منذ أن وجد الإنسان على كوكب الأرض و هو يصارع من أجل البقاء و الإستمرار و لم الخلود، فكانت مسيرته سلسلة من الانتصارات و الهزائم، من النجاحات و الإخفاقات، تارة يتمرد ضد الأقوى و تارة يمارس بطشه و وحشيته ضد الضعفاء ، لقد كان و لا زال همه الوحيد هو السيطرة و الاستبداد و بأي ثمن. بعد آلاف السنين، عرف الإنسان الاستقرار و خاصة بعد اكتشافه للنار و الزراعة و المواد المعدنية و الكتابة و اقتحامه لمختلف المعارف و فنون العيش، كما لعبت الأديان التوحيدية و الوضعية دورا أساسيا في إعادة الإنسان إلى طبيعته الإنسانية وبعدها الأخلاقي. لكن رغم هذا التطور في مساره ظل وفيا لتناقضاته، يظهر إنسانيته وطيبوبته أحيانا، و يتحول في رمشة عين إلى وحش قاتل بدون رحمة و لا شفقة. إذا هي معركة لمواجهة المسكوت و لفتح نقاش ظل حبيس الأنفاس لأجيال و أجيال. لقد حان الوقت لطرح السؤال : من نحن ؟ من أنا ؟ من أنت ؟ من هو ؟ تقودنا هاته الأسئلة إلى سؤال آخر : و ماذا بعد انتهاء المعركة و انتصار تيار فكري على آخر؟ من ينتصر على من ؟ علما أن الإنتصار في معركة لا يعني الانتصار المطلق. هل بعد الانتصار سيقوم الطرف المنتصر بإلغاء و إقصاء الطرف الآخر و بالتالي أن نتعمد بثر جزء من ذواتنا و أن نعيد الإنتاج نفسه؟ أم أننا سنستفيد من عبر التاريخ و نجلس جميعا على طاولة النقاش و أن نفتح نقدا ذاتيا يتقبله الجميع و يؤسس لعلاقة جديدة بين الأنا و الهو ؟ فمعركتنا لن تكون سهلة و لا عادية. ستخلف ضحايا و علل و أورام. و من أجل خسائر أقل، على المعركة أن تدور في جلباب الفكر و المعرفة. يقودنا هذا إلى تسليط الأضواء على دور المثقف في مجتمعاتنا العربية و الإسلامية و مطالبته بالتراجع عن استقالته و المشاركة في المعركة، فدوره حاسم و جوهري مرتبط أساسا بالنقذ و عملية التفكيك و كلاهما مرتبط بإعادة البناء و التركيب. إذا على المثقف أن تكون له القدرة على تفكيك جدلية الفكر و الواقع، الواقع الاجتماعي و السياسي و الاقتصادي و الثقافي. نعم لقد عرف الإنسان معارك شتى من هذا القبيل، كان أبرزها المعركة التاريخية التي خاضتها أوروبا في أيام اللاهوت و الظلام و الاستبداد ضد اللاهوت الديني فكان لدور المثقف و المفكر الأثر البليغ في بزوغ عهد جديد و تحقيق نهضة تاريخية بعلومها و معارفها و أنوارها، كان عنوانها الكبير إعادة الإنسان إلى إنسانيته و حقيقة ذاته. فالكل يتذكر عبر كتب التاريخ المعارك الطاحنة التي عرفتها اوروبا، كانت فعلا حرب إبادة و عنف و ألم اكتوى الجميع بنارها. و بعد مد و جزر و خاصة بعد الحربين الكونيين عملت اوروبا كل ما في وسعها من أجل التصالح مع ذاتها و التعايش السلمي بين مختلف شعوبها و لا زالت حتى اللحظة تؤسس و تطور فلسفتها هاته من خلال البعد الدلالي للوحدة الأوروبية، لقد كان فعلا عبر السنين و القرون التي مضت دور المثقف واضحا للعيان لكل هذه التحولات. لقد شفيت الأبدان و عادت الذات إلى طبيعتها و تصالحت مع الأنا و الهو بل أصبحت أكثر شفافية و نبل و طهرانية. لقد عاد الإنسان الأوروبي إلى إنسانيته المجالية نسبيا أما نحن فماذا ننتظر ؟ لتحقيق ذلك على المثقفين الواعون بخطورة المرحلة، سواء بالمغرب أو بالعالم العربي و الإسلامي الشروع في فتح نقاش وازن و مسؤول نسافر من خلاله للبحث عن ذواتنا التائهة. كما هو الشأن بالنسبة لإعادة قراءة التراث الديني و تحويل النص المقدس من اليقينيات الراسخة المطلقة إلى نص نسبي يبعدنا عن التقوقع و الوثوقية و الإقصاء المتبادل و يسير بنا إلى فضاءات معرفية واسعة و يدفعنا إلى التنقيب في الأرضيات الدلالية بين خزائن دفينة من المعنى و الحقيقة و الوجود و السيرورة و يعمل على تفكيك جملة الطبقات الفكرية و المخيالية المتراصة و المتجدرة في الممارسة السياسية و التربوية و الاقتصادية و الثقافية. الكلام موجه لبنكيران وأتباعه، و كل الذين يدورون في فلك أفكاره و الذين يتصارعون مع ذواتهم في كل الدول العربية والإسلامية. والذين بقصد أو بغير قصد عطلوا التاريخ لقرون وعقود و وقفوا أمام التطور والتغيير، بذريعة الخوف من المجهول ومن الآخر، لكنهم لا يمكنهم أن يقفوا أمام الحتمية التاريخية و دورانها. إن قصة بنكيران و أتباعه تشبه إلى حد قريب قصة أوديب الذي لم يكن يعلم أنه ضاجع أمه و قتل أباه، و في خضم هذه الأحداث تعرض أبناء رعيته للمصائب و الأمراض، حينها فهم أوديب أنه هو المسؤول عن عذاباتهم بفعلته اللئيمة، ففقأ عينيه و غادر بلدته إلى الأبد. هذا ما ينتظره الشعب المغربي من بنكيران و أتباعه في المغرب، و ما تنتظره كل الشعوب العربية و الإسلامية من حكامها السائرين على نهج و خطى و أدلوجة بنكيران، أن يفقؤوا أعينهم و أن يرحلوا عن السلطة و إلى الأبد. و أن يسمحوا لجيل جديد من الأفكار و النخب و الشعوب بممارسة حرياتها بدون قيود و لا دغمائية و لا إيديولوجية و لا خوف. لقد أظهر أوديب شجاعة خارقة بعد أن عاقب نفسه على فعلته و على الخراب و الدمار الذي سببه لبلدته. أما بنكيران و أتباعه لا أعتقد أن لهم الشجاعة الكافية لفقء أعينهم، و بكل بساطة لأنهم جبناء..... لا تخف يا رئيس حكومتنا الملتحية، فالمغاربة يقدرون الحياة و يحترمونها بكل تفاصيلها، لذا فلن يطلبوا منك فقع عينيك و لكن لهم طلب واحد و يتعلق بالوقوف أمامهم و مخاطبتهم بكل شجاعة و صدق، بأنك فشلت و أتباعك في تدبير السياسات العمومية بالاختباء في جلباب الدين و ملك البلاد و أن تضيف بأن تدبير الشأن العمومي لا يحتاج إلى إيديولوجيات ودغمائيات و دغدغات للعواطف بقدر ما هو محتاج إلى مشاريع متنوعة، واضحة تجيب عن الأسئلة الحارقة للمواطنين، و إلى نخب مؤطرة و قادرة على تفعيلها على أرض الواقع. و بهذا و بعد أن اعترف بنكيران بخطيئته، يواجه المغاربة قائلا: « ها أنا أمامكم أعترف بفشلي و خيبتي و أقدم لكم استقالتي من رئاسة الحكومة، لأنه حان الوقت لأرحل و أعتزل السياسة وألتزم الصمت و أطلب منكم العفو و الغفران. لقد تيقنت الآن بأن زمن الإيتيولوجيا و الارتجال قد اختفى و ولى و بدون رجعة، فسامحوني سامحكم لله.» عفوا...عفوا أستاذ بنكيران، لنكن عقلاء و لنبتعد عن لغة دغدغة العواطف و بكاء التماسيح، فأنت مسؤول عن أعمالك و أفعالك، و المسؤولية كما تعرف مقترنة بالمحاسبة و العقاب، بعيدا عن سياسة عفا لله عما سلف. !»أ...أ.... أ....» يتلعثم بنكيران مندهشا !عفوا..................انتهى الكلام