفاجأة سارة. لم يكن يخطر ببالي أن المفاجأة السارة إياها ستكون لقائي برجل أحترم تاريخه وأقدر مساره النضالي في مقاومة الاحتلال الصهيوني.. كان الزميل أشرف محمود يعلم ذلك جيدا، كما كان يعلم أنني لم ألتق اللواء جبريل الرجوب قط، والأمر يتعلق به طبعا. حل الموعد، وتحديدا على الساعة السابعة والنصف مساء، ظهر جبريل الرجوب الرجل الذي كان مثيرا للجدل قبل انعقاد الجمع العام الأخير للاتحاد الدولي لكرة القدم للفيفا.. الرجل الفلسطيني الذي أثار ضجة في عالم كرة القدم وجعل من لعبة رياضية موضوعا مطروحا للنقاش السياسي بين أكبر وأهم الحكومات والشخصيات السياسية في العالم....إنه الفلسطيني الذي طالب وأصر على طرد إسرائيل من الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا). كنت قد اطلعت على مسار وحياة الرجل، ورسمت له في ذهني صورة زعيم عسكري يؤمن بالرصاص والمدافع، ولا مكان في قلبه سوى للقسوة وللعناد وعدم الرأفة أو الشفقة، صورة رجل حازم صارم لا مكان عنده للابتسامة أو الضحك، كيف لا وقد قضى سبعة عشرة سنة في غياهب السجون الإسرائيلية لمقاومته الاحتلال الصهيوني ولمعاركه الطويلة التي خاضها ضد وجود المستعمر وكذا لإلقائه قنبلة يدوية على سيارة عسكرية إسرائيلية. وخلال مدة السجن تلك، درس اللغة العبرية والإنجليزية وقام بترجمة كتاب "الثورة" لرئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق مناحيم بيغن إلى اللغة العربية. بعد إطلاق سراحه من السجن عام 1982 ضمن عملية لتبادل الأسرى تم ترحيله إلى لبنان عام 1988 ثم استقر به المقام في تونس. لكني صدمت وأنا ألتقي بشخص فارع القامة نحيلا، مبتسما محبا للنكت والحكايات والطرائف.. ابن مدينة الخليل التي ولد فيها سنة 1953 في بلدة دورا . وأصدقائي المصريون يقدمون له، انتفض مبتسما : أنت مغربي؟ يا هلا يا هلا أول سؤال تبادر إلى ذهني وأنا أتمعن في ملامح الرجل، كيف لعسكري وأمني أن ينتقل بشكل مفاجئ من عالم الأمن الذي فيه الكثير من العنف والغموض والسرية إلى عالم كرة القدم الذي فيه الكثير من المتعة والتواصل مع الشعوب المختلفة. لم أكن في الحقيقة مضطرا إلى طرح السؤال، فالرجل وما أن استوى على كرسيه في القاعة التي جمعتنا، حتى انطلق في الحكي وفي السرد.. الرياضة هي لغة تواصل عالمية، وأكيد أنه بفضل الرياضة سيرتفع صوت فلسطين وسيسمع بشكل أكبر. قالها مرة صديقه تيسير نصر الله، عضو الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم، في حوار مع جريدة الشرق الأوسط:»إنه (الرجوب) إداري ناجح قادر على توظيف الطواقم بشكل جيد ودقيق وكل حسب إمكانياته.. ميزته أنه يملك كاريزما ومثابر ويأخذ أي تكليف على محمل الجد. عندما كلف بقيادة جهاز الأمن الوقائي تفرغ لذلك بالكامل، واليوم يتفرغ بالكامل للاتحاد الفلسطيني لكرة القدم..أنا أحد الذين كانوا يتوقعون أنه لن ينجح على رأس كرة القدم، قلت كيف سينجح؟ الفرق بين الأمن والرياضة شاسع، الأمن يكرهه الناس والرياضة يحبونها بشغف، لكنه خالف التوقعات، نجح بشكل استثنائي. ظهر جبريل الرجوب فرحا وهو يتلقى نسخة من كتاب " المصريون والرياضة" الذي ألفه مؤخرا الزميل أشرف محمود، وبدا سعيدا وهو يلتقي مجموعة من الصحفيين المصريين وكان باديا أن علاقة صداقة متينة تجمع بين الطرفين. سألته كيف لم يزركم في فلسطين ولو منتخب عربي واحد؟ ابتسم وهو يوجه نظراته للزملاء المصريين: كان من المفروض أن يكون منتخب مصر أو منتخب الأردن أول الزائرين، للأسف لم يحدث ذلك وسننتظر إطلالة أحد المنتخبات العربية. لكن في نظري الشخصي، هل تصدقني لو قلت لك أنني أترقب أن يكون المغرب أول بلد عربي يزور منتخبه الكروي أرض فلسطين ويجري على ترابها مباراة مع منتخبنا؟ طبعا، المغرب بلد تحترمه كل دول المنطقة هنا في الشرق الأوسط، وحتى إسرائيل تنظر للمغرب بنظرة تقدير خاصة. إضافة إلى ذلك، هناك مليون مغربي يعيشون في إسرائيل، صحيح أنهم أصبحوا يحملون الجنسية الإسرائيلية كعرب يهود، لكنهم، وهذا لاحظته في عدة مناسبات، لايزالون يحافظون على عادات وتقاليد المغرب ثقافته وخصوصية المجتمع المغربي، وهم معروفون هنا بطيبوبتهم وميلهم للسلم وحسن التعايش مع الآخرين. إذن، لك علاقات صداقة مع المغاربة؟ أكيد لدي والحمد لله علاقات طيبة وصداقات مع العديد من أشقائنا المغاربة،هنا في فلسطين وإسرائيل، وأيضا في المغرب حيث أتشرف بصداقة الطيب الفاسي الفهري مستشار جلالة الملك محمد السادس، هو رجل طيب جدا وخدوم ومنفتح في أفكاره. تربطني كذلك صداقة متينة مع أندري أزولاي مستشار الملكين الراحل الحسن الثاني ومحمد السادس، وأعرف صلاح الذين مزوار وزير الخارجية، والتقيت في مناسبتين رئيس الحكومة.. عبدالاله بن كيران؟ نعم هو بن كيران. وما رأيك فيه؟ كإنسان، بدا لي رجلا عاديا، وكسياسي فلا أعرف كيف يدبر الأمور هناك في المغرب ولو أني أعتقد أنني أعرف طبيعة تدبيرهم للأمور. تعني الإسلاميين؟ يضحك وينتقل لموضوع آخر.. أعرف أيضا السيدة الفاضلة نوال المتوكل وتشرفنا باستقبالها هنا في أرض فلسطين كنائب لرئيس اللجنة الأولمبية الدولية.. وعن علاقته ومدى معرفته بالرياضة المغربية، قال جبريل الرجوب أن المغرب بلد رياضي يملك تاريخا مشرفا من خلال مشاركاته في مختلف التظاهرات الرياضية العالمية، وطبيعي أن يكون لديناإلمام ومتابعة لمختلف الأنشطة الرياضية العربية ومن ضمنها الأنشطة التي تقام في المغرب. وبنبرة تحمل علامات الأسف، قال الرجوب ردا عن سؤال لماذا لم يقم أي منتخب عربي بزيارة قطاع غزةوالضفة الغربية، أنه يتمنى مشاهدة أحد المنتخبات العربية لكرة القدم فوق التراب الفلسطيني، وأكد بهذا الخصوص أنه تلقى العديد من المقترحات من دول عربية تدعو المنتخبات الفلسطينية إلى إقامة معسكرات تدريبية، لكنه يتمنى بدل أن تقيم منتخبات فلسطين معسكراتها في البلدان العربية، أن تبعث هذه البلدان أحد منتخباتها لفلسطين لإجراء مباراة ستشكل اعترافا ودعما للحركة الرياضية بلفسطين. في هذا السياق، أوضح الرجوب أن المغرب ومصر والأردن هي البلدان العربية التي يمكن أن تحضر لفلسطين لاعتبارات عدة خاصة بالنسبة للموقع الجغرافي لمصر والأردن وقربهما من فلسطين، لكنه عاد ليوضح أن المغرب يظل البلد العربي المرشح للعب فوق التراب الفلسطيني لكونه بلدا لا يحمل حساسيات سياسية مع أي من بلدان المنطقة، ولأن هنالك مليون مغربي يعيشون في إسرائيل وأكيد أنهم لن يترددوا في الحضور للملعب لمتابعة منتخب المغرب. ولم يخف جبريل الرجوب إعجابه بالمغاربة الذين يعيشون في إسرائيل حيث قال أنه وقف شخصيا وعاين كيف يحافظون على علاقاتهم ببلدهم الأم المغرب، وهناك بيوتا لمغاربة في إسرائيل ماتزال تحمل صورا للملك الراحل محمد الخامس. وقال أنه معجب بالمغاربة لأنهم يحافظون على نغس العادات والتقاليد الموجودة بالمغرب، وهم إضافة إلى ذلك أناس مسالمين واجتماعيين. وعن نضاله في الميدان الرياضي وما تحمله فيه من متاعب وصعوبات ومواجهته للعديد من العراقيل في سبيل إرساء أسس الرياضة الفلسطينية، أوضح الرجوب أنه مؤمن بكون الرياضة هي لغة تواصل عالمية، وأكيد أنه بفضل الرياضة سيرتفع صوت فلسطين وسيسمع بشكل أكبر. تحدث جبريل الرجوب بشكل مسترسل لم يكن يترك لأحد فرصة طرح مزيد من الأسئلة، فالرجل حضر كما أكد، تلبية لدعوة أشرف محمود الذي يعتبره من أقرب أصدقائه وجاء ليتسلم نسخة من كتابه الأخير، كما قال أنه موجود في مصر بدعوة خاصة من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي لحضور حفل افتتاح قناة السويسالجديدة. حكى كثيرا عن معاركه منذ أن أصبح رئيسا في سنة 2008، على الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم بعد انتخابه حيث أكد لحظتها أنه في مهمة وطنية و«إن الأمن والرياضة يتقاسمان الأخلاق والقيم». في عهده انتظمت البطولات والمسابقات الفلسطينية وانطلق دوري المحترفين الفلسطيني، كما بدأ دوري النساء، وتطورت البنية التحتية، والمرافق الرياضية، وأعيد بناء الجمعيات والنوادي. بنى الرجوب علاقة متميزة مع جوزيف بلاتر رئيس «الفيفا» النافذ الذي يحب الرجوب أن يسميه «صديق فلسطين». وحصل الرجوب على امتياز الملعب البيتي لأول مرة في فلسطين. في عام 2012 انتخب الرجوب مرة ثانية لرئاسة الاتحاد. في الأشهر القليلة الأخيرة، خلق ضجة كبيرة في الوسط الرياضي العالمي وكذا في عوالم المراكز السياسية، حين شن معركة شرسة مع إسرائيل في الفيفا، مطالبا بطردها من الفيفا، لكنه عاد ليسحب طلب تجميد عضوية إسرائيل. ولأيام طويلة سيطر قرار سحب الرجوب مشروع التصويت على تعليق عضوية إسرائيل في الفيفا، على الشارع الفلسطيني واحتل مساحة واسعة من النقاشات. طبعا كان قرار سحب طلب تجميد عضوية إسرائيل سببا في تعرض الرجوب لحملة غير مسبوقة من الانتقادات والهجوم على قراره والطعن فيه من عدد كبير من الفلسطنيين، لكن للرجل أسبابه ومبرراته، فقد حصلت فلسطين وهي تسحب طلب تجميد عضوية إسرائيل على قرار هام جدا ويعتبر ضربا لإسرائيل وبالأغلبية في مؤتمر الفيفا.. كان القرار يدعو بتشكيل لجنة تحقيق في تصرفات إسرائيل »العنصرية« ضد الرياضة الفلسطينية. عن حصول فلسطين على ذلك القرار، يقول جبريل الرجوب: ما حققناه في اجتماع الفيفا يعتبر إنجازا »تاريخيا«، و»محطة تاريخية ومهمة في تاريخ الرياضة الفلسطينية«. إضافة إلى ذلك القرار، حصلت فلسطين خلال نفس الاجتماع على موافقة إسرائيل على تسهيل تحرك الرياضيين الفلسطنيين. ومن خلال سرده لتفاصيل ما حدث في اجتماع الفيفا، يتبين أن الرجوب نجح وهو يقرر سحب طلب تعليق عضوية إسرائيل من الفيفا، في الحصول على عدة مكاسب مهمة منها ضمان حرية الحركة للاعبين الفلسطينيين والوفود القادمة من الخارج، ووقف 5 أندية إسرائيلية مقامة على أراض محتلة عام 1967، ووقف أعمال التحريض والتجاوزات ضد العرب من مشجعي الأندية الإسرائيلية خصوصا مشجعي نادي بيطار علّيت. كما حصل على موافقة الفيفا بتشكيل لجنة دولية لمتابعة تطبيق تلك القرارات. وفي 2013، شكل بلاتر مجموعة عمل تضمه إضافة لرئيسي الاتحادين الإسرائيلي والفلسطيني إلى جانب رئيسي الاتحادين الأوروبي والآسيوي للعبة لفحص الشكاوى الفلسطينية ومحاولة إيجاد حلول لها. إلا أن رئيس الاتحاد الفلسطيني جبريل الرجوب قال انه فقد صبره، داعياً الفيفا لأن تشهر "البطاقة الحمراء" لإسرائيل. وتتعلل إسرائيل بوجود مخاوف أمنية تؤدي لفرض تلك القيود على الضفة الغربية وعلى طول الحدود مع قطاع غزة الذي تسيطر عليه حركة حماس. لكن إسرائيل قالت إنها خففت من الإجراءات المفروضة على سفر الرياضيين الفلسطينيين بين الضفة وغزة وهو ما يتطلب العبور عبر إسرائيل. وفي الشهر الماضي، سمحت إسرائيل لواحد وأربعين عداء من غزة بالمشاركة في ماراثون في الضفة الغربية بعد أن حرم جميع عدائي غزة من هذه الفرصة في العامين الماضيين. ويقول مركز مسلك الإسرائيلي للدفاع عن حرية الحركة إن إسرائيل منعت سفر 13 رياضياً فلسطينياً آخرين، وكذلك منعت فريق كرة القدم الشاطئية الفلسطيني. في لقائنا معه، رفقة رئيس وأعضاء الاتحاد المصري للإعلام والثقافة الرياضة والزميل الحبيب محفوظ، كان جبريل الرجوب يقطع حديثه بين جملة وأخرى، ليحمل هاتفه النقال وليحدث، كما كان يبدو، شخصا في الجهة الأخرى وتحديدا في فلسطين.. كان الأمر يبدو هاما، ففي اليوم الموالي أي الخميس سادس غشت، كان من المبرمج إقامة مباراة في كرة القدم تجمع ولأول مرة منذ 15 سنة، فريقين واحد من الضفة الغربية والثاني من قطاع غزة. ظل الرجوب طيلة أزيد من ساعة ، يحدثنا تارة، ويعطي تعليماته تارة أخرى عبر الهاتف، فقد كان الأمر يستدعي الجدية حيث يلتقي فريقان بالرغم من الانقسام السياسي والجغرافي، كانت الفرصة كما يقول الرجوب أمام الفلسطينيين لقطع خطوات نحو الوحدة عن طريق إقامة أول مباراة كرة قدم بين نادي من الضفة الغربية وآخر في قطاع غزة منذ 15 عاما. انشغلنا بدورنا بموضوع تلك المباراة، وسيطر الموضوع على تفكيرنا طيلة تلك الساعات التي قضيناها رفقة اللواء جبريل الرجوب، بل وظل تفكيرنا مركزا على تلك المباراة حتى اليوم الموالي رغم انشغال الجميع بالحفل الرسمي لافتتاح قناة السويس. وأخيرا حلت الأخبار ..فقد كتب لتلك المباراة أن تجرى، حيث التقى فريق اتحاد الشجاعية قطاع غزة نظيره الأهلي من الخليل بالضفة الغربية في ملعب ممتليء بالجماهير. وانتهت المباراة بالتعادل السلبي بدون أهداف. فقد وافقت إسرائيل على دخول النادي الأهلى إلى غزة بناء على طلبه، وفقا لمكتب تنسيق الأنشطة الحكومية التابع لوزارة الدفاع الإسرائيلية التي تتعامل مع القضايا المدنية مع الفلسطينيين. وملأ نحو ألفي مشجع، الأغلبية الساحقة منهم من أنصار الفريق المضيف، ملعب مخيم اليرموك، حيث يتم إعادة بناء المدرجات الشرقية بعد أن دمرتها الغارات الجوية الإسرائيلية منذ 15 عاما. ونشر العشرات من شرطة مكافحة الشغب لمنع أي أعمال عنف. لقد تحقق حلم جبريل الرجوب وأقيمت مباراة جمعت فريقين من قطاع غزة ومن الضفة الغربية على ملعب واحد.. إنها محطة البداية كما يقول..